هل تكتب حرب غزة نهاية "الوهم" الأمريكي في الشرق الأوسط؟

هل تكتب حرب غزة نهاية "الوهم" الأمريكي في الشرق الأوسط؟

هل تكتب حرب غزة نهاية "الوهم" الأمريكي في الشرق الأوسط؟


15/11/2023

عيسى نهاري

لسنوات حاولت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تقليص الوجود العسكري في الشرق الأوسط للتركيز على التهديد الصيني المتزايد، إلا أن طريق المسؤولين الأمريكيين لتطبيق سياسة الانسحاب لم تكن دائما معبدةً بالورد، فلا تهدأ نار حرب حتى تشتعل أخرى في المنطقة، وآخرها الحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي كتبت، وفق مراقبين، نهاية الوهم الأميركي المتمثل في التخلص من أعباء الشرق الأوسط.

قبل هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) على إسرائيل رسمت إدارة الرئيس جو بايدن صورة متفائلة للوضع في الشرق الأوسط، وتباهى مستشار الأمن القومي جيك سوليفان بفترة هي الأهدأ في المنطقة منذ عقدين. هذا الهدوء في منظور الإدارة الأميركية تتويج لسياسة ناجحة وغير مكلفة حررت واشنطن من أعبائها العسكرية في أفغانستان بعد انسحاب أغسطس (آب) 2021، وقبل ذلك في يوليو (تمّوز)، عندما أعلن بايدن إنهاء المهام القتالية للجيش الأميركي في العراق بحلول نهاية العام.

نشاط عسكري متزايد

لكن تبدو الولايات المتحدة اليوم متورطة في الشرق الأوسط أكثر من أي وقت مضى منذ حربي العراق وأفغانستان، إذ اضطرت إدارة بايدن إلى التخلي عن استراتيجية "الانسحاب"، وعززت الوجود العسكري الأميركي دعماً لإسرائيل وفي رسالة ردع لإيران التي صعّد وكلاؤها هجماتهم العسكرية على القواعد الأميركية. ورداً على الهجمات الأخيرة على القوات الأميركية في المنطقة، أرسل "البنتاغون" منظومة دفاع جوي من طراز "ثاد" وكتائب إضافية من أنظمة الدفاع الجوي الصاروخية "باتريوت" إلى الشرق الأوسط.

وأعادت واشنطن حاملة الطائرات "يو أس أس آيزنهاور" إلى منطقة القيادة الوسطى الأميركية التي يشمل نطاق عملها البحر الأحمر وخليج عمان والخليج العربي وبحر العرب. وتعود الحاملة بذكريات مشاركاتها المتعددة في المنطقة بدءاً من عمليات أزمة الرهائن مع إيران وحرب الخليج، ووصولاً إلى حربي العراق وأفغانستان. وقال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إن القرار يهدف إلى تعزيز القدرة الأمريكية على الاستجابة لحالات الطوارئ، مؤكداً أنه ينظر في نشر قدرات إضافية بحسب الضرورة.

وقبل شهرين من اندلاع الحرب في الشرق الأوسط عززت واشنطن أسطولها الخامس المسؤول عن أمن الملاحة البحرية في المنطقة بحاملتي طائرات و3000 جندي، منها سفينة "يو أس أس باتان" التي يمكنها حمل ما يزيد على 20 طائرة، بما في ذلك طائرات من نوع "أم في-22 أوسبري" وطائرات "إي في-8 بي هارير" المقاتلة. وجاء الحشد الأميركي في الممرات المائية الخليجية لمواجهة تهديدات إيران المتزايدة للسفن، وآخرها احتجازها ناقلتين قرب مضيق هرمز.

وعلى رغم أن نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس نفت وجود نية لإرسال قوات قتالية إلى إسرائيل أو غزة، فإن القيادة المركزية الأميركية دخلت في حالة تأهب قصوى تحسباً لنشاطات الجماعات المدعومة من إيران وسط مخاوف من توسع الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. ونفذت القوات الأميركية ضربات جوية ضد أهداف مرتبطة بإيران، آخرها أمس الأحد على منشآت منشآت قرب مدينتي البوكمال والميادين في سوريا، وذلك رداً على الاستفزازات المستمرة من قبل الحرس الثوري الإيراني والجماعات التابعة له في العراق وسوريا.

كما بعثت واشنطن بقوة خاصة تسمى "دلتا" إلى إسرائيل للمساعدة على تحرير الرهائن. وتعد "قوة دلتا" التي نشأت عام 1977 وحدة عمليات خاصة تابعة للجيش الأميركي وتختص بتفكيك الخلايا الإرهابية والاستطلاع الاستراتيجي والإعداد العملياتي لساحة المعركة، كما تشارك أيضاً في عمليات إنقاذ الرهائن والمهام السرية مع وكالة الاستخبارات المركزية. 

أعباء جبهتين 

أثارت حرب غزة تكهنات حول قدرة واشنطن على دعم حربين في آنٍ، نظراً إلى الصراع المستمر بين روسيا وأوكرانيا. ومن غير الواضح ما إذا أثرت الحرب في الشرق الأوسط في الدعم الأميركي لكييف بشكل مباشر، فإن من أبرز تأثيراتها تجلت في تقليص التغطية الإعلامية لحرب أوكرانيا. 

وأكد الرئيس بايدن أن بلاده قادرة على دعم أوكرانيا وإسرائيل في وقت واحد. وقال رداً على الشكوك "نحن لسنا أقوى بلد في العالم، بل في تاريخ العالم، ونستطيع التعامل مع (الحربين) والحفاظ على دفاعنا الدولي".

ومع ذلك، حذر البنتاغون هذا الأسبوع من أنه مضطر إلى تقليص دعمه لكييف، بعد استنفاد 95 في المئة من أمواله المخصصة لأوكرانيا. وقالت نائبة المتحدث باسم وزارة الدفاع سابرينا سينغ "سنواصل طرح حزم (المساعدات)، لكنها أصغر حجماً". وأضافت "نناشد الكونغرس الموافقة على الطلب الإضافي الذي أرسله الرئيس حتى نتمكن من الاستمرار في تلبية حاجات أوكرانيا في ساحة المعركة".

وجاءت أزمة الشرق الأوسط لتربك المحور الديمقراطي الآسيوي المضاد للصين الذي بدأ أخيراً بالتوسع عبر اتفاقات جديدة بين الفيليبين والهند، وتدريبات عسكرية، وخطط مع واشنطن للتفوق على التكنولوجيا الصينية. وتتوقع صحيفة "نيويورك تايمز" أن يعوق التركيز المفاجئ على غزة التقدم في مسار مواجهة الصين، مشيرة إلى الزيارات المتزايدة للمسؤولين الأميركيين لعواصم الشرق الأوسط وانشغال فرق العمل التابعة لـ"البنتاغون" بالصراع، وبإرسال الأسلحة إلى إسرائيل.

وقال مستشار الأمن القومي السابق في اليابان أكيهيسا ناغاشيما خلال منتدى استراتيجي في سيدني الأسبوع الماضي "إن أكثر ما يقلقنا هو تحويل موارد الجيش الأميركي من شرق آسيا إلى أوروبا والشرق الأوسط".

ومع ذلك، أكد المسؤولون الأميركيون أنه واشنطن لم تسحب أية أصول عسكرية من منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وأجرى وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيان هذا الأسبوع زيارة إلى آسيا شملت الهند واليابان وكوريا الجنوبية، حاملين رسائل طمأنة لحلفائهم الآسيويين. وعلى رغم تباين مواقف هذه الدول حيال الحرب في غزة بين الهند التي تدعم إسرائيل واليابان الساعية إلى نهج متوازن، فإنها تشترك في أسئلتها حول قدرة واشنطن على التوفيق بين دعم حرب ثانية ودعم حاجات منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ومنها الأسلحة، إذ تعاني الولايات المتحدة من نقص الذخيرة التي توفرها لكل من أوكرانيا وإسرائيل، في وقت ينتظر فيه شركاء واشنطن الآسيويون أسلحتهم.

وعاد تنافس واشنطن والصين على النفوذ في بحر الصين الجنوبي الذي يعد أحد أكثر طرق التجارة ازدحاماً في العالم إلى الواجهة الشهر الماضي بعدما أعلن الجيش الأميركي أن طائرة مقاتلة صينية اقتربت على مسافة 10 أقدام من قاذفة أميركية من طراز "بي -52" كانت تحلق فوق بحر الصين الجنوبي، مما كاد يؤدي إلى وقوع حادث. ويقول الأدميرال قائد القوات الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ جون سي أكويلينو إن هدف الصين "إجبار الولايات المتحدة على الخروج من المنطقة".

الانقسام الداخلي

وعلى رغم تأكيد الإدارة الأميركية قدرتها على التوفيق بين أولويات سياستها الخارجية، فإن الانقسام الداخلي هو الآخر يلعب دوراً في المعادلة، إذ لم يتوصل الكونغرس الأميركي إلى اتفاق وتسوية بين الجمهوريين والديمقراطيين لإقرار الموازنة الفيدرالية وتمرير حزمة المساعدات الأمنية لأوكرانيا وإسرائيل البالغة 106 مليارات دولار، وسط انقسام حول المساعدات الخارجية وتمويل أمن الحدود وتوجه السياسة المالية.

ويمثل تحدي الموازنة الفيدرالية أول اختبار لرئيس مجلس النواب الجمهوري الجديد مايك جونسون الذي انتخب لهذا المنصب الشهر الماضي. ونظراً إلى لفجوة الكبيرة بين طلب بايدن لأوكرانيا وإسرائيل وما يستعد الجمهوريون لتمريره، يناقش المشرعون ما إذا كان بإمكانهم تمرير إجراء تمويلي جديد لسد الفجوة ومواصلة التفاوض حتى منتصف ديسمبر (كانون الأول)، وفق "فايننشال تايمز".

وعلى رغم دعم الحزبين تمرير مساعدات إضافية لإسرائيل فإن الجمهوريين في مجلس النواب يريدون مقابل موافقتهم تمرير إجراء يقوض سلطات دائرة الإيرادات الداخلية في تدقيق حسابات الأثرياء والشركات الكبرى، وهو ما لا يستسيغه الديمقراطيون، كما يشترط الجمهوريون القلقون حيال تقديم مساعدات إضافية لأوكرانيا تمرير سياسات تمنع تدفق المهاجرين عبر الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك. 

وفي سياق متصل، يرفض بعض الديمقراطيين تقديم مساعدات غير مشروطة لإسرائيل. وكتب كريس فان هولين من ولاية ماريلاند وأعضاء ديمقراطيون آخرون في مجلس الشيوخ إلى الإدارة هذا الأسبوع يطلبون "ضمان استخدام أية معدات تقدمها الولايات المتحدة بطريقة متسقة مع القانون الأميركي".

الوهم الأمريكي

وترى نائبة رئيس "معهد بروكينغز" سوزان مالوني أن هجوم "حماس" على إسرائيل كان سبباً في التعجيل ببداية ونهاية في الشرق الأوسط. ما بدأ هو الحرب الدموية والمكلفة التي لا يمكن التنبؤ بمسارها ونتائجها. أما ما انتهى على حد رأيها هو الوهم بأن الولايات المتحدة قادرة على تخليص نفسها من المنطقة التي هيمنت على أجندة الأمن القومي الأميركي طوال نصف القرن الماضي. 

