إميل أمين
مع معركة «الباغوز» وما يبدو ظاهراً للعيان أنه النهاية الطبيعية لتنظيم دولة الخلافة «داعش»، يعن لنا أن نتساءل أهذه بالفعل هي النهاية الحقيقية لهذا التنظيم الدموي الذي أذاق العالم مرارة غير مسبوقة، واستحضر من الماضي السحيق مشاهد ممجوجة إلى حد المكروهة من زمن هولاكو وجنكيز خان وقاطعي الرؤوس؟
لا يمكن التسليم بأن «داعش» انتهى مرة وإلى الأبد، ذلك أن مجيئه وظهوره غير المحبوب ولا المرغوب لم يكن من فراغ، وبالتبعية لن ينصرف إلى طريق اللاشيء أو يتبخر في الهواء دفعة واحدة.
باختصار غير مخلٍ وما يسمح به المسطح المتاح للكتابة، فإن علاقات الغرب الأوروبي والأميركي مع جماعات الإسلام السياسي بدأت باكراً جداً في البيت الأبيض من خلال ما يعرف بـ«لاهوت الاحتواء» للأخوين آلان فوستر دالاس، وجون فوستر دالاس، وكانت الوساطة بينهما سعيد رمضان، صهر حسن البنا، مؤسس جماعة «الإخوان» الإرهابية. اعتبر الأميركيون منذ ذلك الوقت أن العالم الإسلامي يمكن أن يكون شريكاً في وقف الزحف السوفييتي ناحية منابع النفط في الخليج العربي، وقطع الطريق على حلم بطرس الأكبر في الوصول إلى المياه الدافئة سواء في الخليج العربي أو البحر الأبيض المتوسط.
والشاهد أن السوفييت قد وقعوا في فخ أفغانستان، وبالقدر عينه ابتلع الأميركيون طعم تجنيد العرب والمسلمين لمواجهة السوفييت هناك، وما بين تورابورا وقندهار ولدت «القاعدة»، ومن رحمها نشأت «داعش» في العراق وسوريا. انهار «داعش» من جراء التحدي الأمني، فلم يكن لبضعة آلاف مهما قويت شوكتهم أن يواجهوا جيوش القيصر الروسي، ولا ضربات العم سام الأمير، غير أن وصف المشهد على أنه النهاية لهو أمر ينافي ويجافي الحقيقة الماورائية.
انهارت دولة الخلافة المزعومة، لكن الآلاف من أفراد التنظيم قد تسربوا بشكل غير معروف حول العالم، وهناك شكاوى كبرى من قيادات أمنية عراقية، تفيد بأن ما يشبه الخطة الممنهجة أدت إلى دخول بقايا «الدواعش» إلى العراق، حيث المحاصصات الطائفية توفر غطاءات من جراء الصراعات البينية بين العراقيين وبعضهم بعضاً لعناصر التنظيم ليعيد تنظيم نفسه مرة أخرى. هل من يقف وراء «داعش» حتى بعد الانهيار الشكلي الآني؟
لن نلجأ إلى التفسيرات المؤامراتية، لكن التاريخ وإن لم يكن كله بالضرورة مؤامرة، فإن المؤامرة موجودة دائماً وأبداً في بطونه، وما يقال اليوم همساً، حتماً سينادى به غداً من على السطوح.
العالم مشغول الآن بالجواب عن السؤال إلى أين مضى الآلاف من عناصر التنظيم، لاسيما وأن الكثير جداً من البلدان الأصلية لتلك الفئة الضالة قد رفضت استقبالهم، بل وسعى البعض إلى تجريدهم من جنسياتهم، ما يعني أنهم بالضرورة سيتوجهون إلى بقاع وأصقاع أخرى حول العالم، تجمع شملهم، وتوفر لهم الفرصة لانطلاقة جديدة، ومغامرات مستجدة.
مرة أخرى لا نفضل الفكر التآمري، لكن ذلك لا يمنعنا عن محاولة ربط المشاهد بعضها بعضاً، لاسيما وأن هناك استراتيجيات رئيسة لدول عظمى تمضي في إطارها، لا تلوي عنها شيئاً، استراتيجيات من قبيل وثيقة القرن الأميركي، تلك التي أخرجها المحافظون الجدد للعالم في نهاية تسعينات القرن الماضي، والهدف منها أن يبقى القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً بامتياز، وقد تم تعديل وتبديل جوهر الوثيقة من خلال استراتيجية «الاستدارة نحو آسيا»، لعام 2010، وجل أهدافها قطع الطريق على عودة روسيا أو انطلاق الصين في آفاق القطبية العالمية من جديد.
التساؤل المثير للقلق: «هل من رابط بين اختفاء الآلاف من عناصر «داعش» اليوم، وما يتردد عن رحيلهم إلى ضواحي أفغانستان بنوع خاص، وقصة المصالحة بين واشنطن وجماعة طالبان، تلك الحاضنة التاريخية التي فرخت القاعدة وأندادها حول العالم؟
يمكن للمرء أن يشتم رائحة تحالف جديد، وإن كانت ملامحه ومعالمه غير واضحة بهدف واحد وحيد، واضح جداً للعيان وموصول بالصراع الأميركي مع روسيا والصين على أكثر من صعيد.
تذهب مجلة «الايكونوميست» البريطانية ذائعة الصيت في تحليل إشكالية انهيار دولة الخلافة مؤخراً إلى أن الهزيمة العسكرية لن تقضي على «الدواعش» وحلمهم بإنشاء دولة، ومرد ذلك أن هناك أناس لا يزالون يشعرون باضطهاد سياسي واقتصادي، وفي حين يراهم العالم إرهابيين، ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم «مجاهدين في سبيل الله».
المعنى المقلق هنا أننا أمام صراع بين رؤى ثيولوجية دوجمائية تؤمن إيماناً بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وحكومات تقيس السياسة برؤاها النسبية، ولهذا تظهر يوماً تلو الآخر جماعات جديدة مثل «حراس الدين»، أو «نصرة الإسلام والمسلمين»، و«جند الشام»، و«النصرة». نهاية أسطورة «داعش» الحقيقية لن تتحقق على الأرض إلا بتضافر جهود فكرية وعقلية، سياسية واجتماعية، اقتصادية ودينية.. إنها حرب العقول والقلوب أول الأمر وآخره، شرط أن تستفيق القوى الكبرى من أخطائها وخطاياها التاريخية.
عن "الاتحاد"