هل غدا الابتزاز العاطفي سيد الموقف العربي؟

هل غدا الابتزاز العاطفي سيد الموقف العربي؟


17/12/2018

لو سألتني عن سرّ فشل كلّ التيارات السياسية والفكرية العربية، حتى الآن، في تكوين الكتلة التاريخية الحرجة اللازمة لإحداث التغيير الإيجابي المطلوب، لما تردّدت في أن أجيبك قائلاً: لأنّها تعتمد في كلّ ما تقول وتفعل على سيكولوجية الابتزاز العاطفي! وهي إجابة تقع خارج حدود التفسيرات التي ما انفكّ الإعلام العربي بأنواعه، يلوكها ويمضغها، ليل نهار، فما المقصود بالابتزاز العاطفي؟

اقرأ أيضاً: أحزان العربي ودولة الحق المنشودة

تبدأ مأساة الابتزاز العاطفي منذ أعوام التنشئة الأولى، فيدرك الطفل العربي تدريجياً، حقيقة أنّ ما لا يمكن أن يحصل عليه بالإقناع، يستطيع أن يحصل عليه بالحرد والدموع، واستدرار شفقة الأكبر سنّاً، أو إشعارهم بالذنب، وما أن يبلغ هذا الطفل سنَّي النضوج، وتحمّل المسؤولية، حتى يكون قد راكم خبرات استثنائية في انتزاع ما يريد من الآخرين، تارة بالإحراج وتارة بالمخاجلة، وتارة بالتهديد المبطن، وتارة بالوعود الكاذبة.

لم تتم تعبئة الرأي العام بالمعلومات والأرقام والحقائق، بل تمّت المراهنة على استثارة مشاعره وردود أفعاله

ورغم انكشاف وبدائية وانتهازية آليات الابتزاز العاطفي، إلا أنها راسخة ومتغلغلة في أعمق أعماق النسيج العربي، إلى درجة أنها تمثل خطّ الدفاع، الأول والأخير، على مستوى علاقة الموظّف بالمؤسسة الخاصة أو العامة، وعلى مستوى علاقة المثقف بإطاره النقابي، وعلى مستوى علاقة السياسي بحزبه، وعلاقة الأكاديمي بجامعته، وعلاقة الإعلامي بصحيفته.

والمضحك المبكي في هذه السيكولوجية؛ أنّها لا تقتصر على علاقة الفرد بالعائلة والمؤسسة والدولة؛ بل إنها تمتدّ لتشمل علاقة العائلة والمؤسسة والدولة بالفرد، فإذا كان الفرد يراهن على استدرار تعاطف هذه الهيئات عبر المبالغة في حرده ونزقه، فإنّ هذه الهيئات تراهن على استدرار تعاطف الفرد عبر التلويح بإمكانية انهيارها التام ومن ثم انهيار أفرادها، ما لم يبادر هؤلاء الأفراد إلى التضحية ببعض حقوقهم أو امتيازاتهم، تعبيراً عن عمق ولائهم وصدق انتمائهم.

اقرأ أيضاً: المناهج في الوطن العربي بلا أفق ولا رؤية.. لماذا؟

هذه السيكولوجية الرخوة التي تشمل كثيراً من أدوات المقايضة والتواطؤ المكشوف، تخلو - في المقابل- من أدوات المواجهة والإقناع، وتحمّل المسؤولية، والشجاعة الكافية للتعبير عن الاختلاف، فكان أن افتقر عقلانيو مطابخ صنع قرار معظم الأنظمة العربية إلى الشجاعة الكافية، للإشارة إلى سلبيات الواقع، بالتالي؛ الشجاعة الكافية لإقناع قياداتهم (الحرودة) بفتح أبواب الحوار مع المعارضة، كما افتقر نقديو الحركات المعارضة إلى الجرأة اللازمة لتوصيف معالم القصور عن وعي الواقع، ومن ثم المبادرة لإقناع قيادات أحزابهم (الحرودة) بفتح أبواب الحوار مع الأنظمة؛ لأنّ كلا الطرفين أدرك تدريجياً حقيقة أنّ الإبقاء على هذه الهوة قائمة، لا يتكفل بتعميق الاستقطاب فحسب؛ بل إنّه يتكفل بزيادة عدد الأنصار أيضاً.

تبدأ مأساة الابتزاز العاطفي منذ أعوام التنشئة الأولى فيدرك الطفل أنّ ما لا يمكن أن يحصل عليه بالإقناع يحصل عليه بالحرد والدموع

إذا جرّبنا القيام بمسح أولي وعام لمسوّغات كلّ فريق لنفي الآخر، أو لتعبئة أنصاره ضدّ الطرف المضاد، فينبغي ألّا نتفاجأ إذا لاحظنا أنّ ذرائع الطرف الرسمي لا تعدو وصف المعارضة بأنّها (فوضوية وخائنة)، فيما لا تتجاوز ذرائع الطرف المعارض وصف الأنظمة بأنها (ظالمة ومتوحشة)، ولست في حاجة إلى القول: إنّ توصيفات الطرفين غير قابلة للقياس وتخلو من أيّة أدوات للإقناع، لا لأنّ الطرفين يعجزان عن القياس والإقناع؛ بل لأنّهما يدركان خطورة التوقف عن الضرب على وتر سيكولوجية الابتزاز العاطفي.

وبهذا المعنى الدراماتيكي، يمكننا أن نتفهم حالة المدّ والجزر في مواقف الرأي العام العربي من: الانتفاضة الفلسطينية، والحرب على غزة، وثورات الربيع العربي، والحركة النسوية، ومنظمات المجتمع المدني، وبعض المثقفين الرافضين للواقع؛ ففي كلّ هذه المحطات والمفاصل، لم تتم تعبئة الرأي العام بالمعلومات والأرقام والحقائق، بل تمّت المراهنة على استثارة مشاعره وردود أفعاله، التي سرعان ما تبرد في أحسن الأحوال؛ لأنّ انقلاب هذه المشاعر وارد جداً أيضاً.

اقرأ أيضاً: أين المثقف العربي؟

عندما تصادر السلطات الرسمية كتاباً لأحد المثقفين، بسبب تجاوزه لواحد أو أكثر من خطوط الثالوث المحرّم: الدين، السياسة، الجنس؛ فإنّ من يناصرون مؤلّف الكتاب يفعلون ذلك لأنّه خرج على توافق المجتمع، وليس لأنّه يمتلك وجهة نظر، أو رأياً مخالفاً في هذه القضية أو تلك؛ أي إنّهم يرون فيه متمرداً يشبع توقهم للتمرد بإطلاق، إلى درجة أنك لا ينبغي أن تستغرب إذا خضت نقاشاً مع مناصر لطه حسين، أو نصر حامد أبو زيد، أو نجيب محفوظ، واكتشفت أنه لا يدرك بالضبط حقيقة المآخذ التي سجّلت عليهم، كما لا ينبغي أن تدهش، في المقابل، إذا خضت نقاشاً مع مناوئ لهم، وتبين لك أنه ليس ملمّاً بالأسباب الحقيقية التي أدّت لحظر طه حسين، أو لتكفير نجيب محفوظ، أو لقهر نصر حامد أبو زيد.

رغم انكشاف وبدائية وانتهازية آليات الابتزاز العاطفي، إلا أنها راسخة ومتغلغلة في أعمق أعماق النسيج العربي

بهذا المعنى الدراماتيكي أيضاً: يمكننا أن نفهم، على الصعيد العام، فشل المحافظين بكل تياراتهم الفكرية والسياسية في تكوين الكتلة التاريخية الحرجة اللازمة لحسم الموقف، وفشل الحداثيين، بكل اتجاهاتهم، في تشكيل هذه النواة الصلبة؛ لأنّهم جميعاً، رسميين ومعارضين، ما يزالون يراهنون على ابتزاز عواطف الجماهير، بدلاً من تزويدها بالمعرفة العقلانية أو الأدلة المنطقية الصلبة.

وبهذا المعنى الدراماتيكي أخيراً؛ يمكننا أن نتفهم مراهنة مثقف عربي على ابتزاز عواطف زميله بخصوص التوقيع على هذا البيان، أو إدانة ذلك النظام، أو مناصرة تلك القضية، فحتى العواطف أصبحت سلعة مؤهلة للتأجير والتبادل والمقايضة، وهي قطعاً أكثر قابلية للتسييل والتشكيل والتأثير، من الأفكار والقناعات التي من شأنها الحدّ من تذبذب معتنقيها، وإرغامهم على ترجمتها، وسائل وغايات وإنجازات.

الصفحة الرئيسية