هل كان قراقوش ظالماً ومعتوهاً؟!

هل كان قراقوش ظالماً ومعتوهاً؟!

هل كان قراقوش ظالماً ومعتوهاً؟!


13/08/2020

يمثل الكاريكاتير السياسي الآن، أبرز وأسرع وسائل إيصال ما يهجس به الناس لصانعي القرار. ومن نافل الحديث التنويه بأنّ الحرية هي الشرط الذي لا يمكن للكاريكاتير السياسي أن يستغني عنه؛ لأنه يقتات على المبالغة الشديدة والسخرية المرّة حتى يوصل الرسالة المقصودة بالطلب.

ومع أنّ الكاريكاتير السياسي قد اتسع حتى لم يعد مقتصراً على وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل تجاوز هذه كلها باتجاه المسرح الكوميدي ووسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنّ له أصوله الأدبية الراسخة في كثير من الثقافات، وهي أصول تفصح على نحو مبكّر، عن خطورة ركوب هذا الضرب من النقد المركّز. وقد أكدت سِيَر ومصائر غير قليل من أعلامه -وخاصة في الوطن العربي- مأساوية المآلات التي عمّدها ناجي العلي بدمائه المسفوحة.

يمثل كتاب "الفاشوش في حكم قراقوش" أنموذجاً لما يمكن أن يجترحه المثقف إذا جُرح؛ فتراه يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً

ومن الصعب أن يُذكر الكاريكاتير السياسي العربي، دون أن يقفز لأذهاننا رائد هذا الفن بلا منازِع، وأعني به الأسعد بن ممّاتي ( ت 606 هـ ) من جهة، والضحية السياسية الأولى لهذا الفن وأعني به القائد الأيوبي قراقوش ( ت 597 هـ ) من جهة أخرى. ولعل قمة السخرية في هذا الاستدعاء، تتمثل في أنّ كلاً من الرائد والقائد قد كانا نموذجين للعصامية والإنجاز !

أما الأسعد بن ممّاتي، فهو من كبار موظفي الدولة الأيوبية على امتداد عقود متعاقبة، وقد ورث هذا الامتياز بجدارة عن آبائه وأجداده الأقباط الذين أخلصوا للدولة الفاطمية، حتى إذا بسط صلاح الدين الأيوبي سلطانه على مصر، سارع الأسعد لإشهار إسلامه وهو شاب في العشرين، ثم أظهر  من الإخلاص للأيوبيين ما أهّله لتبوّؤ أخطر المناصب الإدارية والمالية.

اقرأ أيضاً: إخوان الصفاء: فلاسفة أم سياسيون؟!

لكن تمكّن الصّفي بن شكر من الوصول إلى منصب الوزارة في عهد السلطان العادل -وكانت العلاقة بينه وبين صاحبنا متوترة جداً في الديوان السلطاني- سرّع بإخراج الأسعد من العمل الذي أتقنه هو وآباؤه، ما جعله يشعر بحنق شديد جرّاء هذا التنكر، وراح يستحث قريحته الثقافية التي أجمع كل من ترجموا له على علوّها وخصوبتها ؛ فهو لغوي وناثر وشاعر مجيد. وسرعان ما جادت عليه هذه القريحة الثرّة، بفكرة التعريض والتشهير بأبرز قادة صلاح الدين الأيوبي العسكريين والإداريين، ولسان حاله يقول: إذا كنتم قد أخرجتموني من مناصبي الخطيرة التي طالما نهضت بها خير نهوض وأظهرتموني بمظهر العاجز الفاشل، فسوف أفضح قصوركم وبلادتكم من خلال المبالغة في تصوير استبداد أنجح رجالات الدولة الأيوبية وحماقته! وحتى يضمن ذيوع كاريكاتيره بين الناس، فقد سطّره باللهجة العامية، واختار له عنواناً جاذباً (الفاشوش في حكم قراقوش)!!  فاشتهر وانتشر مثل انتشار النار في الهشيم.

اقرأ أيضاً: هل بُدئت الكتابة بعبد الحميد وخُتمت بابن العميد؟!

