نعوم تشومسكي: نحن في أخطر نقطة في تاريخ البشرية (1)

نعوم تشومسكي: نحن في أخطر نقطة في تاريخ البشرية (1)

نعوم تشومسكي: نحن في أخطر نقطة في تاريخ البشرية (1)


كاتب ومترجم جزائري
18/07/2023

ترجمة: مدني قصري

نعيش اليوم في عالم يواجه تهديدات وجودية، حيث أضحت الفوارق القصوى تمزّق مجتمعاتنا، فيما الديمقراطية في تراجع حاد. وفي الوقت نفسه لا تزال الولايات المتحدة مصمّمة في عنادٍ مستميت على الحفاظ على هيمنةٍ عالمية، ولهذا فإنّ تعاوُناً دولياً أصبح ضرورياً ومُلِحّاً بشكل عاجل لمواجهة التحديات العديدة التي يواجهها كوكب الأرض. في المقابلة التالية يشرح نعوم تشومسكي لماذا نحن في أخطر نقطة في تاريخ البشرية، ولماذا تطفو اليوم ظاهرة القوميات والعنصرية والتطرف بشتى أشكاله في جميع أنحاء العالم.

نعوم تشومسكي أستاذ فخري في قسم اللسانيات والفلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأستاذ كرسي أغنيس نيلمز هوري Agnese Nelms Haury لبرنامج العدالة البيئية والاجتماعية بجامعة أريزونا. إنه واحد من أكثر العلماء الذين يتم الاستشهاد بهم في العالم، ومفكر معترف به يعتبره الملايين كنزاً وطنياً ودولًياً، وقد نشر تشومسكي أكثر من 150 كتاباً في علم اللغة والفكر السياسي والاجتماعي والاقتصاد السياسي والدراسات الإعلامية والسياسة الأمريكية الخارجية والشؤون العالمية. أحدث كتبه : "أسرار الكلمات" The Secrets of Words, 2022)​​)، و"الانسحاب: العراق وليبيا وأفغانستان وهشاشة القوة الأمريكية" ( The Withdrawal : Iraq, Libya, Afghanistan, and the Fragility of US Power, 2022)، و"الهاوية: النيوليبرالية والوباء والحاجة الملحة للتغيير الاجتماعي(The Precipice : Neoliberalism, the Pandemic and the Urgent Need for Social Change, 2021)                                  

هنا الجزء الأول من مقابلة طويلة أجراها مع تشومسكي، سي جي بوليكرونيو:

ذكرتَ مراراً وتكراراً أنّ العالم يقف في أخطر نقطة في تاريخ البشرية. لماذا تعتقد ذلك؟ هل الأسلحة النووية اليوم أكثر خطورة ممّا كانت عليه في الماضي؟ هل صعود الاستبداد اليميني في السنوات الأخيرة أصبح أكثر خطورة من صعود وانتشار الفاشية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي؟ أم أنه بسبب أزمة المناخ التي قلتَ إنّها أكبر تهديد يواجهه العالم على الإطلاق؟ هل يمكنك أن تشرح من خلال مقارنات لماذا تعتقد أنّ العالم أصبح اليوم أكثر خطورة مما كان عليه من قبل؟

نعوم تشومسكي: أزمة المناخ فريدة من نوعها في تاريخ البشرية وتزداد سوءاً عاماً بعد عام. فإذا لم يتم اتخاذ إجراءات صارمة ومهمة في العقود القادمة فإنّ العالم سيتعرّض لخطر الوصول إلى نقطة اللاعودة ولمواجهة كارثة لا يمكن وصفها. لا شيء مؤكد، بالطبع، لكنّ هذا التقييم يبدو معقولاً ومحتملاً للغاية.

أصبحت أنظمة الأسلحة أكثر خطورة وأكثر إثارة للقلق. منذ قصف هيروشيما ونحن نعيش تحت سيف ديموقليس. بعد مرور بضع سنوات، قبل 70 عاماً اختبرت الولايات المتحدة، ثم روسيا، الأسلحة النووية الحرارية، وهو ما كشف أنّ الذكاء البشري قد "تطور" إلى حد القدرة على تدمير كل شيء.

ترتبط المسائل التشغيلية بالشروط الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تحدّ من استخدامها. كادت هذه الشروط أن تنفجر خلال أزمة الصواريخ عام 1962، والتي وصَفها آرثر شليزنجر بأنها كانت أخطر لحظة في تاريخ العالم، لسبب وجيه، على الرغم من أننا قد نصل قريباً مرّة أخرى في أوروبا وآسيا إلى مثل تلك اللحظة التي لا توصف. لقد أتاح نظام التدمير المتبادل المؤكد Mutually Assured Destruction (MAD) تأسيسَ شكل من أشكال الأمن، مُقلِقاً ومتقلب المزاج، ولكن ربما كان أفضل طريقة لتحقيق التحوّل الاجتماعي والثقافي الذي، للأسف، لا يزال مجرد طموح.

أزمة المناخ فريدة من نوعها في تاريخ البشرية وتزداد سوءاً عاماً بعد عام

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تم تقويض نظام الأمن MAD المذكور بسبب الاعتداد بالنفس عند كلينتون، ومشروع بوش الثاني- ترامب في تفكيك نظام الحدّ من التسلح الذي تم إنشاؤه بشق الأنفس. لقد قام بنيامين شوارتز وكريستوفر لاينْ مؤخراً بإجراء دراسة رئيسية حول هذه الموضوعات، في سياق الغزو الروسي لأوكرانيا. في هذه الدراسة يشرحان كيف بدأ كلينتون حقبة جديدة في الشؤون الدولية، حيث "أصبحت الولايات المتحدة قوة ثورية في السياسة العالمية" مع تخليها عن "الدبلوماسية القديمة" وإرسائها للمفهوم الثوري للنظام العالمي الذي تفضِّله.

"كانت الدبلوماسية القديمة" تسعى إلى الحفاظ على النظام العالمي من خلال "فهم مصالح الخصم ودوافعه، والقدرة على تقديم تنازلات حكيمة". أمّا الأحادية الجديدة المعتدّة بنفسها فقد وضعت كـ "هدفٍ مشروع (للولايات المتحدة) تعديلَ أو استئصال هذه الترتيبات المرتبطة ببلدان أخرى إذا لم تكن متوافقة مع المُثل والقيم التي تُجاهِر بها".

في الخلفية يوجد مبدأ كلينتون القائل بأنّ الولايات المتحدة يجب أن تكون مستعدة لاستخدام القوة، بشكل متعدد الأطراف إذا استطاعت ذلك، ومن جانب واحد إذا لزم الأمر، لتأمين مصالحها الحيوية و"الوصول دون عوائق إلى الأسواق الرئيسية وإمدادات الطاقة وإلى الموارد الاستراتيجية".

إذا لم يتم اتخاذ إجراءات صارمة ومهمة بخصوص أزمة المناخ فإنّ العالم سيتعرّض لخطر الوصول إلى نقطة اللاعودة

أدت العقيدة العسكرية المصاحبة لهذا المبدأ إلى إنشاء نظام أسلحة نووية أكثر تطوّراً لا يمكن فهمه إلا من حيث أنه "قدرة وقائية مضادة ضد روسيا والصين - قدرة الضربة الأولى، مدعومة من قبل بوش بتفكيك المعاهدة التي تحظر تركيب أنظمة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية بالقرب من حدود الخصم. والحال أنه يتم تقديم هذه الأنظمة على أنها دفاعية، لكن جميع الأطراف يدركون أنها أسلحة الضربة الأولى.

أدت هذه الإجراءات إلى حد كبير إلى إضعاف النظام القديم للردع المتبادل، واستبداله بمخاطر متفاقمة بشكل كبير.

حداثة هذه التطورات قابلة للنقاش، لكن شوارتز ولين أثبتا بقوّة أنّ هذه النزعة الأحادية المعتدّة بنفسها والتجاهل الصريح للعدو المهزوم قد لعبا دوراً مُهِمّاً في إشعال حرب كبرى في أوروبا مع غزو روسيا لأوكرانيا، مع خطر التصعيد نحو حرب شاملة.

لا شك أنّ تطوّر الوضع في قارة آسيا لا يقل إثارة للقلق. بدعمٍ قويّ من الحزبين والإعلام تواجه واشنطن الصينَ على الجبهتين العسكرية والاقتصادية. ومع أوروبا الواقعة تحت سيطرتها الكاملة بفضل الغزو الروسي لأوكرانيا تمكنت الولايات المتحدة من توسيع الناتو إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهكذا تم إشراك أوروبا في حملتها الهادفة إلى منع الصين من أن تطوّر نفسها - وهو برنامج لا تَعتبِره الولاياتُ المتحدة شرعياً وحسب، بل جديراً بالثناء أيضاً. لقد أعربت إحدى حمائم الإدارة الأمريكية، وزيرة التجارة، جينا ريموندو عن هذا الإجماع بوضوح: "إذا كنا نريد حقاً إبطاء وتيرة الابتكار في الصين فلا غنى لنا عن العمل مع أوروبا".

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تم تقويض نظام الأمن MAD المذكور بسبب الاعتداد بالنفس عند كلينتون

من المهم بشكل خاص منع الصين من تطوير الطاقات المستدامة، وهو المجال الذي تحتل فيه الصين الصدارة إلى حد كبير، ومن المتوقع أن تحقق الاكتفاء الذاتي من الطاقة بحلول عام 2060 وفقاً لتحيليلات جولدمان ساكس. بل وتهدّد الصينُ بتحقيق اختراقات جديدة في مجال صناعة آلات يمكن أن تساعد في إنقاذ العالم من كارثة المناخ.

من الواضح أنّ الأمر يتعلق بتهديد يجب احتواؤه، تماماً مثل احتواء إصرار الصين على سياسة الصين الواحدة بالنسبة لتايوان، وهو ما تبنته الولايات المتحدة أيضاً على مدى 50 عاماً، وهو ما سمح بالحفاظ على السلام لمدة 50 عاماً، والذي أصبحت واشنطن بصدد إلغائه. هناك العديد من الأشياء الأخرى التي يمكن إضافتها والتي تعزز هذه الصورة، وهي قضايا تم تناولها في مقام آخر.

من الصعب وضع كلمات دقيقة لوصف هذه الثقافة الغريبة التي تزداد غرابة أكثر فأكثر، ولكن من البديهي تقريباً القول إنه ما لم تجد الولايات المتحدة والصين طرقاً للتكيف مع بعضهما البعض، كما فعلت في غالب الأحيان قوى عظمى ذات مصالح متضاربة في الماضي، فسوف نخسِر كلَّ شيء في النهاية.

المقارنات التاريخية لها حدودها بالطبع، ولكن هناك نوعان من التماثلات ذات الصلة تم ذكرهما عدة مرّات في هذا السياق: اتحاد أوروبا الذي أنشئ في عام 1815 ومعاهدة فرساي لعام 1919. الأوّل (الاتحاد) مثالٌ ممتاز على "الدبلوماسية القديمة". لقد تم دمج المعتدي المهزوم (فرنسا) في النظام الدولي الجديد كشريك على قدم المساواة. وأدى هذا إلى قرنٍ من السلام النسبي. ومعاهدة فرساي مثالٌ نموذجي للمفهوم "الثوري" للنظام العالمي الذي أسّسه الاعتدادُ بالنفس الذي ساد في التسعينيات وعواقبه. ألمانيا المهزومة لم يتم دمجها في النظام الدولي لِما بعد الحرب، ولكن تمت معاقبتها وإهانتها بشدة. ونحن نعلم إلى أين أدى ذلك.

من المهم منع الصين من تطوير الطاقات المستدامة، وهو المجال الذي تحتل فيه الصين الصدارة، ومن المتوقع أن تحقق الاكتفاء الذاتي من الطاقة بحلول 2060

في الوقت الحالي هناك مفهومان متعارضان للنظام العالمي: نظام الأمم المتحدة والنظام "القائم على القواعد"، المرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالقطبية المتعددة والقطبية الأحادية، وهذه الأخيرة تعني هيمنة الولايات المتحدة.

ترفض الولايات المتحدة وحلفاؤها (أو "التابعون" أو "الدول شبه الإمبريالية" كما يطلق عليها أحياناً) نظامَ الأممَ المتحدة وتطالب بالالتزام بالنظام القائم على القواعد. وبشكل عام تدعم بقية دول العالم منظومة الأمم المتحدة وتعدّد الأقطاب.

يستند نظام الأمم المتحدة على ميثاق الأمم المتحدة، أساس القانون الدولي الحديث وهو "قانون البلاد الأعلى" في الولايات المتحدة بموجب الدستور الأمريكي، والذي يتعيّن على المسؤولين المنتخبين الالتزام به. لكن فيه عيب خطير: فهو يستبعد السياسة الخارجية للولايات المتحدة. يَحظر مبدؤُه الأساسي "التهديد بالقوّة أو استخدامها" في الشؤون الدولية إلا في ظروف ضيقة لا علاقة لها بنشاطات الولايات المتحدة. غير أنه من الصعب أن نجد رئيساً أمريكياً لم ينتهك الدستور الأمريكي في فترة ما بعد الحرب، وهو موضوع لا يحظى باهتمام كبير، كما تُبيّنه الأرشيفات.

منظمة التجارة العالمية (WTO) واحدة من الأركان الأساسية لهذا النظام القائم على القواعد والذي تهيمن عليه الولايات المتحدة

ما هو النظام المفضَّل القائم على القواعد؟ تعتمد الإجابة على مَن يضع القواعد ويحدد متى يجب اتباعها. الإجابة ليست غامضة: إنها القوّة المهيمنة التي استولت على عباءة الهيمنة على العالم من بريطانيا العظمى بعد الحرب العالمية الثانية، ووسّعت مجال عملها بشكل كبير.

منظمة التجارة العالمية (WTO) واحدة من الأركان الأساسية لهذا النظام القائم على القواعد والذي تهيمن عليه الولايات المتحدة. لذلك قد نتساءل كيف تفي به الولايات المتحدة.

بصفتها القوّة المهيمنة على العالم فإنّ الولايات المتحدة هي الوحيدة القادرة على فرض عقوبات. فهي عقوبات مفروضة من قبل أطراف ثالثة، والتي يتعيّن على الآخرين الامتثال لها، وإلا... وهُم يَمتثِلون حتى عندما يعارضون هذه العقوبات بشدة. إنّ العقوبات الأمريكية التي تستهدف خنق كوبا خير مثال على ذلك. العالم كله يعارض هذه العقوبات، كما تُظهره الأصوات المنتظمة في الأمم المتحدة. لكنها تُحترَم.

عندما فرض كلينتون عقوبات أكثر وحشية من ذي قبل طلب الاتحادُ الأوروبي من منظمة التجارة العالمية تحديد مدى شرعيتها. لكنّ الولايات المتحدة انسحبت بغضب من الإجراءات، مما جعل هذه الإجراءات لاغية وباطلة. كان هناك سبب أوضحه وزير التجارة في حكومة كلينتون، ستيوارت إيزنستات: "لقد أكد إيزنستات لتبرير انسحاب الولايات المتحدة بأنّ أوروبا ظلت على مدى ثلاثة عقود تعترض على سياسة الولايات المتحدة تجاه كوبا التي يعود تاريخها إلى إدارة كينيدي". وكانت تلك السياسة تهدف بالكامل إلى فرض تغيير الحكومة في هافانا".

باختصار لا تتمتع أوروبا ومنظمة التجارة العالمية بأي اختصاص فعال للتأثير على حملة الترهيب طويلة الأمد والخنق الاقتصادي من قبل الولايات المتحدة للإطاحة بحكومة كوبا بالقوّة. العقوبات قائمة ويجب على أوروبا احترامها – وهو ما تلنزم به أوروبا. وهذا نموذج واضح لطبيعة النظام القائم على القواعد.

وهناك قرارات أخرى عديدة بلا طائل. فهكذا قضت المحكمة الدولية بأنّ تجميد الولايات المتحدة للأصول الإيرانية غير قانوني. لكن هذا القرار قلما كان له صدى يُذكر.

فالأمر ممكن فهمه. ففي إطار النظام القائم على القواعد فلم تعد السلطة العالمية تملك الحقّ في الانضمام إلى أحكام مَحكمة العدل الدولية ولا لقرارات منظمة التجارة العالمية. فهذا الحال قائم منذ سنوات. ففي عام 1986 انسحبت الولايات المتحدة من اختصاص محكمة العدل الدولية عندما أدانت هذه المحكمة الولايات المتحدة لحربها الإرهابية ضد نيكاراغوا وأمَرَتها بدفع تعويضات. لقد ردّت الولايات المتحدة بعد إدانة المحكمة بتصعيد الحرب.

للاستشهاد بمثال آخر للنظام القائم على القواعد انسحبت الولايات المتحدة وحدها من إجراءات المحكمة التي شُكلت لفحص التهم التي وجهتها يوغوسلافيا ضد الناتو. لقد وضّحت بحق أنّ يوغوسلافيا تحدثت عن الإبادة الجماعية، وأنّ الولايات المتحدة أقصت نفسها من المعاهدة الدولية التي تحظر الإبادة الجماعية.

ومن السهل أيضاً أن نفهم سبب رفض الولايات المتحدة لمنظومة الأمم المتحدة، والتي ترفض سياستَها الخارجية، وتفضّل نظاماً تضع فيه القواعد التي تناسبها وتملك فيها الحرية في إلغائها متى شاءت. ليست هناك حاجة لمناقشة سبب تفضيل الولايات المتحدة لنظام أحادي القطب على نظام متعدد الأقطاب.

تُطرَح كل هذه الاعتبارات بشكل حاسم في سياق النزاعات العالمية وما يصحبها من تهديدات على بقاء البشرية.

(يتبع أجزاء أخرى)

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

https://www.les-crises.fr/entretien-avec-noam-chomsky-sur-l-etat-du-monde/




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية