ملكون ملكون
مع الجدل المحتدم في العراق حول سحب الرئيس العراقي عبداللطيف رشيد المرسوم الجمهوري الخاص بتعيين الكاردينال لويس روفائيل ساكو، بطريركا على الكنيسة الكلدانية وفي ظل التصعيد الذي يمارسه زعيم مليشيا "بابليون" المسيحية المدعومة من الحشد الشعبي ، ريّان الكلداني الطامح لاختزال التمثيل السياسي والديني المسيحي به، لا سيما دائرة الوقف المسيحي التابعة لهيئة الأوقاف الدينية.
وسط هذا الجدل بات التساؤل السابق مطروحا من جديد: هل ستختفي المسيحية من العراق؟، لا سيما وأن مسيحيي العراق يعتبرون أن سحب المرسوم هو جزء من استهداف وجودهم في العراق، وهو منطقة لها تاريخ مسيحي طويل، مع وجود أدلة تشير إلى أن الإنجيل كان حاضرا في القرن الثاني.
اليوم، رغم ذلك، تشهد المسيحية في العراق تراجعا دراماتيكيا. منذ غزو قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة عام 2003، عانى المجتمع المسيحي في العراق من انهيار كارثي. قبل الحرب، كان عدد المسيحيين في البلاد 1.3 مليون. واليوم يزعم مسؤولو الكنيسة العراقية أن هناك ما يقرب من 250 ألفا متبقيا، وهو ما يمثل انخفاضا بنسبة 83 في المائة خلال عقدين من الزمن، لكن من المحتمل أن تكون الأرقام الفعلية أقل من ذلك بكثير، على الرغم من أن القادة المسيحيين في العراق مترددون في الاعتراف بذلك بسبب تداعيات تمثيلهم السياسي، حيث تشير منظمات المجتمع المدني إلى أن 164000 مسيحي فقط لا يزالوا في العراق، وهو ما يمثل انخفاضا بنسبة 90 في المائة منذ الغزو.
هناك أسباب متنوعة لهذا التراجع منها زعزعة استقرار المنطقة منذ غزو التحالف عام 2003. تشير محنة المسيحيين في جميع أنحاء الشرق الأوسط في العقدين الماضيين، سواء في سوريا أو العراق أو في أي مكان آخر، إلى وجود بيئة قلقة وغير مستقرة للمسيحيين. وفي هذا الصدد يكشف تقرير أصدره معهد الدانوب ومقره بودابست أن القادة المسيحيين في العراق يصفون حقبة ما قبل عام 2003 بأنها "مستقرة" و "آمنة"، وهي فترة "خالية من الطائفية والعنف". ربما كان صدام وحشيا وشريرا، لكن الكنيسة كانت تتمتع بالاستقرار والسلام في ظل نظامه، وهو أمر لا تتمتع به الآن.
ثم جاءت عاصفة داعش بنتائج كارثية على الأقلية المسيحية في البلاد حيث اقتلع آلاف المسيحيين من مناطقهم بعد أن فقدوا منازلهم وأراضيهم. وبالطبع غالبيتهم العظمى لم يعودوا وسط معاناة قادة الكنيسة بمختلف طوائفها (حسب الباحثين في معهد الدانوب ) من عدم اعتراف الحكومة ودعمها وأسفهم على الافتقار إلى البنية التحتية المالية والأمنية للكنائس، حيث تعتبر الإجراءات الأمنية الخاصة ضرورة يومية للعديد من المؤسسات المسيحية في البلاد.
ويعكس هذا النقص في الدعم الحكومي تراجع النفوذ السياسي للكنيسة، إذ لاحظ الكاردينال لويس رافائيل الأول ساكو، الذي يقود الكنيسة الكلدانية، في مقابلة معه أواخر عام 2022 عدم وجود تمثيل سياسي للجماعات المسيحية في النظام العراقي الحالي. ويؤدي تناقص عدد المسيحيين إلى تفاقم هذه المشكلة.ومن هنا نجد أن المبالغة المحتملة في تقدير عدد المسيحيين من قبل الكنائس العراقية أمر مفهوم، نظرا لأن نفوذهم السياسي يعتمد جزئيا على نسبتهم من سكان البلاد.
وعلى الرغم من معاناة الكنيسة من الاضطهاد وعدم المساواة والصراع الأهلي، فإن عاملا بنيويا يدعم أيضا تدهور المسيحية. كان خروج العديد من المسيحيين بالعراق خلال العقدين الماضيين نتيجة للتحديات الاقتصادية الهيكلية وانعدام الآمان وتعميق الشعور الأقلوي لديهم والإحساس الدائم بالحاجة لحماية من مخاطر تزداد وتيرتها يوما إثر آخر، مما يؤكد حاجة المجتمعات المسيحية في العراق إلى بنية تحتية اقتصادية وتعليمية واجتماعية لمساعدة شبابها على البقاء، فمعظمهم من يغادرون إلى أوروبا وأجزاء أخرى من العالم بسبب نقص فرص العمل والتعليم في بلدانهم الأصلية.
لا يستطيع الناس العيش حيث يبدو أنه لا يوجد مستقبل لهم ولأسرهم، وهذا البحث عن ملاذات آمنة ومستقرة يفرّغ المنطقة من عنصر هام من عناصر تكوينها ووجودها .
عن "ميدل إيست أونلاين"