ننحني للريح، ولا ننكسر

ننحني للريح، ولا ننكسر

ننحني للريح، ولا ننكسر


23/07/2023

يهجس كثيرون بأنّ أهون الشرور الآن هو التعامل مع السلطات الراهنة، وتحديد المطلوب منّا ومنها: منّا أن تننازل "طواعية" عن الأفكار الشمولية الكبرى، وأن نبحث عن تسويات أساسية في منظومة العيش والعدالة والكرامة. والمطلوب منها أن تصلح اعوجاجها بإجراءات تعيد إنتاج العلاقة بين الدولة والمجتمع بأدوات خلاقة تقطع مع الماضي، وتتعامل مع المواطنة بمفهوم الشراكة لا التبعية، وأن تتخلى عن تبجيل اعتبارات الولاء وتقديمها على المهارة.

التنازلات ليست باهظة من قبل الطرفين، لا سيما في الدول التي تعاني في اقتصادها ومالها ومديونيتها، وتشكو من صداع المشروعية السياسية، والتي يصلح فيها قول المتنبي "لا خيل عندك تهديها ولا مال، فليسعد النطق إن لم تسعد الحالُ".

ويستدعي هذا الطرح إعادة التحديق في الأفكار التي أعلت قيم الأمن على مطالب الديمقراطية، وتلك التي نظّرت للمستبد العادل، أو المتنور، على حساب انفلات الصراع على السلطة، في لحظة تاريخية لمّا يزال فيها الشعب/ المواطنون/ الأفراد/ الجماهير أسرى حالة الطفولة الحضارية.

واستطراداً، فإنّ الصبر على تشكيل منظومة من الثقافة الديمقراطية، يحتاج إلى وقت قد يطول أو يقصر، لكنّه ضروري لكي يتمكن الناس من قيادة أنفسهم، امتثالاً للتعريف اليوناني الشائع عن الديمقراطية باعتبارها "حكم الشعب" من خلال عملية الاقتراع التي صارت في المواثيق الدولية جزءاً من العهد بين السلطة والمجتمع.

أثبتت لحظات فاصلة في التاريخ أنّ المجابهات الكبرى بين الأيديولوجيات حدَّ كسر العظم قادت الناس إلى جحيم الموت، ودمرت منجزات الحضارة الإنسانية

فهل وصلنا، كمجتمعات عربية، إلى هذا المستوى من التعاطي الخلّاق لتداول السلطة، بحيث يكون القانون هو الفيصل المقدس الذي لا يجرؤ على خلخلته أي فرد أو حزب أو قبيلة أو تحالف سياسي أو مذهبي مهما علا شأنه؟

المحدّق في الآليات التي تحرك "القوى" في المجتمعات العربية يرى أنها ترتد إلى عصبيات ضيقة، وإلى إثنيات، وانشدادات قبلية وطائفية وإقليمية وعنصرية تجعل الوئام حول مشتركات ناظمة ضرباً من العمل الصعب الذي يقارب المستحيل؟

ما العمل إذاً؟

ثمة نماذج عربية انبثق فيها التغيير "من فوق" بعدما أخفقت عملية التغيير "من تحت" أو أنتجت قوى "ظلامية" لا ترى الدولة إلا بعيون مصالحها الأيديولوجية والمذهبية والعصبية الضيقة.

سيقول فريق إنّ التغيير "من فوق" ناجم عن رغبة إكراهية فيها من العسف أكثر مما فيها من العدل والإنصاف، بينما يرى فريق آخر أنّ التغيير بتلك الطريقة أمر لا مفر منه لحفظ المجتمع والدولة، والشروع في عملية التحديث التي تُخرج الناس من كهف الماضي وتضعهم على سكة الاشتباك مع العصر، وربما في هذه المسيرة الطويلة يعود المشككون إلى رشدهم ويرون أنّ الحضارة تجلب الاستقرار، وبالتالي الرفاهية والتحفيز الذاتي والجمعي على الابتكار والريادة، وهذه كلها أشدّ خيرية من قيم تسعى إلى شدّ اللحظة الراهنة إلى القرون الوسطى، لأنّ السكنى في الماضي محمية بالنصوص، بينما الإقامة في المستقبل مسيجة بالمخاوف، وفق أولئك القروسطيين.

أثبتت لحظات فاصلة في التاريخ أنّ المجابهات الكبرى بين الأيديولوجيات حدَّ كسر العظم قادت الناس إلى جحيم الموت، ودمرت منجزات الحضارة الإنسانية. لذلك توافق البشر على التفاوض الذي يعني التنازل عن بعض الأفكار "ولو مرحلياً" من أجل تمكين البشر من العيش بسلام، وهذا هدف سامٍ وجليل يهون دونه كلّ شيء.

التنازلات لا تعني دائماً هزائم صافية. لقد قالها حكيم مجرب: ننحني للريح، ولا ننكسر!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية