الدين العلماني عند عبدالكريم سروش

الدين العلماني عند عبدالكريم سروش


09/10/2018

يرى محمد عمارة في كتابه "الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية" أنّ المسلمين لا يحتاجون للعلمانية؛ لأن "تراث أمتنا الحقيقي وفكر إسلامنا، كما حفظته لنا منابعه الجوهرية والنقية، ينكران (السلطة الدينية) إنكارهما (العلمانية). فالتمييز -لا الوحدة ولا الفصل- هو صيغة العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام".

الدين الأيديولوجي والدين العلماني

خلاصة رؤية الدكتور محمد عمارة تذهب إلى أنّ الدين الإسلامي دين علماني. هذه الرؤية الأيديولوجية للدين تجد من ينقدها مثل الدكتور عبدالكريم سروش في كتابه "الدين العلماني"، تعريب أحمد القبانجي. يرى سروش أن أدلجة الدين ناتجة عن سوء فهم للعلمانية وللدين الإسلامي على حد سواء. ومن جهة أخرى يعتبرها أيديولوجيا إصلاحية أتت رداً على الاتجاه الصوفي الذي آثر الابتعاد عن الحياة الدنيا وأمور السياسة. والنتيجة "دين أيديولوجي" هدفه "إظهار برنامج الدين موفقاً وناجحاً في إعمار الدنيا"

اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي أم العلمانية.. أين يكمن الخطر الحقيقي؟

الدين العلماني، كما يفهمه سروش "هو الدين الذي يقتبس تعاليمه من الوحي لغرض إعمار الدنيا وتدبير أمور هذا العالم، وهذا المفهوم للدين يتنافى مع معتقداتنا الدينية. فعندما ندّعي أنّ الدين للدنيا والآخرة فنحن عملياً فتحنا نافذة لدخول الأيديولوجيا إلى داخل المفهوم من الدين." ومن معاني الدين العلماني عند سروش أن "يكون الدين خادماً والحياة الدنيا مخدومة؛ أي الدين الذي أريد منه أغراضاً دنيوية وأن يكون خادماً للدنيا وتابعاً لها؛ فالمعيار لحقانية الدين هو مقدار خدمته للحياة الدنيوية للإنسان، وهذا هو معنى مقولة "الدين الأيديولوجي"؛ فالأيديولوجيا لها غرض دنيوي لا أن غايتها هو الدين فقط وفرق شاسع بين هذين الأمرين."

أدلجة الدين وأولوية الدين والدنيا

الدين الأيديولوجي لا هو ممكن ولا هو مطلوب، "أي إنّ أدلجة الدين غير ممكنة أولاً، وثانياً نفرض أنّ هذا العمل ممكن ولكنه غير مطلوب وبإمكانه أن يمسخ الدين!" وذلك للاختلاف بين مفهوم الدين ومفهوم الأيديولوجيا المذموم. "فعندما أقول أن الدين لا يمكن أن يصبح أيديولوجيا فإن مقصودي من الأيديولوجيا هو ذلك المعنى المذموم في أصل هذه المفردة. أي أن يستخدم الدين لخداع الناس وفي خدمة منافع طبقة معينة على حساب الحق والعدل."

يرى سروش أنّ السياسة منفصلة ذاتاً عن الدين لأن المديرية السياسية لها ماهية خاصة لا تكون دينية أو غير دينية

سروش لا يرفض فكرة أن يكون الدين للدنيا والآخرة معاً، لكنه يؤكد على أهمية تحديد الأولوية "أيهما مقدم على الآخر وأيهما خادم وأيهما مخدوم، أيهما الأصل وأيهما التبع؟". حينها يتضح أن الأيديولوجيا (الدينية) "هي أطروحة تجعل من الدنيا الأصل.. بخلاف حقيقة الدين فهو عندما يتحدث عن الآخرة يتحدث عنها بالأصالة وعندما يتحدث عن الدنيا يتحدث عنها بالتبع". يستطرد سروش في شرح هذه المسألة قائلاً: "إنّ الدين ملك مشاع للجميع وقد يكون له تفسير علمي وغير علمي ولكن ليس له تفسير رسمي. أما من يرى من أصحاب العقل الأيديولوجي عدم فصل الدين عن السياسة فإنّ أحد مقاصدهم فرض التفسير الرسمي للدين على المفكرين والمواطنين وجميع أفراد المجتمع وتحويل الموقف إلى حالة سكونية من خلال عدم السماح للفكر أن يتحرك ويطرح علامات استفهام في مسار السلطة الدينية."

والخلاف ليس حول الكلام في أنّ دين الله حق أو غير حق، بل في كيفية صياغة أحكام هذا الدين الحق في قوالب قانونية. فالقانون، كما يقول سروش "أشمل وأوسع دائرة من الأحكام الدينية. فعندما يصل الدور إلى إدارة المجتمع ونظامه السياسي فلا يكون الكلام حينئذ عن الحقانية بل البحث عن المشروعية والعقلانية في ترشيد مسار العملية السياسية."

ينتهي سروش في توضيحه للهدف الحقيقي من الدين إلى أنّ "الغاية الأصلية للدين هي تأمين سعادة الإنسان في الآخرة، وليست السعادة الأخروية تابعة للسعادة الدنيوية بل مستقلة عنها، فالهدف من الدين هو هدف آخروي لا دنيوي.. وهو يعطي حصة للدنيا حتى لا تزاحم الآخرة. وأما اهتمام الدين بالدنيا فإنما يكون في دائرة عدم تعارضها مع الآخرة.. فالاهتمام بالدنيا يأتي بالتبع وبحكم الاضطرار."

اقرأ أيضاً: النموذج الماليزي: هل يمكن أن تكتسي العلمانية ثوباً إسلامياً؟

وبهذا المعنى "لا يوجد برنامج خاص للتقدم المادي والعملي في تعاليم الدين. وليس فيه برنامج للتقدم الزراعي والصناعي وبناء السدود وتعبيد الطرق والصحة والكهرباء"، كما أنه "لا يعني وضع البرامج الاقتصادية والسياسية من قبل الدين كما يتصور أصحاب الدين الأيديولوجي؛ لأن التقدم والتمدن وبناء المدن والمصانع لا تعتبر أساساً من مقاصد الدين الأصلية. ففي هذا العصر يتم التخطيط لإعمار البلاد والنهوض بالاقتصاد والتعليم والصحة والصناعة والتنمية الزراعية وأمثال هذه الأمور باستخدام التدبير العقلاني ولا يحل الدين محل العقل في هذه الموارد ولا يمكن تأطير الدين بإطار أيديولوجي ضيق"، كما أنّ موضوع الفقه هو "الحلال والحرام لا علم التخطيط للمستقبل."

العلمانية والدين عند عبدالكريم سروش

لا يعترض سروش على تعريف العلمانية الشائع: "فصل الدين عن السياسة" ولكنه يعتبره "تعريفاً محدوداً، ولا يستوعب جميع المضمون الكامن في العلمانية". فالعلمانية في تعريفه: "لا تعني سحق القيم وهتك المقدسات أو تقف في مواجهة الدين" لكنها "عبارة عن الاعتراف بوجود مناطق في العالم لا تسمح بنفوذ الإرادة الإلهية إليها". فلا مكان "لقول إن شاء الله في ميدان السياسة" وإدارة شؤون الدولة؛ لأن "إرادة الله لا تمثل أدوات فهم الحدث في هذه المناطق وخاصة في منطقة حقوق الإنسان التي تعد منطقة مستقلة مثل منطقة المنطق". والعلمانية تعني "أن تقف الحكومة على الحياد وتصرف اهتمامها إلى الأمور الدنيوية وتعود إلى محطة ما قبل قبول الدين والأخلاق والفلسفة ولا تحاول إرغام المواطنين على اختيار نظرتها ورأيها.. ففي المجتمع المدني الناس ملزمون برعاية القوانين لا برعاية الأحكام الاجتماعية والشرعية."

سروش: إنّ الدين ملك مشاع للجميع وقد يكون له تفسير علمي وغير علمي ولكن ليس له تفسير رسمي

ويرى سروش أن "السياسة منفصلة ذاتاً عن الدين" لأن "المديرية السياسية لها ماهية خاصة لا تكون دينية أو غير دينية". وهو مع "استخدام المناهج النظرية والعملية والتاريخية في مقام فهم وقبول الدين وتكريس أدوات العقلانية في إطار المنظور الديني للمساهمة في عملية عقلنة الدين وفق مستجدات المعارف والعلوم البشرية مما يساهم في فتح الطريق أمام بلورالية معرفية في دائرة المذاهب والأديان والتي تعد أحد الأركان المهمة في العملية الديموقراطية."

ويذهب إلى أن الجمع بين الدين والديموقراطية أو البحث في الديموقراطية وعلاقتها مع الدين ممكن، لكنه تدبير لا بد وأن يقع خارج دائرة الدين. لأن الديموقراطية "من الأبحاث الكلامية والفلسفية التي تتجاوز أمور الدين والنصوص الدينية." أي أنه لا يمكن الجمع بين الدين والديموقراطية "من خلال الاستدلال بالأحكام والاجتهادات الفقهية من داخل دائرة الدين،" وإنما من خلال تطابق الفهم الديني مع قيم الديموقراطية، "لا أن نتحرك من موقع تطبيق قيم الديموقراطية على فهمنا الديني." بعبارة أخرى لا ينبغي للديموقراطية أن تكون تابعاً أو خادماً للدين. لأن "كشف واستنباط المناهج العادلة للسلطة وتحديد القدرة وتعيين المصاديق القطعية لحقوق الإنسان تعد في المرتبة الأولى ضرورة منطقية ولا بد أن تكون مستوحاة من منبع العقل لا الدين."

اقرأ أيضاً: هل يتعارض الإسلام مع العلمانية؟

ويقول سروش في أكثر من موضع من كتابه إنّ "الاستناد في هذا البحث على المعارف الدينية المستوحاة من النصوص الشريفة لا ينسجم مع المنهج العلمي الذي يستدعيه هذا البحث" لأنّ "الاستشهاد بالآراء الفقهية في البحوث الابستمولوجية والتحقيقات المعرفية لا يزيد الطين إلا بلة وأفق المعرفة إلا ظلاماً"، وعليه فإنّ الباحث في شأن الديموقراطية "بحاجة إلى الصعود من تراب (الدليل) إلى سماء (العلل والأسباب) لأن تعين الحق والباطل والاستغراق في طلب الحق والبراءة من الباطل إنما هو من شأن الأدلة لا العلل، بينما نعتقد بأن المداراة والتحمل واحترام الرأي الآخر وليد العلل ونتيجة الأسباب."

ونفي العلمانية عن الإسلام لا يعني إلحاقه بالروحانية الخالصة، وإنما المقصود أنه لا يتدخل في أمور الدنيا بالمعنى الذي يريده له أصحاب العقل الأيديولوجي. وبهذا يكون الدين عند عبدالكريم سروش ديناً واقعياً لا يتدخل في شؤون الدنيا على نحو مباشر، كما هو الحال في مفهوم الدين العلماني (الأيديولوجي) عند محمد عمارة وغيره. وسروش بتعامله مع التراث من منظور نقدي يعيد النظر في مفاهيم وتصورات كانت بمثابة بداهات فيجعل الدين الإسلامي ديناً علمانياً مغايراً للدين الأيديولوجي.

الصفحة الرئيسية