وقالت مالوني إن الرئيس بايدن أدرك أن التعقيدات الأميركية في الشرق الأوسط تصرف الانتباه عن التحديات الأكثر إلحاحاً التي تفرضها القوة العظمى الصاعدة الصين، والقوة المتمردة المتلاشية روسيا، فسعى إلى الانسحاب من المنطقة، ومن الصعب لومه في ضوء الخسائر الأميركية الاجتماعية والسياسية والمالية الفادحة، بعد فشل مشاريع بناء الدولة في أفغانستان والعراق. ولفتت إلى أن إدارة بايدن ابتكرت استراتيجية خروج نوعية لإيجاد توازن جديد للقوى في الشرق الأوسط من شأنه أن يسمح لواشنطن بتقليص وجودها واهتمامها مع ضمان عدم ملء بكين الفراغ، وذلك عبر إنشاء علاقات بين إسرائيل السعودية وتوحيد أهم شريكين إقليميين لواشنطن ضد عدوهما المشترك إيران، وتثبيت الرياض خارج محيط المدار الاستراتيجي للصين.

إضافة إلى ذلك، تبنت واشنطن خطة بديلة من المكافآت والتفاهمات غير الرسمية مع إيران بعدما فشلت في إحياء الاتفاق النووي بهدف إقناعها بإبطاء أنشطتها النووية والتراجع عن استفزازاتها في المنطقة مقابل مكافآت اقتصادية متواضعة. وجاءت المرحلة الأولى في سبتمبر (أيلول) بعدما أطلقت إيران سراح خمسة أميركيين محتجزين في سجونها مقابل تحرير 6 مليارات دولار من عائدات النفط الإيرانية المجمدة. 

إلا أن هذه الاستراتيجية فشلت، إذ تقول الكاتبة إن "محاولة بايدن للهرب السريع من الشرق الأوسط عانت عيباً قاتلاً واحداً، وهو أنها أخطأت فهم الحوافز المقدمة لإيران، اللاعب الأكثر تخريباً على المسرح"، لافتة إلى أن طهران اشتمت رائحة الضعف في التوسلات والمصالحات التي بادرت بها إدارة بايدن، والتي تظهر رغبة واشنطن اليائسة في التخلص من أعباء حقبة 11 سبتمبر، حتى لو كان الثمن باهظاً". وأضافت "لم يكن من المعقول على الإطلاق أن تكون التفاهمات غير الرسمية وتخفيف العقوبات كافية لتهدئة الجمهورية الإسلامية ووكلائها، الذين يملكون تقديراً قوياً ومختبراً عبر التاريخ لجدوى التصعيد في تعزيز مصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية. امتلك القادة الإيرانيون الحوافز كلها لمحاولة منع حدوث اختراق إسرائيلي - سعودي، وبخاصة ذلك الذي كان من شأنه أن يوسع الضمانات الأمنية الأميركية للرياض ويسمح للسعوديين بتطوير برنامج مدني للطاقة النووية".

وترى مالوني أنه من غير المتصور أن تنفذ "حماس" بهجوم بهذا الحجم والتعقيد دون بعض المعرفة المسبقة والدعم الإيجابي من القيادة الإيرانية، وترد على من يستبعد تورط إيران في التخطيط للهجوم نظراً إلى أن مصلحتها تكمن في تذويب الجليد مع واشنطن، فتقول، "استخدمت الجمهورية الإسلامية التصعيد كأداة سياسية مفضلة منذ الثورة الإيرانية عام 1979، فعندما يتعرض النظام للضغوط، تدعو قواعد اللعبة الثورية إلى شن هجوم مضاد لإثارة أعصاب خصومه وتحقيق ميزة تكتيكية، وتعمل الحرب في غزة على تعزيز الهدف الذي طال انتظاره لقيادة الجمهورية الإسلامية والمتمثل في شل عدوها الإقليمي الأكثر شراسة. ولم يتزحزح المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي قط عن عدائه المحموم تجاه إسرائيل والولايات المتحدة. فهو ومن حوله مقتنعون بشدة بالفجور والجشع والشر الأميركي، إنهم يسبون إسرائيل ويطالبون بتدميرها، كجزء من الانتصار النهائي للعالم الإسلامي على ما يعتبرونه الغرب المتدهور و(الكيان الصهيوني) غير الشرعي".

عن "اندبندنت عربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية