لم يشكّل فشل مؤتمر سوتشي مفاجأة للمتابعين والمحللين، ولا حتى للقيادتين؛ الروسية والسورية؛ إذ إنّ كلّ المعطيات التي سبقت عقد المؤتمر، كانت تشير إلى هذه النهاية مسبقاً، خاصةً أنّ الجانب الروسي أصدر من الإعلانات ما يكفي لتخفيض سقف التوقّعات، وأنّه مجرد محطة، تؤسّس لمسار جنيف.
عملياً، انعقد سوتشي قبل موعده، من خلال الجدالات، حول شكل ومضمون المؤتمر، وأهداف كلّ أطراف النزاع من انعقاده، من حيث الجهات المشاركة فيه، خاصة أنّ قائمة المدعوين تجاوزت (1600 مشارك) من جهة، ومخرجاته المتعلقة بعناوين تعديل الدستور، والانتخابات، ومستقبل الأسد، وماهية الحلّ السياسي في سوريا، من جهة أخرى.
هذا الشكل والمضمون، فرضا نفسيهما حتى قبل انعقاد المؤتمر؛ حيث تم ترتيب قوائم الحضور بين القيادتين؛ الروسية والسورية، لدرجة أظهر فيها مؤتمر "سوتشي" أنّ السلطات السورية تعقد مؤتمراً مع مؤيديها وحلفائها، رغم الحضور "الديكوري" لمعارضة مشكوك في معارضتها، وأوزانها النسبية على الأرض، خاصة بعد تدارك المعارضة الحقيقية، ومغادرتها سوتشي قبل وصولها قاعات المؤتمر.
انعقد سوتشي قبل موعده، من خلال الجدالات، حول شكل ومضمون المؤتمر، وأهداف كلّ أطراف النزاع من انعقاده
نتائج سوتشي، ستلقي بظلالها بالضرورة على مؤتمر جنيف لاحقاً، وباتجاهات ستسهم في تعميق الفجوة بين الحلفين الرئيسين في الأزمة السورية، التي ظهرت في إطار التحضيرات له، هذه الفجوة المتضمنة رؤية الحلف الروسي والنظام السوري وإيران، بأنّ النصر تحقق في سوريا؛ حيث تمّ إنجاز هزيمة داعش و"المسلحين والمتمردين" السوريين وأنصارهم، وبقاء سوريا موحّدة بقيادة الأسد، وأنّه آن الأوان لقطف ثمار هذا الانتصار، بتقديم ما يمكن وصفه تنازلات محدودة وشكلية، تضمن جوهر الصيغة القائمة في سوريا ما قبل 2011، خاصّة ما يتعلق برفض جعل موضوع مستقبل الأسد في سوريا موضوعاً للحوار، فيما رؤية الحلف الذي تقوده أمريكا وحلفاؤها من الاتحاد الأوروبي والعرب، يعملون وفق رؤية تتضمن "فرملة" مزاعم الحلف الروسي السوري الإيراني، بأنّ المهمة أنجزت في سوريا لصالحهم، من خلال تأكيدهم أنّ الإرهاب ما يزال قائماً في سوريا، وأنّ مستقبل الأسد موضع بحث، وأنّ بقاء سوريا موحّدة، مطروح للبحث والتداول، وحتمية إنتاج دستور سوري جديد، تضمن مخرجاته إنتاج سوريا جديدة، تختلف كلياً عن سوريا ما قبل 2011.
من هنا جاء الرفض الأمريكي والفرنسي والبريطاني، إضافةً للتعاطي ببرود مع المؤتمر، حتى قبل انعقاده، من قبل هذا الحلف، والعمل على إفشاله.
ربما تكمن الفروقات بين إستراتيجية الحلفين، في أنّ الحلف الروسي يمتلك رؤية واضحة للأزمة السورية، وحدود وآفاق ومضامين الحلّ المستقبلي في سوريا، معزَّزاً بقوة عسكرية على الأرض السورية (رغم أنّ هذه الرؤية الروسية ستصطدم، بالضرورة، بتطلعات الحلفين؛ السوري والإيراني لشكل سوريا الجديدة ومضمونها) كما أنّ مقاربة سوتشي بنيت على نجاحات "أستانا"، في تحقيق مناطق خفض التوتر، تمهيداً للحلّ النهائي في سوريا.
الحلف الذي تقوده أمريكا تقوم إستراتيجيته على التعامل مع الرؤية الروسية بإطار ردّ الفعل بالرفض أو طلب التعديل
فيما الحلف الذي تقوده أمريكا، تقوم إستراتيجيته على التعامل مع الرؤية الروسية في إطار ردّ الفعل، بالرفض وتقديم المقترحات للتعديل، وهو ما يجري بالتعامل مع قضايا الدستور، والانتخابات، وإعادة الإعمار، وعودة اللاجئين، وغيرها من القضايا، ودون أن ينفي ذلك أنّ هناك تقاطعات بين الإستراتيجيتين؛ الروسية والأمريكية، لعلّ في مقدمتها ضمان مطالب ومصالح إسرائيل، بوقف التهديد القادم من سوريا، ومعها لبنان.
ومن اللّافت للنظر، في إطار الصراع بين الحلفين الكبيرين؛ الموقف التركي الذي أكّد مجدداً، في إطار براغماتيته المعروفة، أنّ إستراتيجية تركيا تقوم على الحيلولة دون قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية مع سوريا، وأنّها من أجل هذا الهدف يمكن أن تكسر كثيراً من المحرَّمات في بناء التحالفات؛ حيث بدت كمن يمسك العصا من نصفها؛ حيث شاركت بالمؤتمر (ممثلة للمعارضة السورية)، لضمان موقف روسي إلى جانبها في قضية الأكراد، وتبدو هنا مشروعية التساؤل: إلى أي مدى يمكن أن تحقّق هذه الإستراتيجية مصالح تركيا في ظلّ تحالفات مزدوجة مع أمريكا وروسيا؟
مخرجات سوتشي، تحديداً التعديلات الدستورية التي سيتم إنجازها من قبل لجنته المكلَّفة (بصرف النظر عن مضمونها)، ستكون مرجعية، وحاضرة بقوة، لأيّة تعديلات دستورية قادمة في جنيف.
وفي جنيف، خلافاً لسوتشي وقبله أستانا، ستحضر كافة الأطراف الدولية، والإقليمية المعنية بالقضية السورية، لكنّ الطرف الأهم في هذه الأزمة سيتواصل تغييبه، وهو الشعب السوري، وبدونه ستبقى أية تسويات يتم التوافق عليها بين اللاعبين الدوليين والإقليميين، موضع تساؤل، فكلّ الشعوب العربية التي خرجت إلى الشوارع، في بداية الربيع العربي، ما تزال تطرح شعاراتها الأولى في بداية هذا الربيع، رغم اختطافها "مؤقتاً" من قبل جهات عدة.