الشيخ الكفيف: أفتى بالقتل ومات غريباً

الإسلام السياسي

الشيخ الكفيف: أفتى بالقتل ومات غريباً


25/12/2017

أفتى باغتيال فرج فودة، ونجيب محفوظ، والسادات، ثم بالواقعة الأكبر، تفجير مبنى برج التجارة العالمي في الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت فتاواه تلك كفيلة بإيداعه السجن حتى الموت، في مطلع العام 2017، ليعود محمولاً إلى الوطن الأم مصر، التي أذاقها ويلات الإرهاب لعقود، بأفكاره التي اتبعها الآلاف من أبناء الجماعة الإسلامية في مصر، بذرة العنف الأول للجماعات الإسلامية، التي انطلقت منها شرارة الإرهاب، الذي روّع الآمنين، وأهدر دماء الأبرياء والمبدعين، ولم ينجُ منه أحدٌ في الشرق أو في الغرب، حتى لقي الشيخ مصرعه، ليأسف عليه آلاف اجتمعوا في جنازته في مشهد مهيب، يضعنا أمام تساؤل محّير، هل الإرهاب كان صناعة أتقنها النظام السياسي، أم حاضنة شعبية تتنامى مع المجتمعات في ظروف معينة، ويغذيها النظام السياسي حسب نهج ينتهجه مع هذه الظاهرة غير الفريدة؟

الثورة الإسلامية واغتيال السادات

نشأت الجماعة الإسلامية في مصر، في مطلع سبعينيات القرن المنصرم، بشكلٍ سريّ، في الجامعات المصرية، عن طريق توزيع المنشورات والكتيبات الصغيرة، التي تحاول من خلالها بثّ أفكارها في أذهان الطلاب، وتأسيس قاعدة لها، وإيجاد سبل جماهيرية، للعمل المنظم، وكان ذلك نتيجة طبيعية للحرية التي فُتِحت أمام هذه التيارات بعد وفاة الرئيس عبد الناصر، الذي كان عدوهم الأكبر، فقد قيّد انتشارهم، واختار علمَنة الدولة، في الوقت الذي حاربوا فيه من أجل دولة إسلامية، وباءت كلّ أحلامهم بالفشل، ليجتمعوا داخل السجون، ويعيدوا تنظيم أنفسهم من الداخل، حتى جاءت الثغرة التي أعاد لهم السادات من خلالها الحياة من جديد، فأطلقهم على المجتمع المصري، ولم يكن يعلم أنّه يحفر قبره بيديه.

لم يكن مقتل السادات سوى أول جحرٍ في هرم العنف الإسلاموي للجماعة، فالكلّ مستهدفٌ ما داموا يقبلون بحكم دولة الكفر

كان انتشارهم هذه المرة غير محدود، كما كان في البداية، بل اتّسعت دائرة انتشارهم حتى شملت جهاز الدولة التي يحاربونها، بما في ذلك أبناء الأجهزة الأمنية، الذين تحولوا فيما بعد، إلى جند الله لاغتيال عدو الله، الذي كان قبلًا الرئيس المؤمن "السادات"، كما أطلقت عليه الجماعات الإسلامية عقب توليه الحكم في مصر، فكانت مكافأته، في نهاية المطاف، وعلى مسمع ومرأى من العالم، في الاحتفال بذكرى نصر حرب أكتوبر عام 1981، حيث أهدوه عدّة طلقات نارية، أطلقها كلّ من القناص حسين عباس، والضابط خالد الإسلامبولي، حياة السادات، دقّوا بها أول مسمارٍ في نعش الجماعة الإسلامية في مصر.

لحظة اغتيال الرئيس المصري الأسبق أنور السادات

لم تكن نشأة الجماعة الإسلامية مصادفةً؛ بل جاءت بعد سنوات من التراكم الفكري المتطرف لهؤلاء الأشخاص، الذين انحرفوا بأفكارهم، وغالوا فيها، ووجدوا الثغرة التي يتنشرون من خلالها بعيداً عن المركز، في صعيد مصر، في أسيوط وسوهاج وقنا تحديداً، التي أذاقوها ويلات الإرهاب لسنوات عديدة، وكانوا على قناعة تامة بأهمية إسقاط الدولة، وإنشاء دولة الخلافة، والحكم على منهج القرآن والسنة، على حدّ زعمهم، وكان لمثل هذه الأفكار نجوم متألقة في سماء أبناء الجماعة الإسلامية، ومريديهم، وعلى رأس هؤلاء؛ ابن مؤسسة الأزهر، وربيب وزارة الأوقاف، الشيخ عمر عبد الرحمن، الذي كانت فتاواه هي المرجعية الأولى للجماعة الإسلامية، استندوا إليها في تنفيذ عملياتهم، على رأسها اعترافات "قتلة السادات"، أثناء التحقيق معهم، بأنّ الشيخ هو من أفتى بقتل السادات؛ لأنّه كافرٌ خارجٌ عن الملّة، الأمر الذي لم ينفه الشيخ، الذي أُلقي القبض عليه إثر ذلك، وهرب من السجن.

ثم تمّ القبض عليه مرة أخرى، ليحصل على حكم البراءة عام 1984، أثناء حكم الرئيس الأسبق، حسني مبارك، ليكمل نهج العنف الذي أقرّته الجماعة الإسلامية منذ نشأتها.

لا أحد ينجو من سكين الجماعة الإسلامية

لم يكن مقتل السادات سوى أول جحرٍ في هرم العنف الإسلاموي للجماعة، فالكلّ مستهدفٌ؛ المفكر، والأديب، والشرطي، والسائح الأجنبي، حتى المدنيين العُزّل، لا ضير من قتلهم، ما داموا يقبلون بدولة الكفر، التي لا تحكم بما أنزل الله. تابع الشيخ بعد حصوله على حكم البراءة، نشاطه الإفتائي من جديد، وعاد نجم الجماعة ليسطع في التسعينيات من القرن الماضي، باغتيالها المفكر المصري فرح فودة، عام 1992، بأحداث درامية دامية؛ فأثناء خروج فودة من مكتبه بصحبة ابنه، تتبعه ثلاثة أشخاص على دراجة نارية، وفتحوا نيران أسلحتهم عليه، فأصابت رصاصاتهم كبده وأمعاءه، ولم يسلم ابنه منها، فقد أصيب إصابات طفيفة، مات فرج فودة برصاصاتهم، مختتماً حياته بجملة واحدة، "والله ما فعلت شيئاً إلّا خدمة وطني"، وفور إطلاق النار تمكن الأهالي من الإمساك بالقاتل، عبد الشافي رمضان، وتسليمه للشرطة، واعترف في التحقيقات، أنّ أحد أعضاء الجماعة الإسلامية، أبو العلا عبد ربه، جنّده، وأمدّه بالسلاح، وأمره بقتل فرج فودة، وعند سؤاله عن النصّ الذي كتبه فودة واستحقّ أن يقتله بسببه، قال إنّه قتله بناءً على فتوى الشيخ، عمر عبد الرحمن، بقتل المرتد. فردّ المحقق، بأنّه لا يقرأ ولا يكتب، قال: أنا لا أقرأ، ولا أكتب، وأعمل في تجارة الأسماك، لكنّهم قالوا لي افعل، ففعلت. ما أدى إلى اعتقال عبد ربه، وسجنه لمدة 25 عاماً، حتى أفرج عنه الرئيس المعزول، محمد مرسي، خلال حكم جماعة الإخوان المسلمين لمصر، وذهب إلى الجهاد في سوريا، حيث قتل في غارة جوية عام 2017.

المفكر المصري فرج فودة، الذي اغتيل على يد الجماعة الإسلامية

عاش نجيب محفوظ قصةً مشابهة لفودة، بعد ثلاث سنوات من مقتل الأخير، علماً بأنّ أدب محفوظ كان بعيداً تماماً عن الدين، مع ذلك، ثارت الجماعة ضدّه، وكفّرته، وهدرت دمه، بعد منع نشر روايته "أولاد حارتنا"، فتعرّض لمحاولة اغتيال فاشلة، عام 1995، من شخصٍ كان ينوي وضع عبوة ناسفة تحت سيارته، لكنّ خروج محفوظ من مكتبه قبل وصول باقي أعضاء تنفيذ العملية، فاجأ القاتل ودفعه إلى تغيير خطته، فطعن محفوظ بسكين.

دفن الشيخ عمر عبد الرحمن في مصر لم يكن أكثر من لفتة إنسانية، وتعاطف الناس معه كان أمراً طبيعياً

   نقل محفوظ إلى المستشفى، وتم القبض على المتهم، وكشفت التحقيقات التي أجرتها النيابة مع القاتل، مشهداً مشابهاً لمشهد التحقيق مع قاتل فودة، فالمتهم هنا أيضاً، هو شاب ريفي حاصل على شهادة متوسطة، يعمل في مجال الأجهزة الكهربائية، لم يقرأ حرفًا واحدًا لنجيب محفوظ، لكنّه أراد قتله بناءً على فتوى من الشيخ عمر عبد الرحمن، بأنّه كافرُ، ومرتدٌّ، ومعادٍ لدين الله.

الشيخ الضرير تائباً

عام 1993، وقع الشيخ أسيرًا، في قبضة القوات الأمريكية، إثر تفجيرات نيويورك، وحُكم عليه بالسجن الانفرادي مدى الحياة.

وفي أعقاب ثورة يناير عام 2011، تقدّمت أسرته بطلبٍ للعفو عنه، نظراً لشيخوخته، ومرضه بالسرطان والسكري والقلب، علاوة على فقدانه بصره، إلّا أنّ طلبهم قوبل بالرفض.

وقد أعلن الشيخ موافقته على المراجعات الفكرية، التي اضطرت الجماعة إلى إقرارها، عام 1997، بسبب غضب الدولة عليها إثر مذبحة الأقصر المشهورة، التي استهدفت مجموعة من السياح في مدينة الأقصر، وقد تسببت تلك المراجعات التي نبذت العنف بانقلاب أيمن الظواهري وبعض المؤيدين له، وتشكيل تنظيمات مسلحة في دول أخرى. لكن موافقة الشيخ على المراجعات، ودعمه لنبذ العنف، لم يعفه من قضاء بقية حياته في السجن، حتى وفاته في زنزانته، مطلع العام الحالي.

من جنازة الشيخ عمر عبدالرحمن

فقد الشيخ في فترة غيابه بريقه بين أفراد الجماعة، لكنّ ذلك لم يمنع الآلاف من الخروج في جنازته، فقد دفن، في مسقط رأسه، في مدينة الجمالية جنوب مصر، بمشهدٍ مهيبٍ، واحتفاء شعبي كبيرٍ، عبّر عنه القيادي السابق بالجماعة الإسلامية، في تصريحاته لجريدة "المصري اليوم"، قائلاً: إنّ "دفن الشيخ في مصر، لم يكن أكثر من لفتة إنسانية، وتعاطف الناس معه كان أمراً طبيعيًا، بسبب مدة سجنه الطويلة، ومرضه، وفقدانه بصره، كما إنّ سعي الجماعة الإسلامية إلى دفنه في مصر، أضاع الفرصة أمام أيمن الظواهري، والذين تبنّوا العنف في الجماعة، للاصطياد في الماء العكر، وإعادة إشعال الفتن، والتحريض على الجهاد المسلح في مصر".

لقد تناست الشريحة الكبرى من التيارات الإسلامية في مصر، والتيارات التي تحمل صبغة التدين الشعبي، كل الكوارث، الإنسانية والسياسية، التي تسببت بها فتاوى الشيخ، واحتفت بدفنه في مصر، بمشهد مهيب، وتخطّت أفكاره التي انتشرت كالنار في الهشيم في المجتمع المصري، وكيف صنع بفتاويه إرهابيين يمارسون العنف باسم الدين في كلّ مكان، فموقف هؤلاء يضعنا أمام تساؤل كبير:

هل جعلت الجماعات الإسلامية من مصر أرضاً خصبة للعنف فمن لا ينتهجه علنياً يتبنّاه ضمنياً؟!

 

الصفحة الرئيسية