
تحاول حركة طالبان المتشددة إقناع المجتمع الدولي والمحلي بأنها لم تعد حاضنة للتنظيمات الإرهابية، وأنها تحتكم للديمقراطية، وتلتزم بالحريات، وتعهدت باحترام حقوق المرأة، وحماية الأجانب والأفغان على السواء، لتحصد مكتسبات سياسية على أرض الواقع بعد استيلائها على السلطة في أفغانستان.
ومن الإجراءات الأولى التي اتخذتها، أعلنت حركة طالبان اليوم "عفواً عاماً" عن كل موظفي الدولة داعية إياهم إلى معاودة العمل.
وقالت الحركة، في بيان لها نقلته وكالة "فرانس برس": "صدر عفو عام عن الجميع، لذا يمكنكم معاودة حياتكم الطبيعية بثقة تامة".
ولم تستطع الحركة إقناع المواطنين بسلميتها، فقد نقلت وكالة "رويترز" عن موظف حكومي سابق، يختبئ الآن في كابول، قوله: "القلق يساور الجميع، لم يستهدفوا الناس بعد، لكنهم سيفعلون، وهذه هي الحقيقة، ربما خلال أسبوعين أو 3، ولهذا يكافح الناس من أجل الخروج الآن".
ورغم إظهار وجه أكثر اعتدالاً، فإنّ الكثيرين من الأفغان يخشون أن تعود طالبان إلى ممارساتها القاسية السابقة المتصلة بفرضها أحكام الشريعة، ففي فترة حكم الحركة بين عامي 1996 و2001 لم يكن يُسمح للنساء بالعمل، وكانت الحركة تطبق عقوبات مثل الرجم والجلد والشنق.
وفي سياق متصل، قالت صحيفة "وول ستريت جورنال": إنه في اليوم الأول من سقوط كابول سيطر مقاتلو طالبان على الشوارع وفتشوا منازل ومكاتب المسؤولين الحكوميين ووسائل الإعلام، وخيّم الخوف والخطر على جميع أنحاء العاصمة الأفغانية.
وأضافت: "نصب مسلحون نقاط تفتيش في أنحاء المدينة التي يبلغ عدد سكانها 6 ملايين نسمة، وفرضوا في تمام الـ9 مساء حظر التجول، واستولوا على مواقع الجيش والشرطة".
موظف حكومي سابق: لم يستهدفوا الناس بعد، لكنهم سيفعلون، وهذه هي الحقيقة، ولهذا يكافح الناس من أجل الخروج الآن
وصعد المقاتلون، الذين ارتسمت على وجوههم الابتسامة بعد انتصار الحركة، على المركبات العسكرية الأمريكية والأفغانية التي تم الاستيلاء عليها، رافعين علم طالبان الأبيض.
وفتش المتمردون هواتف المارة بحثاً عن أدلة على اتصالات مع الحكومة أو مواد قد يعتبرونها غير إسلامية.
وانتشرت صور لتغطيتهم إعلانات عن فساتين زفاف تظهر فيها النساء بشعر مكشوف. وأغلقت المتاجر أبوابها في جميع أنحاء المدينة، بحسب "وول ستريت جورنال".
وفي مقطع فيديو تم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تجول مقاتلو طالبان وهم يضحكون حول مبنى البرلمان في ضواحي المدينة.
وتنقل الصحيفة الأمريكية عن روزينا، وهي امرأة أفغانية كندية تزور كابول مع زوجها الأفغاني، قولها: إنّ مقاتلي طالبان جاؤوا إلى الفندق الذي يقيمان به أمس، بينما كانت هي في الحديقة الخلفية، فركضت خائفة إلى غرفتهما في الطابق العلوي، واختبأت في الحمام، وبعد دقائق تمكن مقاتلو طالبان، بصحبة مدير الفندق، من إقناعها بالخروج.
وقالت إنّ 3 مسلحين فتشوا حقيبتها وأمتعتها هي وزوجها، وفحصوا جواز سفرها وطرحوا أسئلة بشأن علاقتها بزوجها، وطلبوا الاطلاع على وثيقة الزواج، وعندما اعترض زوجها قائلاً إنّ المسلمين المتدينين لا ينتهكون خصوصية زوجته، صفعوه على وجهه وضربوه على ظهره بأسلحتهم، على حد قولها.
وبمجرد مغادرة المقاتلين، هربت روزينا وزوجها من الفندق، وقالت: "كنت أخشى أن يختطفوني أو زوجي".
صلاح الدين الجورشي: ما حصل في أفغانستان سيعيد الثقة إلى التنظيمات الإرهابية والأصولية العنيفة مثل تنظيم القاعدة وفروعها وتنظيم داعش
وبحسب "وول ستريت جورنال"، يبدو أنّ طالبان تمتنع عن تنفيذ الاعتقالات الجماعية الفورية أو ارتكاب أعمال عنف في كابول، "لكنّ سلوكها في الأسابيع الأخيرة يشير إلى أنها ستسعى للانتقام على الأقل من بعض أولئك الذين عملوا لصالح الحكومة أو الدول الأجنبية".
ومع انتشار المسلحين في أنحاء أفغانستان، أفاد سكان الأماكن الواقعة تحت سيطرتهم بإعدام جنود حكوميين، وزواج قسري بين النساء ومقاتلي طالبان، وهجمات غير مبررة على المدنيين.
ورغم تلك الحوادث تصر طالبان أنها لن تقوم بأيّ انتهاكات أو جرائم بحق الأفغان أو الأجانب في البلاد، وحول الموضوع قال المتحدث باسم طالبان سهيل شاهين، في رسالة على تويتر: إنّ مقاتلي الحركة لديهم أوامر صارمة بعدم إيذاء أحد، وأضاف "لن تتعرض أرواح وممتلكات وكرامة أحد للأذى، بل ينبغي على المجاهدين حمايتها".
وقد علّق أندرياس إيجرت رئيس الرابطة الاتحادية لقدامى المحاربين الألمان الذي خدم في أفغانستان قائلاً: "بالنسبة إليّ، أفغانستان ستصبح خلافة وملاذاً للقوات الإسلامية"، مضيفاً: "وخلال وقت قصير، سنرى الوضع ذاته الذي رأيناه قبل 20 عاماً".
وتثير سيطرة حركة طالبان على أفغانستان تساؤلات حول تأثير ذلك على سياسات الدول العربية الحليفة للغرب، وعلى التنظيمات الإرهابية في العالم بشكل عام والدول العربية بشكل خاص.
عن مستقبل علاقة طالبان بالقاعدة بعد سيطرة الأولى على أفغانستان، قال المسؤول السابق في البنتاغون والباحث في معهد أمريكان إنتربرايز مايكل روبن: "لم تكن طالبان أبداً صادقة بشأن قطع العلاقات مع القاعدة، وما كان يجب أن نصدقها أبداً"، وأضاف "نحن لا نتحدث عن مجموعتين عسكريتين تقطعان العلاقات، إنما عن شقيقين، أو نسيبين".
وأضاف لوكالة "فرانس برس" أنّ "وجود الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي منع القاعدة من استخدام أفغانستان ملاذاً، ولم يتمكنوا من القيام بأنشطة علناً، الآن باتت الأمور مفتوحة".
والروابط بين هذين الفرعين من الإسلاميين المتطرفين مصدرها التاريخ الذي يجمع بينهما، فقد كان والدا سراج الدين حقاني والملا يعقوبي، وهما مسؤولان كبيران في طالبان، على صلة بـ"بن لادن"، وتلقى زعيم طالبان هيبة الله أخوند زاده الإشادة من جانب القاعدة، ووصفه زعيمها أيمن الظواهري عند تعيينه في 2016 بأنه "أمير المؤمنين".
وقد توصل منسق فريق الأمم المتحدة المكلف بمراقبة تنظيم داعش والقاعدة وطالبان، إدموند فيتون براون، إلى النتيجة نفسها في شباط (فبراير) الماضي، وقال لشبكة "إن بي سي" الأمريكية: "نعتقد أنّ القيادة العليا للقاعدة ما تزال تحت حماية طالبان".
وصلت طالبان الأحد إلى العاصمة الأفغانية كابل، وفرّ الرئيس أشرف غني من البلاد، تاركاً السلطة عملياً للحركة، في مؤشّر إلى انتصارها العسكري الكامل في غضون 10 أيام فقط.
روبن: لم تكن طالبان أبداً صادقة بشأن قطع العلاقات مع القاعدة، والقيادة العليا للتنظيم الإرهابي ما تزال تحت حماية الحركة الأفغانية
لكنّ الطبيعة الدقيقة للروابط بينهما في الأشهر المقبلة ما يزال يتعين تحديدها، إذ لا يمكن لطالبان أن تسمح بالخطأ نفسه الذي حصل قبل 20 عاماً بحيث تجازف بالتعرض لرد غربي عنيف أو حتى عزل نفسها عن الصين وروسيا، اللتين من المرتقب أن تعترفا سريعاً بالنظام الجديد.
كما أنّ التنظيم الذي أسسه بن لادن تغير كثيراً في العقدين الماضيين، بسبب لا مركزيته الشديدة، وانتشر في العديد من دول العالم، من القارة الأفريقية إلى جنوب شرق آسيا مروراً بالشرق الأوسط، وذلك على حساب إضعاف كبير لسلطته المركزية، لكن مع اكتساب قدرة أكبر على الحركة والمرونة، وفق تحليل شبكة الحرّة.
لذلك، فإنّ وجوده في أفغانستان سيكون أكثر سرّية وبشكل رسمي أقل، كما توقع الباحث في برنامج حول التطرف في جامعة جورج واشنطن أيمن جواد التميمي، مؤكداً "لا أعتقد أنّ طالبان ستسمح لهم بفتح معسكرات تدريب يمكن رصدها من الخارج وتعرضها للقصف".
وأوضح الباحث العراقي في تصريح صحفي أنّ قادة كابول الجدد قد يرغبون في انتهاج سياسة مماثلة لتلك التي تتهم طهران بها "عبر إبقاء قادة القاعدة قيد إقامة جبرية، مع ترك هامش مناورة لهم للتواصل مع الفروع في الخارج".
أندرياس إيجرت: أفغانستان ستصبح خلافة وملاذاً للقوات الإسلامية، وخلال وقت قصير سنرى الوضع ذاته الذي رأيناه قبل 20 عاماً
بالتالي، فإنّ معطيات جديدة ستفرض نفسها في كل أنحاء البلاد، فالتنظيم الذي دبر اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، الذي يصفه الخبراء بأنه غير قادر حالياً على شن ضربات قوية في الغرب، بات بإمكانه الآن أن يحلم بإعادة تشكيل صفوفه.
وفي سياق متصل، يرى المفكر الإسلامي صلاح الدين الجورشي أنّ التطورات الأخيرة في أفغانستان "ستنعكس آلياً على المنطقة العربية".
وقال في تصريح صحفي لـ DW عربية: "ما حصل في أفغانستان سيعيد الثقة إلى التنظيمات الإرهابية والأصولية العنيفة مثل تنظيم القاعدة وفروعها وتنظيم داعش، وسيؤكد لها أنّ ما يسمونه بالجهاد قد يكون وسيلة لإثبات الذات وتحقيق الأهداف السياسية، وهذا -بطبيعة الحال- سيؤثر على الوضع الأمني في المنطقة العربية".
ويوافقه في الرأي الخبير في قضايا الإرهاب غيدو شتاينبيرغ بأنه "من الواضح تماماً أنّ الجهاديين والسلفيين والإسلاميين في جميع أنحاء العالم يراقبون الأحداث (في أفغانستان) ويرون انتصار طالبان على أنه تشجيع (لهم)".
ويحذّر الباحث في معهد الدراسات الأمنية والسياسية في برلين شتاينبيرغ "نتوقع أنه ليس فقط داعش، بل القاعدة والجماعات الأصغر أيضاً ستصبح أقوى".
ويتفق في ذلك أيضاً الباحث في قضايا الأمن الدولي والإرهاب جاسم محمد، الذي يحذر من أنه مع صعود طالبان في أفغانستان "سيزداد نشاط تنظيم داعش في الشرق الأوسط، خصوصاً في سورية والعراق، وشمال أفريقيا".
ويشير جاسم محمد إلى الاختلاف بين طالبان والتنظيمات المتطرفة الأخرى، ويوضح: "كل هؤلاء تجمعهم مظلة التطرف، ورغم أنني أعتبر أنّ طالبان هي المظلة الأكبر لتنظيمي القاعدة وداعش، إلا أنها تختلف عنهما في أنّ عناصرها من أهالي البلد وأنها تتبدل؛ إذ يقدّم أعضاؤها أنفسهم الآن كسياسيين، فطالبان 2001 ليست كطالبان 2021".
ويعتقد محمد أنّ أكثر بلدين سيتأثران بصعود طالبان في أفغانستان هما سوريا وليبيا، ويضيف: "سوريا فيها فرع لتنظيم القاعدة (حالياً جبهة تحرير الشام التي تسيطر على إدلب)، أمّا ليبيا، فالفوضى فيها وتضاريسها الصعبة تتيح لشبكات الإرهاب العالمية دعم بعضها البعض، فضلاً عن وجود أطراف إقليمية ودولية متورطة في الصراع تستخدم الشبكات الإرهابية لصالحها".
وفي سوريا، يرى شتاينبيرغ أنّ الجهاديين "سيستمدون على الأقل بعض الإلهام من الأحداث (في أفغانستان)"، ويضيف: "سيوضحون لأنصارهم أنهم إذا صمدوا لفترة كافية، فستكون لديهم فرصة للانتصار على الأمريكيين والأوروبيين".
ويبقى مستقبل أفغانستان مرتبطاً بنوعية السياسات التي ستعتمدها حركة طالبان في الأشهر المقبلة، التساؤل الثاني يتعلق فيما إذا كان المجتمع الدولي سيقدّم طالبان بوجهها الجديد، أم سيتركه "قبيحاً" كما يراه كثير من ضحاياه الأفغان؟