هل خَلَت الأندلس من المعتزلة حقّاً؟

هل خَلَت الأندلس من المعتزلة حقّاً؟


25/10/2020

مع أنّ الأندلس الأموية لم تشهد ذلك الاحتدام الفلسفي والكلامي والمذهبي الذي شهده الشرق العباسي، إلا أنّ الاستقراء المسؤول للمصادر التاريخية الثقافية الأندلسية، يظهر تمثيلاً خافتاً لمعظم ألوان الطيف الفكري والمذهبي في المشرق؛ فقد وُجد على أرض الواقع ممثلون للمذاهب السنيّة كلّها، فضلاً عن المذهب الظاهري، كما وُجد ممثلون للخوارج. وأما الشّيعة المعتدلون؛ الأدارسة والحموديّون فقد أحاطوا بجنوب الدولة الأموية وتعايشوا معها ردحاً طويلاً من الزمن ثم انقضّوا عليها وأسقطوها عام 407 هـ. ويمكننا كذلك التنويه بالعديد من المتصوّفين والمشتغلين بالفلسفة وعلوم الأوائل.

المصادر التاريخية الثقافية الأندلسية تشتمل على أخبار تؤكد أنّ المشهد الفكري الأندلسي لم يخلُ من التنوّع والتعدد اللذين لم يبلغا على أي حال نظيرهما في المشرق

صحيح أنّ المذهب المالكي منذ مطلع القرن الثالث الهجري، قد ظل الأكثر هيمنة على الأندلس والأندلسيين، بدعم مباشر من السلطة الأموية التي تحالفت مع فقهائه وأفادت من سطوتهم الشديدة على الناس، واكتوت في الوقت نفسه بهذه السطوة كلّما عنّ لأحد أُمرائها تجاوز الخطوط الحمراء التي رسمها هؤلاء الفقهاء، لكنّ المصادر التاريخية الثقافية الأندلسية تشتمل على أخبار تؤكد أنّ المشهد الفكري الأندلسي لم يخلُ من التنوّع والتعدد اللذين لم يبلغا على أي حال نظيرهما في المشرق الذي دفع ثمنهما بصور كثيرة. ولعلّ داعي الإنصاف يدفعنا للتنويه بأنّ الوجهة العملية للمذهب المالكي قد اجتذبت الأندلسيين الذين لم يربأوا بأنفسهم عن العمل في المهن الزراعية والصناعية خلافاً لأنظارهم في المشرق الذين ترفّعوا عن العمل في هذه الأعمال من جهة، وبأنّ ضرورة توحيد الجبهة الفكرية لدعم الجبهة العسكرية المتّقدة على الدوام ضد الفرنجة قد اقتضت هذا الإجماع المذهبي وعدم السماح بإشراع باب الخلاف الذي يمكن أن يشق الصفوف من جهة ثانية.

اقرأ أيضاً: محمد إقبال وحلم المعتزلة المتأخر أحد عشر قرناً

وما يسترعي نظر الباحث المدقّق في التاريخ الفكري للأندلس، ندرة الإشارة إلى وجود ممثلين لفكر المعتزلة إلى درجة توهم بغيابهم فعلاً عن مسرح الأفكار في الدولة الأموية الثانية. هذا مع أنّ المصادر التاريخية الأندلسية والاستشراقية، تستفيض في الحديث عن حياة ابن مسرّة (269 - 319 هـ) وعن أفكاره وأتباعه، فضلاً عن أمر الملاحقة الذي أصدره الخليفة عبد الرحمن الناصر في عام 340 هـ لمحاصرة مذهبه واجتثاثه. ويذكر أنّ محمد بن مسرّة قد أخذ العلم عن أبيه وعدد من علماء الأندلس والمغرب والمشرق. وبعد أن فقد والده وهو في السابعة عشرة من عمره اعتزل الناس ولاذ بجبل قرطبة، فتحلّق حوله بعض المريدين ثم تكاثروا حتى استرعى انتباه الفقهاء والسلطة الأموية، فخاف على نفسه وأظهر رغبته بالحج وارتحل للمشرق مروراً بالقيروان، والتقى خلال رحلته الطويلة هذه عدداً من العلماء والفقهاء والمتكلمين وأخذ عنهم وناظر بعضهم، ثم قفل إلى قرطبة ولزم معتزله، فعاد مريدوه للالتفاف حوله. ويبدو أنّه قد ألّف كثيراً من الكتب التي ضاعت أو ضُيّعت ولم يصلنا منها كتاب واحد!

اقرأ أيضاً: كيف جعل المعتزلة العقل قيِّماً على الشريعة؟

فضلاً عن أنّ إقدام أعظم وأقوى خليفة أموي في تاريخ الأندلس، على إصدار أمر مشدّد بملاحقة أتباع ابن مسرّة بعد مرور عشرين عاماً على وفاته، يمثل دليلاً دامغاً على تواصل وفاعلية حضور الفكر المسرّي في الحياة الأندلسية، فإنّ نص إعلان الملاحقة الذي قرئ على الناس في المسجدين الجامعين بقرطبة والزهراء، يشتمل على جمل وعبارات تؤكد أنّ المسريّين هم معتزلة الأندلس فعلاً من جهة، وأنهم خلطوا اعتزالهم بشيء من التصوّف من جهة ثانية. وعلى نحو يظهر تهاوي زعم بعض المستشرقين بأنّ المسريّين كانوا من أتباع الفيلسوف اليوناني أنباذوقليس!

ما يسترعي نظر الباحث المدقّق في التاريخ الفكري للأندلس، ندرة الإشارة إلى وجود ممثلين لفكر المعتزلة إلى درجة توهم بغيابهم فعلاً عن مسرح الأفكار في الدولة الأموية الثانية

ومما جاء في نص إعلان ملاحقة المسريّين: (ولما استوسعت الطاعة وشملت النعمة وعم الأقطار بعدل أمير المؤمنين السكون والدعة، طالعت فرقة لا تبتغي خيراً ولا تأتمر رشداً، كتباً لم يعرفوها... فقالوا بخلق القرآن واستيأسوا وأيسوا من روح الله... وأكثروا الجدال في آيات الله وحرّفوا التأوّل في حديث رسول الله... ثم تجاوزوا في البهتان وسدّوا على أنفسهم أبواب الغفران، فأكذبوا التوبة وأبطلوا الشفاعة ونالوا مُحْكم التنزيل وغامض متشابه التأويل بتقدير عقولهم... وقالوا بالاعتزال عن العامة وشدّوا أزره فآثروه... الخ )! ومعلوم أن هذه الدعاوى هي دعاوى المعتزلة؛ فهم القائلون بخلق القرآن والواغلون في التأويل وفي إبطال التوبة إذا مات مرتكب الكبيرة دون أن يتوب... ومن ثم الشفاعة. وأما بخصوص الأثر الصوفي المتمثل في اعتزال الناس، فإنّ الإعلان يشير إلى هذه الوجهة في الفكر المسرّي على النحو التالي: (وقالوا بالاعتزال عن العامة وشدّوا أزره فآثروه). علماً بأنّ الإعلان لم يشر إلى أيّ من أعلام أو أفكار الفلسفة اليونانية القديمة، من قريب أو بعيد.

اقرأ أيضاً: من هي الجارية التي هزمت شيخ المعتزلة؟!

إنّ تجاهل كل هذه الدلائل التي تؤكد أنّ المسرّية هي الذراع الأندلسية لمعتزلة المشرق يثير الاستغراب فعلاً. وأشد وطأة من هذا الاستغراب، تعلّق القدماء والمحدثين من الباحثين العرب والأجانب، بما لُفّق من أخبار واتهامات لابن مسرّة، في حياته وبعد مماته وعقب إعلان مطاردة أتباعه، من جانب العوام والفقهاء المالكيين وموظفي الدولة الأموية، رغم كل ما يَرين على هذه الأخبار والاتهامات من مبالغات نقلت ابن مسرّة من عالم الواقع والمعقول إلى عالم الخيال والأسطورة، ورغم أنّ عالم الأندلس وفقيهها وفيلسوفها ومؤرخهها (ابن حزم) يؤكد على نحو لا يقبل الشك، في معرض ردّه على من تطرّفوا في نسبة بعض الأفكار لكتب ابن مسرّة؛ (أن ليس فيها لعمري دليل على هذا القول)!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية