مسلسل "دقيقة صمت" وقفة على روح الوطن

مسلسل "دقيقة صمت" وقفة على روح الوطن


20/06/2019

ليس عصيّاً على الكاتب "سامر رضوان" أن ينتقل من العنف الخانق في مسلسل "ولادة من الخاصرة"، إلى الإنسانية الضائعة بين دهاليز الفساد والسجون السورية، والتي اتخذها الكاتب نموذجاً للأنظمة الاستبدادية في العالم العربي، في العمل الدرامي "دقيقة صمت".

اقرأ أيضاً: "جن": مسلسل متواضع المستوى أثار زوبعة في فنجان

لم يكن "دقيقة صمت" هو المسلسل الأول الذي يعرض قضايا الفساد والسطوة الأمنية في البلدان النامية، لكنه الأكثر جرأة في كشف القليل من القضايا العميقة في اللعبة السياسية والسلطة الأمنية التي تسيطر على غالبية مؤسسات الدولة، كما أنّه أحدث فرقاً لدى المشاهد العربي، ولامس أوجاعه ومعاناته في كافة مجالات الحياة؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية.. الخ، إضافة إلى ذلك، فقد كشف عن ضعف الرؤية الاجتماعية لملامح الظلم والقهر والاستبداد في المجتمعات المتخلفة، والمقارنة العميقة بين الإيمان الأعمى والتفكير.

لمحة عن الأحداث

مسلسل "دقيقة صمت"، الذي عرض في الموسم الرمضاني الماضي، من بطولة الممثل السوري "عابد فهد"، وممثلين آخرين وممثلات أخريات لا تقل أدواهم/ـن عن دور البطولة، منهم: خالد القيش، فايز قزق، رنا شميس، والممثلة اللبنانية ستيفاني صليبة وفادي صبيح، سهيل الجباعي.

لم يكن "دقيقة صمت" العمل الأول الذي يعرض قضايا الفساد لكنه الأكثر جرأة في كشف القليل من القضايا العميقة باللعبة

"أمير ناصر" (عابد فهد) المدافع عن حقوق المظلومين في قرية من قرى اللاذقية، تجبره الظروف على القتل دفاعاً عن امرأة انتهك حقها أحد أبناء مدير الناحية في القرية، فيحكم عليه بالإعدام، وأثناء تنفيذ الحكم يهربه العميد "عصام شاهين" مع سجين آخر محكوم أيضاً بالإعدام، ليعدم مكانهما سجينين آخرين هما شهود على جرائم قامت بها مجموعة من المتنفذين في الدولة، بينما تُقام جنازة لـ "أمير" في قريته، بعد أن أعلنت الدولة موته شنقاً،  فيتنكر لأفضاله جميع أهل القرية الذين رفضوا المشاركة في العزاء.

بالتعاون مع الضابط نفسه الذي اشترك في تهريبه، عاد "أمير ناصر" إلى القرية على شكل وليّ صالح، أعاده الله من الموت.

اقرأ أيضاً: هجمة تحليلية وأفلام إعلانية تطيح بمسلسلات رمضان
"فادي صبيح" (أبو العزم الميكانيكي) صديق "أمير" الذي أنقذه الأخير من يد عصابة التهريب وسرقة السيارات والنصب والاحتيال، هو الوحيد الذي لم ينس ما فعله "أمير" لأجله، فكان وفياً حتى النخاع في الحفاظ على حياة صديقه بعد أن كُتبت له بعد الموت المزعوم.

ما وراء سطور الحكاية

"مثل ما في ناس بتموت فرق عملة، في ناس كمان بتعيش فرق عملة" قالها العميد "عصام" بكل برودة أعصاب حين هرّب "أمير" من السجن، تلك الجملة ترمز إلى عبثية الوجود بين قطبين متناقضين في حياة واحدة، في معادلة الحياة والموت، العدالة والظلم، الخير والشر، والنور والعتمة.
كما ترمز إلى قانون الفاسدين والمفسدين في المجتمعات، يموت المهمشون دون أن يفتقدهم أحد من أفراد المجتمع أو الدولة، التي يجب أن تكفل الحياة الكريمة لجميع مواطنيها، وإذا عاشوا يعيشون في الظل، لا أحد يراهم حتى لو كانوا مدافعين عن حقوق وكرامة كل من حولهم.

قصور الوعي وثقافة الإقصاء في المجتمعات المتخلفة تحاسب كل من هو قريب من المجرم أو مرتكب الخطأ

من يولد في الظل يعيش في الظل، في مجتمعات محكومة بالاستبداد والظلم والقهر، "المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته، لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه، لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته"  حسب تعبير الكواكبي، فالمستبدون يتفننون في الظلم والقتل، كما يتفننون في اغتصاب الثروات الوطنية التي هي ملك لأفراد المجتمع،  "الاستبداد المشؤوم لم يرض أن يقتل الإنسانُ الإنسانَ ذبحاً، ليأكل لحمه أكلاً، كما كان يفعل الهمج الأولون، بل تفنن في الظلم؛ فالمستبدون يأسرون جماعتهم ويذبحونهم فصْداً بمبضع الظلم، ويمتصون دماء حياتهم بغصب أموالهم، ويقصرون أعمارهم باستخدامهم سخرة في أعمالهم"2. فقد عبر المسلسل عن تلك العلاقات الخفية بين الاستبداد والفساد والقمع، فبدت كأنها ثلاثة وجوه لظاهرة واحدة هي العيش تحت خط الحياة.

الحالة الاجتماعية

لم تكن دقيقة صامتة على روح "أمير ناصر" بين أفراد مجتمع القرية، إنما كانت مليئة بالضجيج والجدل بين مؤيد لدفنه في مقبرة القرية وبين الأكثرية المعارضة لذلك، كان الخوف يسيطر على الجميع، ومن بقي محتفظاً بأفعال "أمير" الإيجابية لم يجرؤ على إبداء الرأي، فقط اقتصر الجدل على أصحاب المكانة الاجتماعية (وجيه القرية)، والقوّة الاقتصادية (صاحب الدكان والمشاريع الصغيرة)، والمؤسسة الدينية (شيخ الجامع)، والسلطة السياسية المتمثلة بمختار القرية، كما أنّ القرية ذاتها التي لم يُذكر اسمها في المسلسل؛ مع أنها ترمز إلى قرية من محافظة اللاذقية السورية، لم تكن إلاّ وعاءً لمن فقد هويته الإنسانية تحت مراقبة السلطة السياسية.

اقرأ أيضاً: "دفعة القاهرة": مسلسل ممتع لكنه مخيّب للآمال

قصور الوعي وثقافة الإقصاء في المجتمعات المتخلفة، تحاسب كل من هو قريب من المجرم، أو مرتكب الخطأ، فكل من له صلة قربى أو تجمعه بـ"أمير" علاقة صداقة أو معرفة، كان منبوذاً من أهل القرية بمن فيهم الأطفال.

مع أنّ أحداث المسلسل تدور في حقبة زمنية سابقة للحرب السورية لكن حرب الإنسان على الإنسان أبشع بكثير

أما الإيمان الأعمى الذي غيّر من نظرة أفراد المجتمع تجاه "أمير" بعد عودته من الموت، فقد طغى على التفكير الحر والتحليل والاستقراء، فقد همّ الجميع لبناء مزار له يتبركون ببركته، كما جعلوا منه طبيباً لكل داء، فكان بيته والفسحة التي أمامه تعج بالبشر من قريته والقرى المجاورة، البشر الذين طغت على تفكيرهم الخوارق، ونسوا التفكير العلمي الذي يثبت أنّ في انتهاء عمل القلب تنتهي الحياة.
لم يكن شيخ الجامع "أبو ابراهيم" غافلاً عن التفكير بالدين والعلم على حد سواء، فقد بحث مطولاً وراء تلك الخرافة، لكن السلطة الأمنية كانت السباقة لفشل جميع محاولاته في التقصي والبحث عن الحقيقة، الحقيقة التي تطمسها السلطة بقوتها وجبروتها.

اقرأ أيضاً: هل تجتمع الإنسانية مع العنف في الثقافة العامة؟.. مسلسل الهيبة نموذجاً

التحولات الإنسانية في المسلسل مثيرة للجدل، فقد تحول العميد عصام من مجرم سياسيّ إلى إنسان لا يرغب في إيذاء الآخرين، إلّا أنه انتقم من شركائه في الهروب خارج البلد، من ثم أنقذ "أمير" من براثن السلطة الأمنية بعد أن تأكد من إنسانيته ومحبته للآخرين، رتب له الهروب هو الآخر مع عروسه وولديه من زوجته السابقة فكانت النهاية تحكي حال المواطن السوري، مع العلم بأنّ أحداث المسلسل تدور في حقبة زمنية سابقة للحرب السورية، لكن حرب الإنسان على الإنسان أبشع بكثير؛ فالإنسانية التي لم تفارق لسان فادي صبيح "أبو العزم" "يا إنسان" لكل من يخاطبه، حتى لمن عذبوه في السجن، لم تشفع له من اتقاء شر السلطة والسجن.

اقرأ أيضاً: مسلسل Wild Wild Country: يُسائل الديمقراطية الأمريكية

على الصعيد الفني، تميّز المسلسل بنسيج إبداعي يحاكي نسيج الحياة الاجتماعية والسياسية، وبالأداء الباهر للممثلين والممثلات، وأظهر إمكانات الأسماء الجديدة إلى حد ما؛ وارتقى بها إلى مستوى البطولة، فليس في المسلسل ممثل أو ممثلة لا يستحق أو تستحق صفة البطولة.

الكاتب "سامر رضوان" والمخرج التونسي "شوقي الماجري" أنهيا المسلسل، كما يقول المثل الشعبي "ضربة عالحافر وضربة عالنافر"، بإلقاء القبض على عدد من الفاسدين وهروب عدد آخر منهم.
انتهى العمل بعبارة على لسان "خالد القيش" (العميد عصام) في حواره مع عابد فهد "أمير ناصر" (شايف ورقة الشجر، وين ما أخذها الهوا منلحقها، اشبع من النظر إلى سما بلدنا يمكن ما نشوفها مرة ثانية"، وهذا هو لسان حال السوريين المهجرين والمنفيين والمحرومين من الحياة وهم أحياء.
ثم وقف الاثنان "دقيقة صمت" على روح الماضي كما تقول كلمات الأغنية في مقدمة المسلسل، والتي تلخص كل الحكاية.
"دقيقة صمت" لم تكن إلا وقفة قصيرة على روح الوطن.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية