هل أحرق طارق بن زياد مراكبه فعلاً؟

طارق بن زياد

هل أحرق طارق بن زياد مراكبه فعلاً؟


02/07/2019

لا تستطيع أي أمّة أن تفصل نفسها عن امتداداتها التاريخية التي تمثّل أبرز الأدوات الثقافية المكوِّنة لها، وبذلك يعد التاريخ بمقدار صدقه مدخلاً مهمّاً لفهم الذات والحاضر وسيرورة المستقبل، وبخلاف ذلك يوجِد وعياً زائفاً قد يأسر النفس في ماضوية قائمة على الأساطير والخيالات التي تزرع في اللاوعي.

اقرأ أيضاً: التراث في فكر حسن حنفي
من أبرز المآخذ في تاريخنا العربي والإسلامي، وفق ما يذكر ابن خلدون في مطلع "المقدمة"، امتلاؤه بالكثير من "المُسلَّمات" التي لم يكلِّف من نَقَلها عناء تمحيصها وإخضاعها لحكم العقل، خاصة إذا أسبغت هالة من البطولة والأسطرة التي يصعب بتحليل بسيط قبولها والاحتفاء بها.
وفي هذا السياق، تأتي قصة القائد الأموي، طارق بن زياد، حول حرق سفنه ومراكبه الحربية على شواطئ الأندلس، لإجبار جنوده على مواصلة الحرب مع قولته الشهيرة: "أين المفرّ؟ العدو من أمامكم والبحر من ورائكم"، فإلى أي حد يمكن قبول هذه الرواية؟ وما الذي جعلها تنتشر في ثقافتنا المعاصرة بهذا الشكل؟
ارتبطت شخصية طارق مبدئياً بالبطولة، وبتحقيق حلم كبير، كدخول العرب إلى بلاد الفرنجة

البحث عن بطولة
ارتبطت شخصية طارق مبدئياً بالبطولة، وبتحقيق حلم كبير، كدخول العرب إلى بلاد الفرنجة، كأول احتكاك حقيقي بين العرب المسلمين والأوروبيين المسيحيين، وهو ما يمثل انتصاراً عسكرياً، يفتخر به المسلمون والعرب إلى الآن.
عُرف طارق كأحد قادة جيش موسى بن نصير في بلاد المغرب، في عهد الخليفة الأموي، الوليد بن عبد الملك، وقد أبدى مهارة في القيادة لفتت الانتباه له، ما دعا إلى اختياره حاكماً لمدينة طنجة مكافأة له، وهو يبذل الصبر والإصرار ويظهر المواهب.
وفق ما تواتر من روايات لا يمكن إنكار بطولة هذا القائد الفذّ الذي امتاز بالحكمة والدهاء؛ فما هي الحاجة إلى حكايات مفبركة لإثبات ذلك! فواقعة حرقه للمراكب التي حمل عليها جنوده، ينكرها كثير من المؤرخين؛ فهي لم ترد في الكتب التي أرّخت لهذه المرحلة من تاريخ الأمة العربية والإسلامية.

يعد التاريخ بمقدار صدقه مدخلاً مهماً لفهم الذات والحاضر وسيرورة المستقبل

يقول الدكتور عبد الحليم عويس في كتاب "إحراق طارق بن زياد للسفن أسطورة لا تاريخ"، الصادر العام 1995 إنّ "قصة حرق طارق بن زياد لسفنه الحربية أسطورة ليس لها أصل، ولم يشر إليها أيّ من المؤرخين القدماء، سواء من المدرسة التاريخية المصرية، التي أرّخت للأندلس خلال القرن الثالث الهجري، مثل: ابن الحكم، صاحب كتاب "فتوح مصر والمغرب والأندلس"، وعبد الملك بن حبيب، صاحب كتاب "مبتدأ خلق الدنيا"، المعروف بـ "تاريخ ابن حبيب".

أو من المدرسة التاريخية الأندلسية، التي ظهرت في القرن الرابع، وهي مدرسة محمد القرطبي، المعروف بـ "ابن القوطية"، صاحب كتاب "تاريخ افتتاح الأندلس"، ومعاصره المجهول في القرن الرابع، صاحب كتاب "أخبار مجموعة في فتح الأندلس وذكر أمرائها".

اقرأ أيضاً: التراث كعائق تاريخي: نظرة على الإحياء والتحديث الإسلامي
كما لم ترد عن الرازي أو ابن الفرضي والخشني؛ فكلّ مؤرّخي القرن الرابع الهجري، لم يظهروا أثراً للقصة في كتاباتهم، حتى مع ظهور المدرسة التاريخية المغربية في القرن الخامس الهجري، والتي من رموزها: شيخ مؤرخي الأندلس "أبو مروان بن حيان القرطبي"، صاحب كتاب "المقتبس والمتين"، و"ابن حزم"، صاحب كتابَي "طوق الحمامة"، و"جمهرة أنساب العرب"، والحميدي صاحب كتاب "جذوة المقتبس"، و"الطرطوشي" صاحب كتاب "سراج الملوك"، والقيرواني صاحب كتاب "تاريخ إفريقيا والمغرب"؛ كلّ هؤلاء المؤرخين لم يذكروا قصة حرق طارق بن زياد لسفنه في فتح الأندلس.
 الدكتور عبد الحليم عويس

فتح الأندلس كما وصفه المؤرّخون
عند ابن قوطية؛ عندما تحرك طارق بن زياد للأندلس أيام الوليد بن عبد الملك، يريد غزو "القوط"،  كتب لذريق، ملك القوطيين وقتها، إلى أبناء الملك السابق "غيطشة"، أن يتصالحوا وأن تكون أيديهم واحدة ضدّ طارق بن زياد، لكنّ أبناء الملك لم يثقوا في لذريق، لسابق غدره، فأرسلوا إلى طارق بن زياد يسألونه الأمان، وأن يعيد إليهم ضياع أبيهم، وكانت ثلاثة آلاف ضيعة، سميت بعد ذلك "صفايا الملوك"، فعاهدهم على ذلك، ولما أصبحوا، انحازوا بمن معهم إلى طارق بن زياد، فكانوا سبباً في الفتح، ودخل طارق بن زياد الأندلس، في رمضان سنة اثنين وتسعين هجرية.

اقرأ أيضاً: كيف قرأ زكي نجيب محمود التراث وما أبرز التحولات الفكرية لديه؟
يستكمل ابن قوطية: "فلما تجاوز طارق وصار بعدوة الأندلس، كان أول ما افتتحه مدينة قرطاجنة، فأمر أصحابه بقتل وتقطيع بعض الأسرى، وطبخ لحومهم بالقدور، وإطلاق سراح بعض الأسرى الآخرين، فأخبر الأسرى المنطلقون بذلك كلّ من لقوه، فملأ الله قلوبهم رعباً".
والجدير بالملاحظة؛ أنّه لم يشر، من قريب أو بعيد، لقصة حرق السفن، إنما أورد قصة غير مشهورة عن طبخ الأسرى في القدور!
من أين جاءت قصة حرق السفن إذن؟
يقول الدكتور محمود مكي، في تحقيقه لكتاب "المقتبس من أنباء أهل الأندلس"، لابن حيان القرطبي: "هذا الخبر، حرق طارق بن زياد لسفنه الحربية، لم يرد إلا في كتاب "نزهة المشتاق" للإدريسي، المتوفَّى العام 560 هجرية، ومعاصره أبو مروان عبد الملك بن الكرديوس، ومنهما انتقلت القصة لكثير من كتب المؤرخين؛ فقد ورد في كتاب "نزهة المشتاق": "لما جار طارق بمن معه من البرابر، وتحصنوا بهذا الجبل (يقصد جبل طارق)، أحسّ في نفسه بأنّ العرب لا تثق فيه، فأراد أن يزيح ذلك عنه، فأمر بإحراق المراكب التي جار عليها".

من أبرز مآخذ تاريخنا الكثير من "المُسلَّمات" التي لم يكلِّف من نَقَلها عناء تمحيصها وإخضاعها للعقل

وأما ابن الكرديوس؛ فقد جاءت عبارته مقتضبه في كتابه "الاكتفاء في أخبار الخلفاء"؛ إذ يقول: "ثم رحل طارق إلى قرطبة بعد أن أحرق المراكب، وقال لأصحابه: قاتلوا أو موتوا".
ويمكن تفنيد هذه الرواية بثلاثة تساؤلات: ألم يكن من الأسهل والأضمن لطارق أن يأمر بالسفن فتعود إلى العدوة المغربية، ليصل إلى النتيجة ذاتها، وهي القتال أو الموت؟!
ولماذا يحرق السفن وهو يطلب المدد العسكري من موسى بن نصير؟ ولماذا يقدم على هذا الفعل ويعرّض جيشه للتهلكة في حالة الهزيمة؟!
من الواضح أنّ طارق بن زياد لم يحرق السفن؛ بل بقيت لدى المسلمين، وانتقل المدد إلى الأندلس عليها، وانتقل قائدهم مع بقية الجيش إلى الأندلس على متنها.
مضيق جبل طارق

لماذا انتشرت هذه الحكاية؟
إنّ رواية حرق طارق بن زياد للسفن ظهرت للمرة الأولى، كما ذكرنا، في القرن الخامس الهجري؛ أي بعد فتح الأندلس بأكثر من ثلاثة قرون، ولم تؤيدها أية رواية أخرى، وهناك ثلاثة احتمالات لتدوينها:
الاحتمال الأول: أن تكون جاءت لتغطي على حكاية طبخ طارق بن زياد للأسرى، وهي صورة بشعة، لا يحبّ المسلمون وصم قائدهم العظيم بها، أو ربما لتغطي على استغلاله خيانة أبناء الملك السابق لملك القوط وقتها "لذريق" أثناء المعركة، وهو عُرف لم يكن مشيناً، لكن يميل العقل الجمعي إلى تقديم صورة ملائكية للمسلمين الفاتحين، وتعزيزها بأي طريقة.

اقرأ أيضاً: بين خاسر أو منتصر: جدال العقل والنقل في التراث الإسلامي
الاحتمال الثاني:
أنّها جاءت في إطار صناعة القائد الأسطورة، وكان العرب يتداولون حكايات في الثقافة العربية القديمة، مثل حكاية "القائد وهرز الفارسي"؛ الذي أمر بإحراق السفن حين ساعد سيف بن ذي يزن في تحرير اليمن والانتصار على الأحباش، وهذه الحكاية وردت في الطبري (2/119).

يميل العقل الجمعي إلى تقديم صورة ملائكية للمسلمين الفاتحين وتعزيزها بأي طريقة

ومن ثم نسجوا قصّة شبيهة، بطلها طارق بن زياد هذه المرة، ومن الطريف؛ أنّ جزءاً كبيراً من قادة العرب المشاركين في فتح الأندلس كانوا يمنيين، وأنّ قبائل يمنية كاملة انتقلت لتسكن الأندلس، تسربت منهم إلى الإدريسي.
الاحتمال الثالث: أنّها جاءت ردّة فعلٍ على الهزيمة العربية أمام الإسبان، فقد ظهرت تلك الحكاية بعد سقوط طليطلة، العام 478ه، وليس قبلها، وهي بداية تفكك الجبهة الأندلسية، وكان العرب في أمسّ الحاجة إلى بطولات تستند على الأساطير؛ لأنّها عجزت عن حلّ مشاكلها في ضوء الواقع والحاضر.
في هذا السياق، يقول أستاذ التاريخ في كلية آداب جامعة طنطا، الدكتور محمد فياض، إنّه من "المهم جداً عرض الوقائع التاريخية المشهورة على المنهج العلمي، مرة بعد مرة، لتنقيتها من الوقائع المزيفة، وللاستفادة من الوقائع الحقيقية"، مؤكداً في حديثه لـ"حفريات" أنّ كثيراً من الحركات الدينية "انطلقت من تفسير خاطئ، أو من الإيمان بوقائع غير حقيقية، وبالتالي؛ شاهدنا الكثير من الانحرافات في الوعي".
ويرى فياض أنّ حكاية حرق طارق بن زياد للسفن تأتي ضمن تلك الأساطير الكثيرة التي يجب التوقف عندها، ورسم شخصياتنا التاريخية بأمانة وواقعية، بعيداً عن التهويل الذي قد يدفع إلى السلبية والركون إلى ماضوية موهومة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية