
منذ أن تحقق وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، يعاني الفلسطينيون من تداعيات هذا الوعد المشؤوم على حياتهم ومستقبلهم، واليوم وبعد مرور أكثر من (10) عقود، يأتي وعد ترامب الذي يهدف إلى منح اليهود كامل فلسطين وتهجير السكان الأصليين. ففي الوقت الذي عبّر فيه السكان في قطاع غزة عن ارتياحهم بوصول الرئيس ترامب إلى سدة الحكم، ووعوده بوقف الحرب على غزة باعتباره الرجل القوي والقادر على فرض الشروط والضغوط على إسرائيل لوقف حرب الإبادة، سرعان ما انقلب هذا الترحيب والارتياح إلى جحيم بالنسبة إليهم، بعد الأطماع الخفية التي بدأ يكشف عنها ترامب، والتي يهدف من خلالها إلى إرضاء إسرائيل واليمين المتطرف بتهجير سكان غزة.
وفي أكثر من مناسبة كرر الرئيس ترامب دعواته بتهجير سكان قطاع غزة، وفي آخر تلك التصريحات، وليس نهايتها، أعلن ترامب عن نية الولايات المتحدة السيطرة على قطاع غزة ودعا السكان إلى المغادرة، وذلك في تصريحات خطيرة ومتهورة، أثارت حالة من الاستغراب على المستوى المحلي والعربي، من تداعيات مثل هذه التصريحات والخطوات على القضية الفلسطينية.
واللافت هنا أنّ السياسة الإجرامية التي اتبعها الجيش الإسرائيلي خلال الحرب على قطاع غزة، من عمليات التطهير العرقي وإبادة السكان وتدمير منازلهم، كان كل ذلك مقدمة للبدء في خطوات التهجير للسكان، وهذا ما بات واضحاً من حجم الدمار المخيف الذي تكشف في أعقاب الهدنة، فقد مسح الاحتلال مدناً كاملة ودمّر كل مقومات الحياة، في خطوة تمهيدية لتهجير السكان وجعل قطاع غزة منطقة غير قابلة للسكن.
وخلال الولاية الأولى للرئيس ترامب، أجج حالة من الغضب في أوساط الفلسطينيين، بعد سلسلة قرارات اتخذها ضدهم، ومنها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، والبدء بإعداد مخطط لتهجير سكان غزة تحت ما يُسمّى صفقة القرن، لكنّ انتهاء ولايته آنذاك وفشله في تولي الحكم، أجهضت كل المخططات، واليوم وبعد عودته إلى البيت الأبيض، يضع على جدوله السياسي صفقة القرن من جديد، وبدأ يصرح علناً بنيته تهجير السكان في غزة، وتحقيق حلم اليمين الصهيوني المتطرف بطرد سكان غزة وعودة الاستيطان.
ووفق صحيفة (وول ستريت جورنال)، فإنّ دبلوماسيين مقربين من الرئيس ترامب، وصفوا خطة ترامب بشأن غزة بأنّها محيرة ومجنونة، وتعتمد تلك الخطة على تفاصيل غامضة لم يكشف عنها بعد، ولكنّ الخطة في مجملها تحتاج إلى تكلفة ضخمة من المال والقوات الأمريكية التي ستعمل على الأرض لتطبيق الخطة.
وقد أدانت مؤسسات حقوقية دولية تصريحات الرئيس الأمريكي المتهورة بحق الفلسطينيين، والتي دعا فيها إلى مغادرة الغزيين قطاع غزة وسيطرة الولايات المتحدة عليه. واستنكرت الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب، التي أجج خلالها حالة من الغضب والقلق في صفوف الفلسطينيين، الذين قدموا طوال فترة الصراع كل ما يملكون من أجل الصمود، وحرمان الاحتلال من تحقيق أطماعه في فلسطين، واليوم يأتي ترامب ليدعم فكرة التهجير بدلاً من إنهاء الاحتلال، والعمل على حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
هذه التصريحات أثارت غضب المواطنين في غزة، الذين لم يفرحوا بعودتهم وتوقف شلال الدم بعد عدوان استمر على مدار عام ونصف عام، ومن ثم جاءت تصريحات الرجل المتهور لتنغص على السكان حياتهم، وتثير الخوف والقلق بينهم من المصير المجهول الذي ينتظرهم، سواء كانت غزة ستعمّر بعد الدمار، أو مخطط التهجير الذي سوف يمضى قُدماً، ويخسر الفلسطينيون وطنهم. ويعوّل الفلسطينيون في غزة على الدور المصري في رفض كل ما يطرح من مخططات، كون مصر بوابة الغزيين على العالم، ويحاول ترامب ممارسة الضغوط على المصريين للقبول بفكرة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، وقد نظم وجهاء ومخاتير قطاع غزة قبل أيام قليلة مسيرة حاشدة على مفترق السرايا وسط مدينة غزة، قدموا خلالها الشكر لموقف مصر الرافض لكل المشاريع التي من شأنها تصفية القضية وتهجير السكان من غزة.
حال السكان في القطاع يزاد سوءاً يوميّاً، في ظل منع الاحتلال توفير المقومات الحياتية اللازمة، وبات يخيم على المواطنين القلق من تعمد الاحتلال فرض مزيد من القيود لإجبارهم على الهجرة الطوعية، فأخبار الحرب والهدنة سرعان ما غابت عن حديث المواطنين، وباتت تتصدر تصريحات ترامب حديثهم الآن، كون أنّ هذا الرجل متهور، وغالباً ما تتحقق دعواته.
في أحاديث منفصلة مع (حفريات) عبّر وجهاء ومخاتير عن بالغ استيائهم من تجديد الرئيس ترامب فكرة تهجير السكان في غزة، وفتح شهية الاحتلال الإسرائيلي لبدء تنفيذ مخططاته لإفراغ القطاع من سكانه الأصليين، ويقول رئيس لجنة وجهاء ومخاتير منطقة جنوب غزة مصطفى أبو صلاح: إنّ الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وأطيافه السياسية يرفض كل مخططات التهجير الأمريكية والإسرائيلية، الهادفة إلى طرد، ليس سكان غزة فقط بل الضفة الغربية وعرب الداخل إلى خارج فلسطين، ونحن الشعب الفلسطيني إلى جانب أحرار العالم، كما صمدنا خلال حرب الإبادة أمام مخطط التهجير، سنواجه أيّ مخطط قادم لتفريغ قطاع غزة.
وأضاف: إننا في قطاع غزة نوجه الشكر والتحية إلى القيادة المصرية والشعب المصري، في ظل الوقفة المشرفة التي يخوضونها للوقوف أمام مخططات التهجير، التي يحاول ترامب الضغط على المصريين من أجل تسهيل مرور تلك المخططات، والتي تواجه برفض قاطع، كما نطالب الأردن الشقيق، قيادةً وشعباً، بالوقوف أمام تلك المخططات الخبيثة والإجرامية التي تمارسها إسرائيل وأمريكا ضد الفلسطينيين، موضحاً أنّ على الإدارة الأمريكية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بدلاً من تهجيرهم، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
في سياق ذلك يقول الكاتب والمختص في الشأن الإسرائيلي شريف السيد: إنّ "البرنامج السياسي الذي أعدته إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطير ومتهور على كل الأصعدة، ويثير حالة من الغضب، سواء فيما يخص موضوع غزة أو القضايا الدولية، التي بدأت تشهد احتجاجات وتتخذ إجراءات ردّاً على تصريحات ترامب بشأنها مثل كندا والمكسيك".
وأشار في حديثه لـ (حفريات) إلى أنّ "ترامب شخصية خطيرة بالنسبة إلى الفلسطينيين، فهو يتماشى مع أهداف اليمين الإسرائيلي المتطرف ومخططات توسعة الاستيطان والتهجير، فخلال ولايته الأولى قبل عدة أعوام، سعى لتهجير سكان غزة إلى شبه جزيرة سيناء ضمن ما يُعرف بصفقة القرن، لكنّ الفلسطينيين أحبطوا المخطط بصمودهم وهبّتهم الشعبية، ومن جديد يحاول ترامب تأجيج الأوضاع وإحياء الصفقة مرة أخرى".
ولفت إلى أنّ "تصريحات ترامب الأخيرة سيكون لها تداعيات مقلقة على سير مفاوضات صفقة التبادل والهدنة المؤقتة في غزة، بالتحديد المرحلة الثانية من الصفقة المزمع انطلاقها خلال أيام قليلة برعاية الوسطاء، حيث من شأن إعادة طرح فكرة التهجير نسف جولة المفاوضات للمرحلة الثانية، وبالتالي عودة الحرب مجدداً على غزة".
وأوضح أنّ "المطلوب حاليّاً هو إنهاء الانقسام الفلسطيني، وترتيب البيت الفلسطيني، وتشكيل حكومة موحدة لمواجهة كل المخططات التي تُعدّها إسرائيل وأمريكا، مستغلة حالة الانقسام والفوضى الداخلية، وهذا هو الحل الوحيد الذي من شأنه وقف تلك المخططات التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية".