من هي عنايات الزيات التي أحرقت وجودها لأنّها لم تُر بما يكفي؟

من هي عنايات الزيات التي أحرقت وجودها لأنّها لم تُر بما يكفي؟

من هي عنايات الزيات التي أحرقت وجودها لأنّها لم تُر بما يكفي؟


11/08/2024

لماذا انتحرت عنايات الزيات؟ هذا هو السؤال الذي راحت تبحث عن إجابته إيمان مرسال في روايتها "في أثر عنايات الزيات"، العمل الذي لا يُصنف كرواية، أو سيرة ذاتية، أو رحلة تقصٍّ؛ وإنّما هو عمل إنساني يتقاطع مع عالم الكاتبة وعالم القراء أيضاً. 

عنايات شابة من أسرة ثرية، عاشت زخم خمسينيات وستينيات مصر في القرن الفائت، تلقت تعليمها في مدرسة ألمانية، وكان والدها "عباس الزيات"، رجلاً مثقفاً وعصرياً، وهو أمين جامعة القاهرة، الذي لم يبخل عليها بما يكون من أب له هذا الثراء والسعة العقلية، جمعتها صداقة حميمة بالفنانة الجميلة نادية لطفي، التي أوصلتها إلى الكتّاب الذين ستعرض عليهم عنايات إنتاجها الأدبي فيما بعد. تزوجت عنايات ورزقت بابن، وكتبت روايتها الأولى "الحب والصمت"، وذهبت بها إلى الدار القومية للنشر، لكنّ روايتها رُفضت، فوضعت حداً لحياتها بتناول أقراص الحبوب المنومة. هذه هي المعلومات الأولية التي تجمعت لإيمان مرسال.

عندما قرأت إيمان رواية عنايات في شبابها الأول، ظلّت مسكونة بروح تلك الكاتبة التي لم تكتب سوى رواية واحدة، أنهت بعدها وجودها حين رُفض نشرها، لتعود إيمان بعد ربع قرن من التعرف على عنايات لتبحث في أثرها، وبينما هي تفعل؛ تنفتح أمامها عوالم سردية نُطل منها على المُناخ السياسي والاجتماعي والثقافي والفني الذي كانت تحياه البطلة والقاهرة آنذاك.

 هكذا عادت عنايات بعد عدة أعوام، تلهم امرأة من زمن آخر بظروف أخرى، تعيش في بوسطن بأمريكا، وتأتي في زيارات عائلية للمنصورة، بأن تبحث عنها، وأن تنبش في قصة مرَّ عليها أكثر من نصف قرن، وكأنَّ الكاتبات اللواتي رحلن صامتات قهراً لا يتوقفن عن الحياة تماماً، ولا يتوقفن عن الوجود تماماً، يَعُدن على أيدي نساء أخريات لهنّ حساسية خاصّة؛ كحساسية إيمان مرسال، ويُجسدن مظلومياتهن في كتاب إثر كتاب.

غلاف الرواية

تجوب إيمان مرسال في تقصيها عن عنايات فيافي التاريخ والجغرافيا، فتجد نفسها في المقابر تبحث عن اسم عائلة عنايات الزيات، بين أسماء الأسر الأرستقراطية، وتبحث عن بيتها الذي كانت أمامه شركة ألبان (إسترا) الحكومية، التي بيعت وخُصخصت في عهد مُبارك، تبحث في القاهرة التاريخية بفيلاتها الرائعة عن بيت عنايات وبيوت صديقاتها، فتتفاجأ وتفاجئنا بالعمائر التي حلّت محل الفيلات، تبحث في أرشيف الصحف القومية عن كتابات عنايات، فتفاجئك كيف تتعامل البيروقراطيات مع الذاكرة القومية، وتعدم تاريخ الأوطان.

وفي مستويات عدة للسرد لا تشعر معها بأنّها من غير نسيج الرواية، تأخذك لنشأة الطب النفسي في مصر ومستشفياته وأوضاع المرضى آنذاك وطبيعة الأدوية، وتحدثنا عن السيد كامير وحفظه للتراث الوطني، وتأخذنا إلى قانون الأحوال الشخصية، وكيف دهس هذا القانون عنايات، الفتاة المُتعلمة بثقافة ألمانية قوية وأسرة متنفذة، لها صداقات مهمة مع وجهاء المجتمع، وأب متنور، ومع هذا لم تسلم من وطأة المجتمع وقوانينه، وهذا يفتح لنا مجالاً لسؤال آخر: كيف كان إذاً حال المرأة العادية الضعيفة بالجهل، والمطرودة من الأهل، من ليس لها سند مادي أو معنوي؛ إذا كانت امرأة مثل عنايات طوقها هذا المصير مع كل هذا الحظ مقارنة بأخريات؟ 

عنايات شابة من أسرة ثرية، عاشت زخم خمسينيات وستينيات مصر في القرن الفائت، تلقت تعليمها في مدرسة ألمانية، وكان والدها "عباس الزيات"، رجلاً مثقفاً وعصرياً

وإذا كانت إيمان قد وضعت يدها على أكثر من جُرح لعنايات الزيات، وهي جراح تتشابه كثيراً مع واقع المرأة الشرقية، لكنّ هناك جرحاً أراه الأكثر إيلاماً، وهو ما تعرّضت له عنايات من ظلم على يد من سمّتهم إيمان مرسال "كهنة الأدب"، فقد أوصلت نادية لطفي صديقتها عنايات إلى يوسف السباعي، وأنيس منصور، ومصطفى محمود؛ لكي يساعدوها في تقييم الرواية ونشرها، والحقيقة أنّ الثلاثة، وهذا ما أتفق مع الكاتبة إيمان مرسال فيه، لا يتصلون بعوالم الأدب الحقيقية من قريب أو من بعيد، وأنّهم أصحاب أقلام جد متواضعة، لكن يبدو أنّ نادية لطفي على صغر عمرها وقلة خبرتها، كان هذا هو كل ما تعرفه عن الأدباء والرجال المتنفذين في عوالم السرد، وهذا ما أكدته فيما بعد، عندما تعرفت على اسم مثل يوسف إدريس مثلاً، وعرفت الحبر الحقيقي، لكن كان الأوان قد فات، فقد حكم مصطفى محمود على الرواية بأنّها "عذبة ورقيقة"، وهذا تقييم لا يمّت للنقد أو المهنية الأدبية بحال، وإنّما يُقيّم الوجود النسائي اللطيف في العالم، ليس بوصفه وجوداً مُبدعاً، قادراً على أن يكسر الثلج ويحرك شيئاً في الوجود، وإنّما الوجود الذي يلطف عوالم الرجال القاسية. بينما راح أنيس منصور يقول في مقالات بعد وفاتها، إنّه حاول أن يساعدها وأن ينشر لها قصصها القصيرة، وهذا ما لم تستطع أن تثبته إيمان مرسال ببحثها، وعلى الشاكلة نفسها كان السباعي العسكري الأديب.

ولا يمكن، ونحن نقرأ عن مأساة عنايات الزيات، إلّا أن نتذكر مأساة مي زيادة مع رواد أدب القرن التاسع عشر، فقد انتهى الحال بدرة الشرق وأديبته في مستشفى العصفورية النفسية، بعد أن كانت نجمة لامعة في القاهرة، بصالونها الذي ضمّ أشهر رجالات الأدب في العصر الحديث، الرجال الذين عشقوها وتمنوها، هم أنفسهم من تركوها في مستشفى العصفورية، حيث حولتها الإقامة هناك من مهتزة نفسياً إلى مريضة نفسية.

الكاتبة إيمان مرسال

ومن بين كل الفصول، كان الفصل الـ (22) هو الفصل الأكثر تأثيراً في الكتاب، حيث جمعت إيمان كل جداتنا العربيات الكاتبات، أرواح كل من احترفن السرد قبل عنايات، ومن كتبن في زمن كانت تُرى الفتاة فيه التي تحترف الأدب وكأنّها تسترجل استرجالاً كريهاً، فضلاً عن أن يكون الأدب زينة أنثوية عظيمة، وحلية لنفس كريمة كما قال أحدهم، هكذا جمعتهن إيمان لتحكي لهنّ في ذكرى عنايات الزيات، عن فتاة من حفيداتهن، قررت ذات ليلة "أنّ الحياة لا تُحتمل" فجزت شعرها، وحرقت وجودها...، سألتهن عن اللحظة التي تقرر المرأة فيها أن تعتدي على شعرها، سألت عائشة التيمورية هل فعلت ذلك عندما ماتت ابنتها الوحيدة "توحيدة" قبل زفافها بأيام؟ هل فعلت باحثة البادية ذلك عندما عيرتها نساء قبيلة الرياح بالفيوم بعدم مقدرتها على الإنجاب؟ أو عندما داس زوجها كبرياءها بزواجه عليها، لتتفاجأ فيما بعد أنّها ليست عاقراً؟ لا بدّ أن تكون فعلتها مي زيادة مرات عندما مات والداها وجبران، وتخلى عنها كهنة الأدب،  فعلتها درية شفيق وعنايات الزيات وجليلة رضا، فعلتها وفكرت فيها كل امرأة تقريباً في حياتها مرة واحدة على الأقل. 

في هذا الفصل تحديداً كانت إيمان تلمس الوجع النسائي بخفة وإبداع مدهشين، في هذا الفصل لا يمكن إلّا أن يكون القراء، وخاصّة النساء قد جلسن مع الجدات على الطاولة نفسها وفضفضن باللحظة التي جزت أو نوت كل واحدة منهن أن تجز فيها شعرها، ولا يمكن أن ينتهي هذا الفصل دون أن تحس القارئة بنوع من الخفة في هذا التشارك الجمعي للألم، أو في هذا التوحد في الإحساس على اختلاف بواعثه، وهذه المواجدة الجماعية التي وظفتها إيمان مرسال في هذا الفصل، هي النقطة التي تبلورت عندها الرواية، واستضاءت دواخل القارئ بنفسه وبالبطلة.

ورغم أنّ الكاتبة نفت أن يكون الكتاب نسوياً، فماذا يكون هذا الكتاب إن لم يكن كتاباً جديداً يُضم لقائمة كتب سجلت فيها المرأة مظلوميتها التاريخية؟ والغريب هو أنّ عنايات الزيات دُفنت في قبر جدة لها حبشية، في غرفة هامشية داخل مدافن عائلتها، غرفة المنبوذات عائلياً، والمطرودات من رضا الرجال والنساء معاً، ماتت عنايات، وأحاطت أسرتها موتها بسياج، لتصون كرامة العائلة لآخر لحظة، فما زال الانتحار عيباً اجتماعياً يستحق الخجل، حتى لو مرّ عليه نصف قرن، ماتت عنايات ليس لأنّها مكتئبة، ولا لأنّها زوجة حزينة، ولا لأنّها أم مهددة ومهدودة، ولا لكونها حبيبة مُتشظية بين قلبها وأمومتها، ولا لأنّ قانون الأحوال الشخصية جار عليها وعلى الكثيرات مثلها، وليس لأنّ كُتّاب درجة ثالثة لم يتبنّوها كما يدّعون في كتاباتهم بمساعدة المواهب الشابة، وليس لأنّ الدار القومية خلطت بينها وبين أختها عظيمة، وأنّ الرفض الذي كان لروايتها كان المقصود به ترجمات أختها...، لم تنتحر عنايات من أجل كل هذا، ولكن أعتقد أنّها أحرقت وجودها لأنّها لم تُر بما يكفي.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية