إنّ المتابع لحركة الاتجاهات التقنية، بإمكانه أن يلاحظ التحولات المستمرة، في كافة مجالات الطاقة والحوسبة وغيرها، ولكن في بعض الأحيان تظهر تطورات كبيرة وتحدث تحوّلات جذرية حقيقية.
اقرأ أيضاً: الواقع المعزّز: سحر التكنولوجيا الجديد.. ماذا تعرف عن هذه التقنية؟
يشهد العالم الآن ثلاث نقاط تحوّل مشابهة في مجالات الطاقة، الأحياء (البيولوجيا) الصناعية، والحوسبة، ومن المتوقّع أن تتمتع بنفس الطاقة التحوّلية لدفع العالم. قد يصعب توقّع تأثيرها، لكنّ التمعّن بكلّ واحدة منها على حدة سيعزّز رؤيتنا بقرب دخولنا عصراً جديداً، وفق ما نشرت صحيفة "الشرق الأوسط".
الطاقة المتجددة
تتمحور نقطة التحوّل الأولى حول تكاليف الطاقة المتجدّدة. فعندما نشر الرئيس الأمريكي جيمي كارتر ألواحاً شمسية في البيت الأبيض عام 1979. رأى كثيرون في هذه الخطوة مجرّد حيلة للعلاقات العامة. فقد كانت التقنية آنذاك باهظة جدّاً بحيث لا يمكن اعتمادها للتطبيق العملي، وعند تولّي الرئيس ريغان الرئاسة عام 1981. كان نزع هذه الألواح واحدة من أولى خطواته.
يفيد المنتدى الاقتصادي العالمي بأنّ سعر الطاقة الشمسية هبط بشكل كبير في العقد المنصرم، بنحو 90%، وأنّ الرياح وأشعة الشمس تنتجان اليوم طاقة أقلّ تكلفة من الفحم والغاز في أمريكا الشمالية، حتى أنّ تكلفة الطاقة الشمسية توازي نصف تكلفة الفحم في بعض الأجزاء المشمسة من العالم، وهذا التحوّل يعتبر كبيراً.
لا يمكننا إلّا أن نتوقّع مزيداً من الهبوط في أسعار الطاقة المتجددة مستقبلاً في ظلّ الثورة التي يشهدها علم المواد
علاوة على ذلك، لا يمكننا إلّا أن نتوقّع مزيداً من الهبوط في أسعار الطاقة المتجددة مستقبلاً في ظلّ الثورة التي يشهدها علم المواد والتي ستتيح لنا بناء ألواح شمسية وتوربينات هوائية أكثر فعالية. هذا يعني أننا لن نكون قادرين على الاستفادة من طاقة أكثر نظافة فحسب، بل أيضاً سنحصل عليها بتكلفة أقلّ من سعر الوقود الأحفوري، أي أنّنا سنكون أمام نعمة إنتاجية هائلة.
ولكنّ النقطة العالقة الوحيدة تبقى تقنية البطارية التي لا تزال باهظة جداً. ففي حال لم نتمكّن من تخزين الطاقة التي تولّدها المصادر المتجددة لاستخدامها في غياب الشمس الساطعة والرياح النشطة، سنظلّ بحاجة إلى الوقود الأحفوري لسدّ هذا النقص. ولكن هنا أيضاً، يمكننا الحديث عن تقدّم ملحوظ سينتج لنا حلّاً خلال عقد من الزمن.
ثورة بيولوجية
أما التحول الثاني مرتبط بتصاعد علم الأحياء (البيولوجيا) الصناعية، إذ شكّل استكمال مشروع "الجينوم البشري" عام 2003 حدثاً استثنائياً توّج عقوداً من التقدّم البشري، وفي إنجاز آخر اكتشفت العالمة جينيفر دودنا عام 2012 ما يعرف بتقنية "كريسبر" أو التكرارات العنقودية المتناوبة منتظمة التباعد في الحمض النووي، والتي سرّعت تقنية التعديل الجيني.
ولكن الرئيس التنفيذي لشركة "هيومن جينوميكس" الناشئة والمتخصصة في إنتاج علاجات عمادها الفيروسات للسرطان، أندرو هيسيل، رأى أنّ الثورة الحقيقية ستحصل عندما تتجاوز قيمة الجينومات المتسلسلة تكلفة إنتاجها. ويعتقد هيسيل أننا بدأنا بالوصول إلى نقطة التحوّل هذه، خاصة أن بيئة الأدوات الضرورية لهذا الإنتاج بدأت بالنضوج والتسارع.
اقرأ أيضاً: تعرف على أهم التوجهات العلمية والتقنية في 2018
يقود الانتقال من مجرّد قراءة هذه الجينومات إلى كتابتها، هذا التحوّل. فقد منحنا مشروع الجينوم البشري القدرة على معرفة الوظيفة الدقيقة لجينات محدّدة. وفي حال تمكنا من تحديد الجين الذي يسبب السرطان مثلاً، سنصبح قادرين على تطوير علاجات تستهدف هذه الطفرة المحدّدة بدل تصنيف الورم حسب مكان وجوده في الثدي أو غدّة البروستاتا أو غيره.
ومن خلال استبدال الجين المصاب بالطفرة بآخر صحيح، سنتمكّن من شفاء أمراض تهلك ملايين الأشخاص. كما يمكننا أن نفبرك مواد، كتلك المستمدّة اليوم من الوقود الأحفوري، أو حتى استخدام الحمض النووي لتخزين البيانات.
يفيد المنتدى الاقتصادي العالمي بأنّ سعر الطاقة الشمسية هبط بشكل كبير في العقد المنصرم بنحو 90%
تشكل نقطة التحوّل الثالثة بداية النهاية لقانون مور، (وهو قانون استند على ملاحظة أن عدد الترانزستورات الموضوعة داخل رقيقة إلكترونية يزداد مرتين كل سنتين تقريباً)، إذ تمثل تطوّر التقنية الرقمية المحرّك الأوّل في دفع التقدّم في مجالي الطاقة والأحياء الصناعية. بحيث تتيح لنا أجهزة الكمبيوتر والخوارزميات الأقوى، التوصل إلى اكتشافات أقلّ تكلفة.
فعلى سبيل المثال، يستخدم "مشروع المواد" في مختبر لورنس بيركلي الوطني الكومبيوترات الخارقة لمحاكاة الخصائص الفيزيائية للمواد، وللتوصّل إلى احتمالات جديدة أسرع بمئات المرّات.
أما شركة "سيترين إنفورماتيكس"، فتستخدم خوارزميات التعلّم الآلي لتحليل قواعد بيانات المواد. يتولّى هذا النوع من التقنيات قيادة الثورة في مجال تخزين البيانات.
اقرأ أيضاً: بانوراما 2018: تعرف إلى أبرز 7 إنجازات تقنية
يبدو واضحاً أنّ المستقبل لن يكون رقمياً. ولضمان استمرار التطوّر في العقود المقبلة، سنعتمد على هندسات كومبيوترية جديدة مثل "الحوسبة الكوانتية" والرقائق الشبيهة بالشبكات العصبية الدماغية. بدورها، لا تتطلّب هذه التقنيات الحاجة إلى آلات جديدة فحسب، بل إلى لغات كمبيوتر ومقاربات خوارزمية جديدة.
عصر جديد من الابتكار
مع كلّ الأهمّية التي تتمتّع بها الثورة الرقمية، تصبح باهتة جداً عند مقارنتها بالابتكار الذي أوصلت إليه نقطة التحوّل التي اصطدمنا بها عام 1920. حين قادت الطاقة الكهربائية ومحركات الاحتراق الداخلي ازدهاراً إنتاجياً دام لخمسين عاماً، مقابل نشاط إنتاجي نسبي قدّمته لنا الحوسبة الرقمية بين نهاية التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة.
لهذا السبب، يجب أن نشعر بالتفاؤل من فكرة أنّ الاختراقات التقنية الجديدة في مجالات كالطاقة والأحياء الصناعية، دون أن ننسى علم المواد، متجذّرة في العالم الحقيقي وليس الافتراضي. وبقدر ما نشعر بأن الهواتف الذكية اكتشاف عظيم، يجب ألا ننسى أنّه لا يمكننا تناولها، أو الحياة فيها، أو ارتداءها.