في تصحيح المفاهيم: لماذا هيمن معنى القتال على الجهاد

في تصحيح المفاهيم: لماذا هيمن معنى القتال على الجهاد


28/01/2018

تخوض الجماعات الإرهابية المسلحة حربا ضروسا ضد المسلمين وضد البشرية جمعاء في هذه المرحلة من التاريخ، حتى أن الصفحات التي تكتب اليوم من تاريخ الإسلام هي صفحات مكتوبة باللون الأسود، وستقرأها الأجيال القادمة على هذا النحو.

وتنطلق كل هذه الجماعات الإسلامية بمختلف تلويناتها في أعمال القتل والخطف والاغتصاب والتفجير وكل عمل مناف للأخلاق الإنسانية من فكرة مشوهة بأنها تمارس الجهاد بمعناه الشرعي، وهي تبني تلك الفكرة على قناعة حمقاء بأنها هي التي تمثل “الطائفة المنصورة” التي يقع على عاتقها واجب نشر العقيدة ومحق الكفر، بينما الآخرون كلهم كفرة ومرتدون، مسلمين وأهل كتاب وأتباع ديانات أخرى في العالم. فهي ليس لديها سوى فسطاطين في الدنيا، فسطاط الإيمان الذي تمثلوه هي، وفسطاط الكفر الذي يمثله غيرها، أي العالم قاطبة.

ويختزل أتباع هذه الجماعات مفهوم الجهاد في القتال وحده، وهم يبررون أعمال التفجير والعمليات الانتحارية وغيرهما من الأعمال القذرة بكتابات من التراث الفقهي الإسلامي، اعتمادا على قياس فاسد كما يقول الأصوليون. فالقتل عندهم أصل، والحياة استثناء، والحرب مع العالم قاعدة والتعايش وضع شاذ يجب الخروج عليه.

وقد تكرست هذه النظرة من خلال الكتابات الفقهية القديمة التي كانت لها سياقاتها وأوضاعها، والتي انحرف الكثير منها في موضوع الجهاد عن الأسس القرآنية والنبوية، حتى صار الجهاد هو القتال، وصار القتال هو العدوان، وتحول العدوان إلى جوهر ثابت في الإسلام عند الجماعات المنحرفة.

وتحفل كتب الفقه الإسلامي بالكثير من الانحرافات عن منهج السلوك الديني والإنساني القويم مع الآخرين، بل إن بعضها يجعل المسلمين في العالم بمثابة جماعة بشرية تعيش على الغزو والغنيمة والفيء والسلب.

ويكفي للاستدلال على هذا الانحراف النظر إلى تفسير ابن تيمية للآية “وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب”، إذ يقول في تعليقه عليها “فمن عدل عن الكتاب قُوم بالحديد، وبهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف”.

ويستشهد بحديث لجابر بن عبدالله قال فيه: أمرنا رسول الله (ص) أن نضرب بهذا -وأشار إلى السيف- من عدل عن هذا، وأشار إلى المصحف”. ويقول العلماء إنه ليس لهذا الحديث أصل، بل إن بعضهم أكد أنه لواحد من أتباع الخوارج، هذا إلى جانب أن الحديث في غاية الغرابة لتناقضه مع سيرة النبي مع المشركين ومخالفته لتعاليم القرآن، وهذه الغرابة وحدها كافية لرده حتى دون توثيقه.

يوجد أصل الانحراف في مفهوم الجهاد المستخدم اليوم بمعنى القتال والإبادة في كتابات الفقهاء القدامى أنفسهم. فنحن نجد أنفسنا أمام ظاهرة غريبة عندما نتصفح كتب الفقه ونقف عند باب السير أو الجهاد فيها، ذلك أنهم ساهموا في تحريف معنى الجهاد لدى المسلمين وتعميم فهم واحد له هو القتال، مع أن القتال هو أدنى أنواع الجهاد، حتى في مؤلفاتهم نفسها.

المفارقة الكبرى أنهم عندما تعرضوا لتعريف الجهاد حددوا له أنواعا ثلاثة، هي جهاد النفس وجهاد الشيطان والقتال، أو الجهاد بالنفس في المعركة، ولكنهم عند التفصيل يقتصرون على النوع الثالث والأخير، ولذلك نجدهم يتوسعون في باب الجهاد توسعا مفرطا يستغرق المئات من الصفحات.

هذا إلى جانب أنهم كانوا يدركون أن القتال هو آخر أنواع الجهاد، بل بعضهم يجعل القتال فقط فرعا عن الجهاد، كما هو الحال لدى ابن قيم الجوزية الذي يقول “ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعا على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كان جهاد النفس مقدما على جهاد العدو في الخارج، وأصلا له”، فهو يجعل جهاد النفس أصلا للقتال وأكبر أنواع الجهاد، ولكننا نجد هذا الأصل الأكبر ضعيف الحضور في كتب الفقه مقارنة بالقتال، الذي توضع له تفريعات وتفصيلات كثيرة، كرست في العقل الإسلامي مقولة أن الجهاد محصور في القتال، وأن القتال محصور في القتل، أي إبادة الآخر.

يبدو أن التفسير الوحيد في رأيي هو أن هؤلاء الفقهاء -الذين كتبوا في قضايا أخرى غير القتال- صرفوا المفاهيم الأخرى للجهاد إلى مؤلفاتهم عن التربية والسلوك، كما هو حال ابن قيم الجوزية نفسه وأبي حامد الغزالي.

ولكن هذا التفكيك في الحديث عن أنواع الجهاد أخل بالقراءة الكلية الشمولية للنصوص الدينية قرآنا وسنة، وعزل التربية عن الجهاد في الفكر الإسلامي طوال تاريخه، فكأن المسلم الذي يوجه إليه الحديث عن القتال ليس هو نفسه الذي يوجه إليه الحديث عن التربية، وهذه نقطة منهجية خطيرة أضرّت بالفقه الإسلامي إلى اليوم.

لكن قد يقال بأن تخصيص باب للجهاد والسير في كتب الفقه ليس المقصود من ورائه عزل القتال عن باقي أنواع الجهاد، بقدر ما هو أمر”تنظيمي” يتعلق بالتفصيل في أمر يهم الإمامة العظمى في الإسلام، ويساعد رئيس الدولة على النهوض بتلك الوظيفة، وأن ذلك التقسيم هو تقسيم “تقني” فقط، لأن الجهاد يندرج تحت قسم الفقه العملي، بينما التربية تندرج ضمن الفقه التعبدي. لكن هذا التبرير ليس صحيحا، فالكثير من الفقهاء يعتبرون الجهاد أمرا تعبديا، بل بعضهم يرتفع به إلى مراتب الإيمان.

بيد أن ما يشد انتباه الباحث وجود حالة من التناقض لدى بعض الفقهاء الذين تطرقوا إلى الجهاد بمعنى القتال، وهذا شأن الغزالي على سبيل المثال. ففي حديثه عن القتال نجده لا يختلف عن الفقهاء الآخرين، لكنه وضع كتبا عدة في التربية والسلوك والتصوف، ضمنها مواقف إنسانية مثل التسامح والمحبة والتواضع والدعوة بالتي هي أحسن، بينما نجده في كتاباته عن القتال شخصا آخر.

نحتاج اليوم إلى تطهير أبواب الجهاد في هذه الكتب الفقهية من النتوءات السلبية التي علقت بها طيلة التاريخ، وإعادة مفهوم الجهاد إلى أصله، كفرع تابع للجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس والجهاد الاجتماعي والاقتصادي والعمل المنتج الذي يعود بالخير على الإنسانية، والصبر على الآخرين وتحمل الاختلاف والإيمان بالإنسانية المشتركة.

ولكي نجدد مفهوم الجهاد الذي أثقلته الظروف التاريخية والقبلية التي كانت ترتكز على الحروب كنشاط اقتصادي وحيد في الماضي، علينا اليوم أن نعيد دراسته بحيث يصبح في الوعي الإسلامي من مهام الدولة ووظائفها الرئيسية، إذ لا يعقل أننا في عصر المؤسسات ما زلنا نتعامل مع موضوع الجهاد كسيف وخيول، ونتسامح مع كتب الفقه التقليدي الذي يرى مشروعية إعلان الجهاد من طرف أي شخص، وأن يكون هناك أمير ولو وُجِد رجلان فقط. فنحن نعيش عصر الدولة الحديثة، لكن أمور الجهاد لا تزال تسيطر عليها مفاهيم القبيلة.

إدريس الكنبوري-عن"العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية