"فقه الموت".. إستراتيجية ثابتة في الفكر الجهادي

"فقه الموت".. إستراتيجية ثابتة في الفكر الجهادي


10/01/2018

منذ أيام قليلة عثر أهالي مركز الطود شرق محافظة الأقصر المصرية على أحد المساجد السلفية أعلى سفح الجبل، وهو مسجد غير تابع لوزارة الأوقاف وعثرت فيه الأجهزة الأمنية على كتب لسيد قطب منها ما لم يكن معروفا، فما الذي أبقى هذا المنظر الجهادي شديد الالتصاق بالجماعات التكفيرية دون غيره من أبناء عصره وفكره؟ الجواب هو أن المتبني للفكر الجهادي يجد نفسه قريبا من هذا المنظّر الإسلامي الذي يقول بأن مجرد وجود الإسلام يعطي الآخرَ فرصة الهجوم عليه، لذلك وجبت محاربته بشكل دائم ومستمر.

يظل سيد قطب اسما بارزا في مدونة الفكر الجهادي داخل بنية الإسلام السياسي العربي، فبعد قرابة ستة عقود على رحيله، لا يزال هذا الرجل يحتل موقعا مركزيا في العدة الفكرية والفقهية لجماعات العنف المعاصرة، ولا تزال كتاباته منهلا خصبا لمنظري هذه الجماعات.

ولا نبالغ إن قلنا إن قطب لم يصغ فحسب المفاهيم الفكرية التي تجد مكانا رحيبا لها في تنظيرات الجهاديين إلى اليوم، بل لقد صاغ حتى المصطلحات الأساسية، إذ هو أول من استعمل مصطلحات من قبيل “الحركة الإسلامية” و”حركة الجهاد الإسلامي” و”الحركة الجهادية” و”الجهاد العالمي”.

ومن خلال قراءة تفسيره الكبير”في ظلال القرآن” -الذي هو في الحقيقة تأملات أكثر من كونه تفسيرا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة- يمكن للباحث أن يرصد أهم الخصائص والمميزات التي تطبع اليوم الحركة الجهادية العالمية.

بيد أن أكبر مساهمة لقطب هي انفراده في مرحلة مبكرة بالتنظير لما يمكن تسميته “فقه الموت”. ونعني هنا بهذا المفهوم الرؤية المتطرفة لفكرة الجهاد بوصفه استراتيجية ثابتة للقتال، بالشكل الذي يجعل سيد قطب حالة خاصة مبكرة في الفكر الجهادي تشذ حتى عن التأصيلات الفقهية التقليدية لمفهوم الجهاد. إن فقه الموت هو ذلك الفقه الجهادي الذي يرى أن الأصل في الدين هو القتال، وينظر إلى الآخر غير المسلم -وعبارة غير المسلم هنا تشمل المسلمين بمقتضى مفهوم الجاهلية الذي صاغه قطب- باعتباره عدوا أو خصما تجب مقاتلته.

لقد رأى قطب أن الجهاد عنصر ثابت في البنية النظرية للإسلام، فهو ما يمنح الإسلام هويته، إذ يقول في “معالم في الطريق” إن “بواعث الجهاد ينبغي تلمسها في الإسلام ذاته ودوره في هذه الأرض وأهدافه العليا التي قررها الله”.

وينفي أن تكون للجهاد أي علاقة بمعنى الحروب كما هي متعارف عليها بين البشر، أي أن الجهاد ليس حربا يتم اللجوء إليها لظروف معينة، كما في حالة الدفاع عن حوزة البلاد أو الرد على الاحتلال على سبيل المثال، على نحو ما نجد عند الفقهاء الذين ميزوا بين الجهاد الدفاعي والجهاد الطلبي ووضعوا لكل نوع شروطه، بل هو حرب مفتوحة على الدوام، انطلاقا من الإسلام نفسه، الذي يفهمه على أنه دعوة إلى قتال الآخرين لإجبارهم على اعتناق الدين.

هذا ما نفهمه من كلامه حين يقول في “الظلال” بأن الجهاد “ملازم لركب الدعوة وليس ملابسة طارئة”، فهو يلغي جميع الأصول التي بنى عليها الفقهاء المسلمون فكرة الجهاد وجعلوه مشروطا بأسباب معينة، أي”ملابسة طارئة”. لكن قطب يرى أن الجهاد أمر ملازم للإسلام ذاته، ويضيف قائلا “إن الذي يدرك طبيعة هذا الدين يدرك حتمية الانطلاق في صورة الجهاد بالسيف”. وهذا أكبر انحراف حصل في مفهوم الجهاد لدى قطب، وتلقفه الجهاديون في ما بعد.

ومن الطبيعي أن هذا الفهم المتشدد لفكرة الجهاد سوف تترتب عليه قضايا أكبر، من تلك القضايا قضية التمييز التي وضعها الفقهاء ما بين الجهاد الدفاعي والجهاد الهجومي، أو الطلبي في الاصطلاح الفقهي.

فمن المعروف أن الكثير من الفقهاء، خاصة المعاصرين، يرفضون مبدأ جهاد الطلب، بل إن بعضهم يعتبره رديف العدوان الذي لا يجيزه الإسلام بأي حال. غير أن هذا التمييز لا مكان له عند قطب، فالجهاد عنده نوع واحد لا نوعيْن، وهذا النوع هو القتال بالسيف، لأن الهدف عنده كما يرى “هو تعبيد البشرية للإسلام” عبر استعمال القوة والعنف.

ومن الشطحات التي نجدها عند قطب في هذه النقطة تفسيره الغريب لمفهوم جهاد الدفع عند الفقهاء. لقد ربط الفقهاء المسلمون هذا المفهوم بغزو البلاد الإسلامية أو احتلالها أو الاعتداء عليها، وهو أمر تنص عليه اليوم دساتير جميع الدول ومختلف المواثيق الدولية، لكن قطب يحرف هذا المفهوم لكي يجعله دفاعا عن الإنسان في وجه كل ما يعيق حريته، سواء كان تصورات جاهلية، أو حكما جاهليا في رأيه.

ويجد في هذا التحريف للمفهوم نوعا من التوسع الذي يسمح له بإلغاء التمييز بين نوعي الجهاد، ويبرر نظرية القتال، إذ يقول “بهذا التوسع في مفهوم الدفاع نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث الانطلاق الإسلامي نحو الجهاد”، ذلك أن الإبقاء على ذلك التمييز بين الجهادين الدفاعي والطلبي سوف يعيق تأصيله لفكرة أن الجهاد “ملازم لركب الدعوة”.

من أغرب المبررات التي يسوقها قطب في الدفاع عن فكرته أن مجرد وجود الإسلام في حد ذاته كاف لدفع الآخرين إلى الهجوم عليه، لذلك فإن الجهاد الطلبي هو نفسه الجهاد الدفاعي، ولا فرق بينهما بل هما واحد.

ويستند هذا التصور العدواني للعالم على مفهوم المفاصلة أو “العزلة الشعورية” الذي أسس له في كتبه، إذ يرى أن الإسلام لا يمكن أن يتعايش مع الآخرين أبدا، فهو إما أن يقضوا عليه وإما أن يقضي عليهم.

ومن الأفكار الأكثر تطرفا، التي تعكس حجم الانحراف الفكري لدى الرجل، عملية القلب التي قام بها بين الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر في الإسلام.

من المعروف أن الحديث النبوي الذي يقول”عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر” يجعل القتال أدنى أنواع الجهاد، ويجعل التربية الذاتية هي الجهاد الأكبر. وقد قلب قطب هذا الترتيب المتعارف عليه وأعطاه تفسيرا موغلا في التطرف والتشدد بشكل غير مسبوق، إذ رأى أن الجهاد الأصغر هو الأصل، أي القتال، وأنه قتال دائم مستمر.

أما الجهاد الأكبر فهو مجرد مرحلة عابرة نحو الجهاد الأصغر الدائم، فهو يقول في “الظلال” بأنه “لا بد من الجهاد، ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير قبل أن يشمل عالم الحقيقة والواقع”. فإذن الجهاد الأصغر ليس ظرفا عابرا تفرضه وقائع معينة، بل حاجة مستمرة يتم الإعداد لها عبر الجهاد الأكبر، جهاد النفس.

إدريس الكنبوري-عن"العرب" اللندنية




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية