من أبرز جنايات الإيديولوجيا والإيديولوجيين على الأدب العربي، ذهابُ غير قليل من الباحثين، إلى الزعم بأنّ الصعاليك في العصر الجاهلي، قد مثّلوا حركة ثورية اشتراكية على شيوخ القبائل الذين كانوا يحتكرون الزعامة السياسية والسيطرة الاقتصادية والسلطة الأخلاقية، إلى درجة الادّعاء بأنّ هؤلاء الصعاليك قد بلغوا حد استيعاب مفهوم إعادة تقسيم الثروة؛ فصاروا يغيرون على الغني ويسلبونه ما يحتاجه الفقير !
من أبرز جنايات الإيديولوجيا على الأدب العربي ذهابُ باحثين إلى الزعم بأنّ الصعاليك في العصر الجاهلي مثّلوا حركة ثورية اشتراكية على شيوخ القبائل الذين كانوا يحتكرون الزعامة السياسية والسيطرة الاقتصادية والسلطة الأخلاقية
ونظراً لأن هذا التعميم تنقصه الشواهد الوافية، فقد بادر هؤلاء الباحثون إلى التذرّع بأنّ الصعاليك كانوا يتخيّرون أهدافهم؛ فلا يغيرون إلا على من عُرِف بالغنى والبخل في آن واحد! كما بادروا إلى الإعلاء من شأن أربعة صعاليك استثنائيين هم: السُّليك بن السُّلكة وتأبّط شرّا والشّنفرى وعروة بن الورد، رغم ما يكتنف سِيَر الثلاثة الأوائل من علامات الاستفهام والغموض بل والاستنكار أحياناً.
اقرأ أيضاً: الحشّاشون الذين اغتالوا خصومهم وأرعبوا الناس
من نافل الحديث طبعاً، القول بأنّ (الصعلكة) كانت تعني، ابتداء، الفقر المُدقع، ثم تطورت دلالتها الاجتماعية والثقافية واتسعت في العصر الجاهلي، حتى اختلطت بصفات من صاروا يُنسبون لها؛ مثل الخلعاء الذين طردتهم قبائلهم لكثرة جناياتهم وتجاوزاتهم أو الذُّؤبان الذين نُعتوا بذلك لسرعتهم في الركض واضطرارهم للعيش منفردين في الفلوات الموحشة أو اللصوص وقطّاع الطرق الذين مثّلوا الغالبية العظمى وأفادوا من التعاطف الذي استأثر به كبار الصعاليك .
وحتى لا تظل هذه المصادرة معلّقة في فضاء التعميم، فيسعدني أن أعضدها بالحجج التالية :
أولاً: لا نذيع سراً إذا قلنا إنّ تصاعد (المدّ القومي اليساري الاشتراكي) في الوطن العربي، إبّان الأربعينيّات والخمسينيّات والستينيّات، وما ترتب عليه من تصاعد المنهج الواقعي في الأدب، لم يخلُ من سلبيات الفهم أو التفسير الميكانيكي للفلسفة الماركسية بوجه عام وللمادية التاريخية ومبادئ الديالكتيك بوجه خاص؛ فراح ضحية هذا التعسّف في التفسير والتحليل والاستنتاج، غير قليل من الظواهر الأدبية التي جرى تطويعها قسراً لهذه المقولة أو تلك، جرّاء الرغبة أو الحاجة لمساوقة التوجّهات السياسية الرسمية التي سادت بعض الأقطار العربية في الخمسينيات والستينيات وظلت تمارس تأثيراً ملحوظاً على منهجيات البحث حتى تسعينيات القرن المنصرم .
اقرأ أيضاً: هل كان قراقوش ظالماً ومعتوهاً؟!
ثانياً: إنّ الاعتماد على الغزو والغارة والسلب والسبي لتأمين القدرة على مواصلة العيش، لم يقتصر على الصعاليك وحدهم، بل امتد ليشمل معظم قبائل العرب في العصر الجاهلي، إلى درجة أن بعض هذه القبائل قد اشتهرت بذلك مثل قبيلتي هُذيل وفَهم اللتين كانتا تخيّمان على تخوم مكة والطائف، وقد أنجبتا العديد من الصعاليك المعدودين .
ثالثاً: إنّ الاستقراء الوافي لمجمل أخبار الصعاليك في العصر الجاهلي، يؤكد أنّ أغلبهم كانوا مجرمين وقُطّاع طرق تحرّكهم غريزتا القتل والنهب اللتان أحرجتا قبائلهم فاضطرت لطردهم وهدر دمائهم، ما يجعل الزعم بأنّهم بادروا للتخلّي عن قبائلهم جرّاء إحساسهم بانتفاء العدالة الطبقية الخ ... مغالطة واهية وسخيفة .
اقرأ أيضاً: إخوان الصفاء: فلاسفة أم سياسيون؟!
رابعاً: رغم وجود بعض روابط القربى أو السكن أو الاقتداء بين عدد قليل جداً من الصعاليك، إلا أنّ الاستقراء الوافي لمجمل أخبارهم، يؤكد أنهم كانوا شراذم متفرقة جداً وكثيرة، وأنّ غريزتي الخوف وصراع البقاء هما اللتان كانتا تربطان بين أفراد كل شرذمة على حدة، ما يجعل الزعم بأنّ الصعاليك مثّلوا ظاهرة أو حركة مَسُوقَة بأهداف أو غايات عليا مشتركة، ضرباً من التعنت المضحك .
إنّ الاستقراء الوافي لمجمل أخبار الصعاليك في العصر الجاهلي، يؤكد أنّ أغلبهم كانوا مجرمين وقُطّاع طرق تحرّكهم غريزتا القتل والنهب اللتان أحرجتا قبائلهم فاضطرت لطردهم وهدر دمائهم
خامساً: رغم أنّ سِيَر الصعاليك الثلاثة الأوائل لا تخلو من ومضات أخلاقية مؤثّرة، وكل هذه الومضات مضمّنة فقط في أشعارهم التي نُسبت إليهم، إلا أنّ تتبع وتحليل مجرى حياة كل واحد منهم على حِدَة، يؤكد أنه ليس أكثر من قاطع طريق مَسُوق بدافع الطمع أو بدافع الانتقام الشخصي. وإذا أضفنا إلى ذلك شكوك بعض الدارسين التي تصل حد اليقين أحياناً، بخصوص بعض الأشعار المنسوبة لهم، وخاصة لامية العرب المنسوبة للشنفرى وهي من صنع خلف الأحمر على الأغلب، صار في مقدورنا النظر إلى ثلاث من أساطير العرب وهي تتهاوى واحدة تلو الأخرى .
اقرأ أيضاً: هل بُدئت الكتابة بعبد الحميد وخُتمت بابن العميد؟!
سادساً: لسنا بحاجة إلى الاستدراك بالقول إنّ عروة بن الورد يمثّل نموذجاً فروسياً ونبيلاً ومتفرّداً، ولا يمتّ للشراذم التي سبق الإلماح لها بصلة؛ فهو زعيم عبْسي مقتدر وفارس مغوار في وضح النهار؛ يغزو ويسلب ليطعم فقراء قبيلته مثل أي زعيم قَبَلي آخر. وما اعتاد الباحثون على التمثّل به من أشعاره المشهورة بخصوص التمييز الواضح بين الصعلوك النبيل والصعلوك الوغد، يؤكد المعنى اللغوي للصعلكة من جهة، كما يؤكد أنّ هناك فقيراً متجلّداً وجسوراً وأنّ هناك فقيراً نذلاً ومتهالكاً من جهة ثانية.
على أنّ سابعة الأثافي في هذه المصادرة، تتمثّل في انكباب الباحثين المسيّسين على مقولة التمرّد الثوري بسبب التفاوت الطبقي، وتغاضيهم عن حقيقة كون الأساطير الثلاثة، هم ضحايا التمييز الفادح لأنهم أبناء جوارٍ حبشيّات؛ ما جعلهم يعانون الأمرّين بسبب وصمة عنصرية لم يُفلح حتى عنترة بن شداد نفسه في التخلص النهائي من تبعاتها، رغم كل مآثره وبطولاته !