وأما القائد قراقوش؛ أي العُقاب في اللغة التركية، فهو أبرز مماليك صلاح الدين الأيوبي الذين اشتدوا في مطاردة فلول الفاطميين في مصر. وقد جمع بين الشجاعة العسكرية والحزم الإداري، إلى درجة أنّ صلاح الدين الأيوبي قد أطلق يده في مصر وخصّه بشرف حُكم عكا بعد تحريرها من الفرنجة، ناهيك بأنّ كثيراً من الآثار العمرانية والزراعية في القاهرة بخاصة وفي مصر بعامة، هي من إنجازاته الإدارية الإصلاحية. وقد أنصفه المؤرخون والمترجمون فأجمعوا على حسن سيرته وحزمه وعدله.

ومع أنّ الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه الأمثولة أكثر من أن تحصر، إلا أنّ في مقدورنا التأشير على أبرزها؛ كالتنويه مثلاً بأنّ كتاب (الفاشوش في حكم قراقوش) مثّل استعارة كبرى للتنديد بموظفي الدولة الأيوبية الذين اشتدوا في تحصيل الضرائب من المصريين لتمويل المواجهة العسكرية الطاحنة التي كان صلاح الدين الأيوبي يخوضها ضد الفرنجة في بلاد الشام. ومما يؤكد وقوع هذا الاشتداد استطراد الرّحالة الموثوق ابن جبير في وصف تعسّف موظفي جمارك الاسكندرية في استخلاص أموال حجّاج المغرب والأندلس!

اقرأ أيضاً: الثقافة العربية المُشَظّاة.. ابن المقفع وابن هارون نموذجين

ودون أن نستبعد حماسة فلول الفاطميين لترويج كتاب الفاشوش بين الناس نكاية بصلاح الدين ومملوكه الصارم، فإنّ الكتاب يمثل أيضاً نموذجاً لما يمكن أن يجترحه المثقف إذا جُرح؛ فتراه يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، وإذا بقراقوش ينفصل عن صورته الحقيقية التي توارت في كتب التاريخ والسير والتراجم ويغدو أسير صورته الخيالية المبتكرة المفتعلة، إلى درجة أنّ هذه الصورة ستصبح سيفاً مصلتاً  بأيدي الغاضبين في كل زمان ومكان؛ يشهرونه في وجه كل مستبد وأرعن.

السياسي المتسبّب بمحنة المثقف ينجو غالباً من التشهير؛ تخوّفاً من بطشه أو تحرّزاً من الاتهام بشخصنة الصراع!

ومن جهة ثالثة، فإنّ الفاشوش لا يعفي ابن ممّاتي من مسؤولية المشاركة في الممارسات الإدارية والمالية القاسية التي اكتوى بها المصريون في العهد الأيوبي؛ لأنه كان يتربع على سدّة عدد من الدواوين الريعية، بل إنّ الكتاب يدينه؛ لأنه سكت عن كل هذه الممارسات ولم يجأر بالشكوى منها، إلا بعد أن عُزل وسجن وطورد وصودرت أمواله وأملاكه، على نحو يذكرنا بكثير من المسؤولين العرب المعاصرين الذين لم يطب لهم الالتحاق بصفوف المعارضة السياسية إلا بعد عزلهم، فكان لسان حال منتقديهم والمشككين في مصداقية تحولهم المفاجئ يقول: ولماذا لم تنطلق ألسنتكم بالنقد وأنتم في مواقع المسؤولية؟ أم أنّ شهوة البقاء تحت الأضواء بأي ثمن جعلتكم مهووسين بالجمع بين مجد السلطة وبريق المعارضة؟!

وفضلاً عن أنّ عواصف السياسة وتقلباتها، يمكن أن تودي بمصداقية حاكم حازم ومثقف مرموق في آن واحد، لأسباب لا تتجاوز حدود النكاية والإمعان في التنكيت والتبكيت، فإنّ السياسي المتسبّب بمحنة المثقف ينجو غالباً من التشهير؛ تخوّفاً من بطشه أو تحرّزاً من الاتهام بشخصنة الصراع! لأن من دفع ثمن النكاية المودعة في الفاشوش هو قراقوش وليس الصفي بن شُكر، ومن تعرّض رصيده الثقافي الوافر لغمز الغامزين هو ابن ممّاتي الذي لم يجد مانعاً بعد هذا كله من اللجوء إلى الملك الأيوبي الظاهر في حلب، وأن يستظل بظلّه الظليل، حتى وافته المنيّة بعد سنوات قليلة !


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية