الحزب الشيوعي السوري.. حين ضيّعنا "السوفييت"

الأحزاب العربية

الحزب الشيوعي السوري.. حين ضيّعنا "السوفييت"


03/06/2019

يعود تاريخ الحركة الشيوعية في سوريا إلى عشرينيات القرن الماضي، وبذلك يمكن اعتبارها من أقدم الحركات الشيوعية في المنطقة العربية، وقد ساهمت تلك الحركة في النضال ضد المستعمر، وسَعَت إلى طرح مشروع تقدمي للنهوض بالأمة، كما واكبت وتفاعلت مع الأحداث الإقليمية والدولية وتأثرت بها، ولعبت دوراً كبيراً على الصعيد الوطني، وشاركت بعد الاستقلال في العملية السياسية، وظلت فاعلة حتى مرحلة الجمود السياسي التي فرضها حكم الحزب الواحد.

اقرأ أيضاً: كيف تحول حزب البعث في العراق من الأيديولوجيا إلى العائلة؟
هذا التقرير يرمي إلى التتبع النقدي للمحطات التاريخية التي مرت بها الحركة الشيوعية السورية والتي تميّز تاريخها المُثبت بالصراعات بين أجنحتها والانشقاقات؛ فأصبح الحزب الشيوعي السوري شيوعيين ومن ثمّ ثلاثة وهكذا.
النشأة والتأسيس
عقب انهيار السلطنة العثمانية ظن المثقفون العرب أنّهم على أعتاب إنشاء الدولة العربية/الحلم، وخلق مجال سياسي متحرر من نير الحكم العثماني، وبالتالي إمكانية اللحاق بركب الأمم المتقدمة؛ وكانت النخبة المثقفة السورية بالأخص على اتصال بالمجتمع الفرنسي ومناخه الثقافي والسياسي، بحكم تعليمها ودراستها، واكتسبت منه أفكارها وتصوراتها السياسية.

اقرأ أيضاً: حزب البعث السوري: تجربة خمسة عقود من الحكم.. ما أبرز التحولات؟
وقد عززت الرغبة بالتحرر والتقدم والتنوير تلك عملية اعتناق الفلسفات والتوجهات التقدمية، في وقتٍ حفّزت ظروف الحرب العالمية الأولى وانتصار الثورة البلشفية في روسيا ميولاً شيوعية في سوريا قبل وجود الطبقة العاملة (الصناعية بشكل خاص) بشكلها الواضح والناضج، وهذه نقطة مهمة لدراسة الفكر الشيوعي في العالم العربي.

 حفّزت ظروف الحرب العالمية الأولى وانتصار الثورة البلشفية في روسيا ميولاً شيوعية في سوريا
تتفق الأدبيات، التي تناولت نشأة الحزب الشيوعي السوري، على أسماء الروّاد الأوائل للحركة الشيوعية في لبنان وسوريا وهم: (يوسف إبراهيم يزبك، فؤاد الشمالي، آرتين مادويان، فوزي الزعيم، ناصر الدين حدَّة)، كما تتفق على اعتبار الصحف المنشورة حينها كانت بمثابة منابر يعرض ويناقش من خلالها المثقفون الشيوعيون رؤاهم وطروحاتهم، فصحيفة "الصحفي التائه" (صحيفة للعمال والبؤساء) لمؤسسها إسكندر رياشي، تعد مثالاً على ذلك، والتي مع خطها الساخر كانت محطاً لكتابات الشيوعيين الروّاد كيزبك.

كان 1939 عام مناهضة الفاشية، وخرج الحزب بمسيرات جماهيرية ببيروت ودمشق وسجَّل موقفه من المسائل الدولية المتفقة مع الموقف السوفييتي

في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 1922 كتب طالب الحقوق المقيم في مصر، صلاح محفوض إلى الصحيفة يحثها للتوقف عن البكاء (لأن الأسماء المستعارة لكتّابها احتوت كثيراً على صفة الباكي) والبدء بالأفعال، وعقب ذلك، بدأ العمل على إنشاء حركة سياسية شيوعية كان أبرز الفاعلين ممن عملوا على تأسيسها العامل فؤاد الشمالي (أحد مؤسسي حزب الشعب والمعلم كما يسميه رفيقه يزبك1 )، كما انطلقت الدعوة لتحقيق مطالب تصب في مصلحة العمال؛ فكتب رياشي مطالباً بظروف أفضل للعمال "المطالبة بيوم عمل يتكون من ثماني ساعات، وحصول العمال على نصيب من الإنتاج، وجود نظام/مؤسسات للتقاعد والتأمين" ولقيت هذه المطالب قبولاً وترحيباً وسط العمال، ومع ذلك، اقتصرت الحركة الشيوعية على أفراد غير منظمين أغلبهم من المثقفين وسليلي أُسرٍ ميسورة الحال.

اقرأ أيضاً: حزب الوسط المصري إذ يدور في فلك جماعات الإسلام السياسي
عام 1924 قَدِمَ إلى لبنان جوزيف بيرجر (يهودي بولندي) تحت صفة مراسل صحفي، وقابل يزبك وأفصح له أنه قادم بصفته مندوباً عن الحزب الشيوعي الفلسطيني، عارضاً عليه تأسيس مكاتب للحزب الشيوعي الفلسطيني في لبنان بتشجيع من "الأممية الثالثة" التي رأت ضرورة وجود حركة شيوعية في سوريا ولبنان2 ، وعُقدت بعد ذلك عدة لقاءات بين المندوب والروّاد في لبنان، وفي هذه الفترة كان هناك مجموعات شيوعية "مثل مجموعة سبارتاكوس" قد بدأت تنتظم ولكن على نطاق ضيّق، وكان للشمالي ومادويان (الشيوعي الأرمني) المساهمة الأبرز في تنظيمها وقيادتها، لكن نقطة الخلاف الرئيسية تمثلت في رغبة اللبنانيين بتأسيس حزبٍ شيوعي لبناني لا مكاتب أو فروع للحزب الشيوعي الفلسطيني.

يوسف إبراهيم يزبك
وهكذا أسس اللبنانيون حزبهم المستقل والذي عُرِفَ باسم حزب "الشعب" وحصل في 30 نيسان (إبريل) 1925 على تصريح قانوني للعمل وحافظ على اتصال وتنسيق مع الشيوعي الفلسطيني الذي داروا في فلكه طويلاً، وحفّزَ هذا التأسيس الحركة العمالية ودفعها للانتظام ضمن اتحادات عمالية مثل اتحاد الحلاقين واتحاد التجار3.

تسبب قرار تصويت السوفييت على قرار تقسيم فلسطين في 1947 إلى وقوع انقسام في الحزب الشيوعي الفلسطيني

في الوقت ذاته، كان بعض السوريين الاشتراكيين يتبنّون الدعوة لتنظيم حركة شيوعية في الشام بالتعاون والتنسيق مع الرفاق اللبنانيين، وكانت الزيارات واللقاءات بين الجانبين جارية على قدمٍ وساق، وتجدر الإشارة إلى صدور صحيفة تحت مسمى "الاشتراكية" في العام 1912 تابعة للجناح اليساري في الحركة الوطنية آنذاك، وكان الترخيص باسم حلمي الفتياني4، وفي هذا السياق ساهم العديد من الأفراد المعتنقين للفكر الشيوعي، بتأثير دراستهم في أوروبا، في نشر هذا الفكر في سوريا ولبنان على السواء.
ويؤكد عبد الله حنا أن ناصر الدين حدَّة ومريده فوزي الزعيم كانا أول من عمل على تأسيس حزب شيوعي في سوريا، وكانت البداية مع مقدم هيكازون بوياجيان إلى دمشق في صيف 1928 ليساهم في تأسيس الجناح السوري وقد نظّم فرقتين شيوعيتين، وكان ناصر حدَّة قد نظّم فرقة أخرى في "النبك" (بريف دمشق)، ويُرجع حنا تعرف حدَّة على الفكر الشيوعي إلى شغفه بالقراءة والاتصالات المتكررة بينه وبين شيوعيي لبنان أثناء دراسته هناك، بالإضافة إلى مراسلات أخيه خالد المقيم في أمريكا اللاتينية والمعتنق للفكر الشيوعي، وقد فعلت تلك التأثيرات فعلها في توجهات الرجل الفكرية، بالإضافة إلى التأثيرات الإقليمية والمحلية والحالة الوطنية التي كانت تسود تلك الحقبة5 .

اقرأ أيضاً: كيف حفّز حزب النور سلفيي الدول العربية على العمل الحزبي؟
وفي عام 1928 انتُدِبَ فؤاد الشمالي بصفته سكرتير الحزب إلى المؤتمر السادس للأممية الشيوعية في موسكو (17 يونيو-30 سبتمبر 1928) وعاد من هناك بثلاثة قرارات هامة: 1- الاستقلال النهائي عن "الشيوعي الفلسطيني" مع استمرار التنسيق في القضايا الكبرى، 2- الانتساب إلى الأممية الشيوعية "الكومنترن" بكامل العضوية، 3- تغيير اسم الحزب، ليصبح "الحزب الشيوعي السوري-فرع الإنترناسيونال"6.
بالعودة إلى حدّة فقد أدخَل إلى الشيوعي السوري كلاً من فوزي الزعيم وخالد بكداش (أحد الأسماء اللامعة في تاريخ الحركة الشيوعية السورية) كما أوعز إلى فرج الله الحلو بتأسيس مجموعة شيوعية في موطنه "جبيل" في صيف 1931، ويكشف هذا الحدث طبيعة التواصل والتداخل بين الرفاق السوريين واللبنانيين.

خالد بكداش
تدعَّم الحزب بانضمام بكداش، الناشط البارز في الحركة الطلابية، إليه، وجلب معه أنصاراً للحزب من الأكراد والعرب (الأكثرية كردية بحكم أن بكداش من خلفية كردية)، وصار "ركن الدين" في دمشق وهو الحي ذي الأغلبية الكردية مركزاً شيوعياً، وبذلك عبَّدَ بكداش، بصفاته القيادية والخطابية ومظهره المهيب، الطريق لنفسه نحو قيادة الحزب الشيوعي السوري، وغدا في أوائل عشريناته الشخصية القيادة الأبرز في الحزب، وسافر لاحقاً إلى الاتحاد السوفييتي لمتابعة الدراسة والتثقيف الحزبي وكوَّن صلات وثيقة مع "السوفييت الكبار"، وعاد بعد ذلك في العام 1937 حيث انتُخِبَ كأمينٍ عام للحزب وفي هذه الحقبة كانت قد وصلت قيادات جديدة إلى اللجنة المركزية واستلمت مواقع الجيل المؤسس، وبقي بكداش في هذا المنصب حتى مماته.

اقرأ أيضاً: حزب التحرير: الخلافة الإسلامية والأسطورة المهدوية
نشير أخيراً إلى أنّ الحزب مرّ خلال هذه الفترة بمراحل عمل فيها مرةً بشكلٍ سرّي وأخرى بشكلٍ علني، وأصدر عدة صحف منها ما استمر كصحيفة "نضال الشعب" ومنها ما أغلقته سلطات الانتداب.
ضد الاستعمار .. مع تقسيم فلسطين
نتيجة للظرف الموضوعي الذي وُلِدَ في ظله، دخل الحزب في صدام عاصف مع الاستعمار وأعوانه في المنطقة، وبعد أشهر على تأسيسه صدر بيان عن لجنة الحزب المركزية يدعم الثورة السورية الكبرى بكل ما للحزب من إمكانيات، والسعي لدى الحركة الشيوعية العالمية لدعمها بكل الوسائل7، وبنفس الوقت اعتقلت السلطات الفرنسية أعضاء قيادية في الحزب وضيّقت على نشاطه، ومع ذلك ظل الحزب ثابتاً على مواقفه الوطنية التي كان أبرزها دعم الكتلة الوطنية خلال مفاوضات الاستقلال، ووقوفه ضد سلخ "لواء الإسكندرون" حيث أقام مهرجاناً ضخماً في اللواء قبيل الاستفتاء أكد فيه على أنّ اللواء جزء لا يتجزأ من سوريا8.

اقرأ أيضاً: التجربة الحزبية عند الإخوان المسلمين: التنظير والعمل السياسي
كان عام 1939 عام مناهضة الفاشية، وخرج الحزب بمسيرات جماهيرية في بيروت ودمشق، بلغ تعداد المشاركين فيها نحو 10,000 شخص، وسجَّل بذلك الحزب موقفه من المسائل الدولية وهي بطبيعة الحال متفقة مع الموقف السوفييتي.
وفي أواخر 1941 عقد الحزب المجلس الوطني الرابع في تشرين الثاني (نوفمبر)، ونشط بحماس في العمل التنظيمي والسياسي والتثقيفي مجدداً، وفي هذا السياق انطلقت مجلة "الطريق" أحد أبرز منشورات الحزب؛ وأُسِسَ في 1942 جمعية "أصدقاء الاتحاد السوفييتي" ورأسها الدكتور كامل عياد9.

الحزب الشيوعي الفلسطيني
بيد أنّ نجاحه التنظيمي سرعان ما أصيب بضربه قاصمة عام 1943؛ حيث انشقت الكوادر اللبنانية وأسست الحزب الشيوعي اللبناني، وأصبح لكل منهما اسمه وعلمه ونشيده ورئيسه وميثاقه الوطني10 ولكن مع الحفاظ على التنسيق فيما بينهما وعلى لجنة مركزية ومكتبٍ سياسي مشترك.
ويلاحظ عبد الله تركماني في دراسته عن الحزب الشيوعي أربع نقاط ميّزت حقبة الثلاثينيات والأربعينيات: 1- نجاح الحزب في استقطاب النشطاء النقابيين، 2- إهمال الفلاحين والمسألة الزراعية، 3- إهمال مسألة الأقليات القومية، 4- قلة الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية عن واقع البلاد السورية واللبنانية، مع ذلك كان الحزب نشيطاً في صفوف الجماهير وبلغ عدد أعضائه ما يقارب من 15 ألفاً، لكن ما حدث في العام 1947 هز الحزب هزاً وهبط بأعضائه إلى بضع مئات11.

قبل تصويت السوفييت على قرار التقسيم كانت مواقف الشيوعيين السوريين ضد الصهيونية، ولكن عقب التصويت حصل ارتباك في صفوفهم

ما حدث 1947، وتحديداً في يوم 29 تشرين الثاني (نوفمبر)، كان أنْ صوَّت المندوب السوفييتي في الأمم المتحدة لصالح قرار تقسيم فلسطين (يبرر البعض هذا التصويت بأن السوفييت قد رأوا بأن من الأفضل للفلسطينيين الحصول على نصف دولة من عدم حصولهم مستقبلاً على أي شيء، لكن هذا التبرير يسقط رؤى بعدية على الظواهر) وهو القرار الذي تسبب في وقوع انقسام في الحزب الشيوعي الفلسطيني حوله إلى حزبين: أحدهما عربي والآخر يهودي، وكان الحزبان حتى ما قبل التصويت متفقين على الموقف من حل الدولتين ويرفضانه بشكل مطلق وهو ما تبرهنه تصريحاتهم ومقالاتهم المنشورة في صحفهم أو في الصحف الدولية12.
قبل تصويت السوفييت على قرار التقسيم كانت مواقف الشيوعي السوري واللبناني ضد الصهيونية ووجودها بالمطلق، ولكن عقب التصويت حصل ارتباك وتناقض في صفوف الشيوعيين العرب هل يذهبون مع ما ذهب له السوفييت؟ (وهم بطبيعة الحال مرتبطين بهم بعلاقة وصاية) فانبرى خالد بكداش بعبارته الشهيرة "السوفييت لا يخطئون" للدفاع عن القرار وتأييده، وبعد أنْ كان للحزب جماهيرية جيدة وسط الناس أدى هذا الموقف لتأليب الرأي العام ضد الشيوعيين ووصمهم بـ"الخيانة" وهوجمت مقرات الحزب في دمشق وحلب وكما هوجمت الملحقية الثقافية السوفييتية في دمشق13.

اقرأ أيضاً: الأحزاب الكردية: صراعات وأحلام تنتظر التغيرات الدولية
وفي 18 كانو الأول (ديسمبر) 1947 حظرت الحكومة على الشيوعي السوري العمل والنشاط، واضطرت قياداته، ممن استطاع التخفي أو لم تطله عتمة السجون، إلى العمل السري حتى العودة إلى العلن من جديد في منتصف الخمسينيات، ولاحقاً لم يصدر عن الحزب إعلان بأن موقفه من تأييد القرار كان موقفاً خاطئاً.
كانت مواقف الشيوعي السوري واللبناني ضد الصهيونية ووجودها بالمطلق

تبعية لـ"الكومنترن"
في بداياته، اتخذ الحزب موقفاً متصلباً من البرجوازية المحلية عرضه في وثيقته الصادرة في 7 حزيران (يونيو) 1931 بعنوان "لماذا يناضل الحزب الشيوعي السوري- غايته القصوى وشيء من بروغرامه" ويصف عبد الله حنا هذا الموقف بأنّه موقفٌ رومانسي؛ لأنّ الحزب قد طرح مطالب غير ممكنة في الواقع، ودعا في نفس البرنامج إلى "الوحدة السورية والاستقلال التام ..وإيجاد جبهة متحدة بين جميع البلدان العربية للنضال والتضامن المشترك ضد الاستعمار"14، وعاد الحزب في المؤتمر الثالث ليعترف بخطأ تقييمه للبرجوازية المحلية والبرلمانية البرجوازية15، لكن مع ذلك لم يظهر على الحزب (جناح بكداش) تغييرات جوهرية في مواقفه من هذه القضية لاحقاً.

اقرأ أيضاً:الأحزاب العربية: خيبات الفرص الضائعة
إلى جانب ذلك كان الحزب معارضاً للنزعات الأقلوية ومؤيداً للعصبية القومية العربية، وبالنسبة لموقفه من الدين فقد أوضحت مخرجات اجتماع زحلة 1934 أن تدخل الدين في السياسة أساس المصائب في البلاد وواجب على الحزب أن يسعى لفصلهما فصلاً تاماً، وأكد بدلاً من ذلك على تآخي كل أبناء المجتمع على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم تحت راية خدمة القضية التي يدعو إليها.
تغيرت بعض مواقف الحزب عقب تبني الاتحاد السوفييتي لموضوعة التطور اللا رأسمالي؛ فتغيرت العديد من المواقف الصلبة التي كان ينادي بها الحزب، فغدا التعامل مع الأنظمة القائمة أمراً مقبولاً بعد أن كسبت صداقة الدولة السوفييتية، كما تغير الموقف من البرجوازية المحلية فلم تعد تلك النبرة الراديكالية هي السائدة عند الحزب.

اقرأ أيضاً: الأحزاب الدينية المصرية بعد ثورة يناير: متى تتجاوز مربع الشعارات؟
وبالنسبة للمسألة القومية يشير ياسين الحافظ في نقده للموقف الماركسي من هذه المسألة إلى أنّ الشيوعيين قد حكمتهم النظرة الدوغمائية نحو نصوص الستالينية، وكذلك واقع تكوينهم الأقلّوي فأنتجوا بذلك مفاهيم تحولت إلى سياج فكري في يد أعداء الوحدة، لتبرير استمرار التجزئة16.
وبعد وفاة ستالين والتغيرات التي حصلت في الاتحاد السوفييتي جرت مراجعة لما أنجزه الحزب خلال المرحلة السابقة، وفي ظل المستجدات الجديدة غيَّرَ الشيوعي السوري بعضاً من ممارساته ومواقفه، فكان أن تحالف مع الأحزاب الوسطية ومع البرجوازيين الكبار أمثال خالد العظم، وصدر في العام 1954 بياناً بالخط السياسي للحزب وفيه عدة مواقف إيجابية ساهمت في إخراجه من حالة الانعزال السابقة17، وساهم كذلك ظرف الانقلابات العسكرية والحركة الديمقراطية في إعادة النشاط للحزب وبروزه على الساحة من جديد، لكن على المستوى التنظيمي لم يغير الحزب من الآليات القديمة واستمر على نهج الأمين العام خالد بكداش وهو ما سيكون له تأثير كبير على بنية الحزب.
بعد وفاة ستالين جرت مراجعة لما أنجزه الحزب خلال المرحلة السابقة

تحدي الوحدة العربية
أتت الوحدة السورية المصرية في نهاية العقد الخامس من القرن الماضي لتضع تحدياً جديداً أمام الحركة الشيوعية السورية، فمن جهة ساهم صعود نظام عبد الناصر في تعزيز القوى التقدمية في المنطقة ولكنه بنفس الوقت كان يضطهد القوى الشيوعية واليسار الراديكالي ويضيّق على الحياة الحزبية والسياسية وحرية التعبير، وقد كان المناخ الديمقراطي والحرية السياسية سائدين بشكلٍ واضح في سوريا، ومع إصرار عبد الناصر على حل الأحزاب لنفسها تخوّف الشيوعي السوري من موقف عبد الناصر من قرار الوحدة 18 بالإضافة لنظرته الخاصة لمسألة الوحدة والظروف الموضوعية والتاريخية التي تتم فيها، فكان رده بتغيِّب الأمين العام (بكداش) عن حضور جلسة التصويت على القرار في البرلمان السوري (يُذكر أن بكداش أول نائب شيوعي عربي يدخل قبة البرلمان في دولة عربية).

اقرأ أيضاً: العراق.. الأحزاب الدينية تُطارد الشباب بتهمة الإلحاد
مع ذلك فإنّ عمر قشاش وهو أحد الأعضاء البارزين في الشيوعي السوري روى بأنّ الحزب اتخذ قراراً بتأييد الوحدة ولكن تغيُّب الأمين العام عن جلسة البرلمان قد خلق نوعاً من البلبلة، إلا أنّ هذا الموقف قلّل من جماهيرية الحزب، وسمح لأعدائه باستغلال الفرصة لتسعير البروباغندا ضده.
لاحقاً غادر الأمين العام سوريا، واستلم قيادة ما تبقى من الحزب السوري مجموعة من الصف الثاني ورفاقاً لبنانيين، واغتيل خلال هذه الفترة القيادي فرج الله الحلو في دمشق بعد انكشاف مخبئه السري، وذوِّبَت جثته بالأسيد، وحُظر الحزب رسمياً حتى العام 1966.
عصر الانقلابات
إحدى المراحل المهمة في تاريخ سوريا مرحلة الانقلابات العسكرية، وفيها وقف الشيوعي السوري بحزم ضد هذه الانقلابات على الديمقراطية والحرية السياسية، كان هذا موقف الحزب حتى انقلاب البعث، فقد وصل إلى الحكم في ظل ظروف دولية وإقليمية معقدة سلطة؛ حيث قدم للعمال والفلاحين مكتسبات ينادي بها الحزب ومُتبنّاة في اجتماعه القومي السادس في 1963 للاشتراكية العلمية ومُعترِفاً بالصراع الطبقي كمبدأ للارتقاء الاجتماعي19  وبنفس الوقت لا تقترب هذه السلطة من حرمة الملكية الخاصة.
أتت توجيهات الاتحاد السوفييتي للشيوعيين بأنّ النُظُم الحالية نظمٌ وطنية تقدمية بالرغم من طابعها العسكري، ولذلك يجب التحالف معها، تبنى الشيوعيون هذا الموقف ومن هذه المرحلة بدأت العطالة الفعلية للحزب الشيوعي الذي كان من مهماته الاستيلاء على السلطة لتصبح مهماته التحالف مع السلطة، لا تغيير المجتمع تغييراً ثورياً.

اقرأ أيضاً: حركة القوميين العرب.. كيف تحوّل التنظيم القومي إلى الماركسيّة؟
كان اليسار الراديكالي في البعث السوري تقدمياً بالفعل ولكن لم يدم اعتلاؤه لكرسي الحكم؛ فقد انقلبت عليه اللجنة العسكرية للحزب التي تمثل اليمين البعثي، وبعد مدة وجيزة أبعد وزير الدفاع آنذاك اللواء حافظ الأسد مناوئيه اليساريين ليستلم حكم سوريا، ويعقد تحالفاتٍ وثيقة مع السوفييت، ويتبنى نظام الحزب الواحد في الحكم، واصطنع "الجبهة الوطنية التقدمية" كإطار للعمل والتنسيق لكل الأحزاب التقدمية السورية.
وبالرغم مما كان يجري من معارضة داخل الشيوعي السوري لنهج الأمين العام خالد بكداش، فقد أصر الأخير على القبول بتحجيم دور الحزب ليغدو عضواً من بين عدة أعضاء داخل الجبهة الوطنية التقدمية (جبهة النصف زائد واحد) بقيادة البعث العربي الاشتراكي.
في هذه المحطة الأخيرة وصل الحزب إلى حالة العطالة التي لم تكن وليدة الحكم المنفرد لحزب أو شخص أو أمين عام بل لسنوات من تراكم الأخطاء وغياب المراجعة النقدية للحزب ودوره في المجتمع، وتجاهل المشاكل الداخلية في بنيته التنظيمية، ولتبدأ مرحلة الانشقاقات التي نعرضها تالياً.
شهد الشيوعي السوري عدة انشقاقات على مدار تاريخه

انشقاقات الوطن الحر والشعب السعيد
شهد الشيوعي السوري عدة انشقاقات على مدار تاريخه؛ ففي عام 1964 صعدت الخلافات الداخلية على السطح وانشق الحزب إلى حزبين: سوري ولبناني، قبلها كان الحزب يتعرض لتسرب وإبعاد عدد كبير من الأعضاء الممتازين لخلافات على آلية إدارة الحزب.
ويشير إلياس مرقص إلى أنه في المؤتمر الثالث للحزب 1969 ظهرت خلافات بين صفوف الحزب فجّرها عاملان: 1- غياب الديمقراطية المركزية داخل الحزب، وعدم عقد المؤتمرات مما غيَّب النقاش والحوار والتثقيف الأيديولوجي، 2- هزيمة حزيران وما طرحته من قضايا خلافية20. وقد حُلّ الخلاف لاحقاً بواسطة سوفييتية وجرت العودة للوحدة التنظيمية.

اقرأ أيضاً: هل كان ماركس وإنجلس جاهليْن بحقيقة الصراع الاجتماعي في الإسلام؟
في بداية السبعينيات صعدت كتلة يقودها رياض الترك رافضةً لسياسات بكداش، وتبادل الطرفان الاتهامات وحاول كل منهما استقطاب الأعضاء البارزين إلى صفّه، واستعان الأمين العام بالرفاق الكبار لفض الخلاف، لكن مع وصول الأسد للسلطة وطرحه الجبهة الوطنية التقدمية كمظلة يعمل تحتها كل القوى التقدمية في سوريا وقبول الحزب الشيوعي السوري بهذا الطرح، وصل الخلاف إلى نقطة اللاحل، وأعلن الترك وتكتله داخل الحزب الشيوعي السوري عن انشقاقه واتخاذه مواقف مناقضة لما اتخذها الشيوعي السوري (الذي بات يُعرف بالشيوعي السوري-بكداش) وأعلنت كتلة الترك معارضتها للنظام الحاكم وأيَّدت الحركات الاحتجاجية الإخوان المسلمين، ولم يعترف النظام بالتنظيم الوليد وتعرضت عناصره لملاحقة أمنية.
ويرتبط الخلاف كذلك بنظرة الحزب للواقع وموقفه من المسائل الراهنة، ففي حين التزم بكداش بالرؤية السوفييتية للواقع السوري وتخفف من الراديكالية الثورية وتحالف مع البرجوازية المحلية، كان التكتل الذي يقوده الترك يحمل رؤية مخالفة تماماً وراديكالية، وإن كان الأمين العام وفريقه يرى أنّها رؤية يسارية طفولية لا تناسب الواقع الحالي وغير عملية.

الانقلابات إحدى المراحل المهمة بتاريخ سوريا حيث وقف الشيوعي السوري بحزم ضد هذه الانقلابات على الديمقراطية والحرية السياسية

ومع كل الوساطات، لم ينجح الفريقان في رأب الصدع وتقريب وجهات النظر، لينشق تكتل الترك، بعد أن خسر قسماً من مؤيديه، وإعلانه تأسيس "الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي" في المؤتمر الرابع الذي عقده في ديسمبر 1973.
أتى الانشقاق الثاني بقيادة مراد يوسف، الذي كان يرى أنّ نمط القيادة في الشيوعي السوري-بكداش، غير صائب، وأنّ القواعد هي من يجب أن تحكم الحزب؛ فخرج من الحزب عام 1979 وشكَّل ما عُرِفَ بـ "منظمات القاعدة"؛ وقد كان الخلاف في أساسه تنظيمي ولم تكن هناك اختلافات جوهرية في المواقف السياسية وظل خطه الفكري قريباً من خط بكداش21 ؛ ففي أزمة بكداش-الترك وقف يوسف إلى جانب بكداش وفي خلاف بكداش-يوسف فيصل وقف إلى جانب بكداش.
لم يُواجه الأسد "منظمات القاعدة" بنفس الحِدة التي وُجِه بها تنظيم الترك، لكن حصل توتر بين النظام والمنظمات حين دعمت الحقوق الثقافية للقومية الكردية 22 وعادت وتراجعت عنها لاحقاً.

اقرأ أيضاً: ما الذي يريده المخربون من قبر ماركس؟
بعد الانشقاقين السابقين عادت إلى الواجهة صراعات بكداش-يوسف فيصل، ففي حين أَمِلَ فيصل الوصول إلى منصب الأمين العام بعد الاتفاقات التي عقدها مع بكداش، تنصل بكداش من الاتفاقات بحجة أنها كانت لدواعي الحفاظ على وحدة الحزب23، لينشق فيصل عن الحزب عام 1984، دون أن يختلف خطه الفكري كثيراً عن الخط البكداشي24، وقد عقد "الفيصليون" من جهتهم في 29 - 31 كانون الثاني (يناير) 1987 مؤتمرهم السادس، وانضم إليه ما يعرف بـ"حركة اتحاد الشيوعيين" التي تضم مجموعة بقيادة يوسف نمر انشقت عن رياض الترك عام 1978 احتجاجاً على منهجه في التصعيد السياسي، وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1991 انضمت إليه كتلة مراد يوسف ومعها حوالى 500 عضو25، وهكذا دخل حزب شيوعي جديد على الساحة السورية باسم الحزب "الشيوعي السوري الموحد".
آخر الانشقاقات عن الجناح البكداشي قام بها قدري جميل عام 2000 وهو لم يترك الحزب فقط بل كذلك العائلة البكداشية (فهو صهر خالد بكداش)، وقد كان الحزب بعد وفاة خالد بكداش، حزباً تقوده العائلة؛ حيث تسلمت زوجة بكداش (وصال فرحة) الأمانة العامة ويعاونها صهرها (قدري جميل) وابنها (عمار)، وبعد انفصال جميل عن العائلة (يربط البعض بين هذا الطلاق على الصعيد العائلي والطلاق على الصعيد الحزبي) أطلق في منطقية دمشق مجموعة عُرفت بـ"قياسيون" وهي ميثاق شرف (يرد فيه احتجاج على عقلية العائلة في إدارة الحزب)، ونادى بتوحيد الشيوعيين السوريين بإعلانه اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين وقد انضم لهذه اللجنة هيئة الشيوعيين السوريين ولكنها خرجت لاحقاً في 2005، وظلت هذه اللجنة تعمل حتى بداية الأزمة السورية، وتحولت بعد ذلك إلى حزب الإرادة الشعبية وأمينه العام قدري جميل.

اقرأ أيضاً: علي الشوك: ماركسي "يقدّس" حرية الفرد!
أما جناح الترك فقد تعرض لعدة انشقاقات أيضاً تتعلق بمواقف ورؤية الحزب؛ فبعد أن دعّم الحركات الأصولية وأيد الحروب الأمريكية أصبح تقييمه كحزب ماركسي-لينيني محط جدل، وكانت أولى الانشقاقات بقيادة يوسف نمر الذي شكَّل لاحقاً ما يعرف باتحاد الشيوعيين والذي عاد واندمج مع حزب يوسف فيصل.
وبعد خروج الترك من السجن وعودة الحزب للنشاط، عقد المؤتمر السادس للحزب في نيسان (إبريل) 2005 ليصبح اسمه حزب الشعب الديمقراطي بتوجهات ليبرالية-اجتماعية ولكن قسماً من الحزب رفض هذا التحول وبقي يعمل بشكل مستقل تحت المسمى القديم.
ولم يسلم حزب الشعب الديمقراطي الوليد من التخبط في مواقفه اتجاه الواقع ولا من الانشقاق، فلقد أظهرت الحرب السورية الأخيرة أزمة الحزب الداخلية، فظهرت الأزمة للعلن في العام 2014 كعقوبات بحق كوادره، بينما اتهم المعاقبون القيادة بالشعبوية والتفرد في القيادة، وهكذا غدا الحزب الجديد حزبان26.


هوامش:

1- دكروب، محمد. (2007). جذور السنديانة الحمراء: حكاية نشوء الحزب الشيوعي اللبناني (1924-1931). دار الفارابي/ط3.
2- حنا، عبدالله. (2012). الأحزاب السورية (1920-1950) ومدى تأثرها بالعامل الأوربي. بحث مدروس في معهد دراسات الشرق.
3- Suleiman, M. W. (1967). The Lebanese Communist Party. Middle Eastern Studies, 3(2), 134–159.
  4- حنا، عبدالله. (2007). المراحل الأولى لظهور الحزب الشيوعي السوري. مقال منشور على موقع الحوار المتمدن.
 5 - حنا، عبدالله. (2012). مؤسس الحزب الشيوعي في دمشق ناصر حدّة. مقال منشور على موقع الحوار المتمدن.
  6- تركماني، عبدالله. (2000). الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي والمسألة القومية من العشرينات وحتى حرب الخليج 1991. أطروحة دكتوراه-جامعة توس الأولى.
 7 - شاهين، إميل. (2015). التكوين التاريخي لنظام لبنان السياسي الطائفي : لبنان السلطة ولبنان الشعب. دار الفارابي.
 8 - الوهب، محمد. (2018). اليسار السوري في القرن العشرين..الحزب الشيوعي نموذجاً. دراسة منشورة على موقع مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.
  9- تركماني، عبدالله. مرجع سبق ذكره.
  10- تركماني، عبدالله. مرجع سبق ذكره.
11  - بطاطو، حنا. (2015). فلاحو سورية: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات-الدوحة. ط1.
12  - Ebon, M. (1948). Communist tactics in Palestine. Middle East Journal, 2(3). 255-269.
13  - Ebon, M. Ibid.
14  - حنا، عبدالله. (2012). مرجع سبق ذكره.
15  - مرقص، إلياس. (1974). قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري. دار ابن خلدون-بيروت. ط1.
16  - الحافظ، ياسين. (1965). حول بعض قضايا الثورة العربية. بيروت. دار الطليعة/ط1.
17  - تركماني، عبدالله. مرجع سبق ذكره.
18  - Ismael, T. (2005). The communist movement in the Arab world. Routledge/New York. 1ed.
19  - الدمشقي، آرام. (2015). حركات المعارضة السورية (1963-2013). دراسة منشورة على موقع سورية حرية.
20  - مرقص، إلياس. (1972). قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري. دار ابن خلدون-بيروت. ط1.
21  - محافظة، علي. (2008). العرب والعالم المعاصر. دار الشروق-عمان. ط1.
22  - كرد، آلان. (2013). المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوري منظمات القاعدة نيسان 1982. مادة منشورة على الحوار المتمدن.
24  - محافظة، علي. مرجع سبق ذكره.
25  - باروت، محمد جمال. مرجع سبق ذكره.
26  - نعيسة، غياث. (2016). الحزب الشيوعي السوري...انشقاقات وانحطاط. دراسة منشورة على الحوار المتمدن.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية