ممنوع أن تغني.. فصل آخر للقمع

ممنوع أن تغني.. فصل آخر للقمع


11/11/2021

هددت مديرة مدرسة طالبات اقترفن "إثم" الغناء بالطرد والحرمان من جميع مدارس سوريا، الغناء من الفنون النبيلة في أي ثقافة، ولعله مما يميز الثقافات المختلفة، ويبرز الطابع الخاص لكل منها، ويندرج في الحياة الروحية لأي مجتمع من المجتمعات الصغيرة والكبيرة، ويغلب أن يكون بوحاً عما يعتمل في أعماق النفس البشرية من العواطف الإنسانية. الموسيقى التي تصاحب الغناء ترقى به إلى مصاف إنسانية رفيعة؛ لأن الموسيقى لغة إنسانية عامة لا يحتاج تعلمها سوى إلى ذائقة فنية ووعي جمالي، هما؛ أي الذائقة الفنية والوعي الجمالي، من أهم ما يعبر عن خصوصية الفرد واستقلاله وفرديته وفرادته.

اقرأ أيضاً: هل ترتبط الذائقة الفردية بالذوق العام؟

نحن نغني أو نعزف على آلة موسيقية، لكي نسمع أنفسنا، ونتواصل مع ذواتنا، ونبوح للآخرين والأخريات بخلجات قلوبنا، وما يعتمل في نفوسنا من فرح وحزن وحب وألم، فتصل أصواتنا إليهم، وتثير فيهم/ـن المشاعر نفسها، التي جعلتنا نغني أو نعزف. الغناء من أجمل أدوات التواصل الإنساني، ومثله الرقص والموسيقا. لماذا نغني، إذن، ونرقص في الأفراح والأعراس والمواسم وأعياد الميلاد، ولماذا ننوح ونندب في الأحزان والأتراح، ألسنا نطرد الخوف والحزن والجزع واليأس بالغناء والرقص والموسيقى؟!

بعض المجتمعات تؤثم الغناء وتعيِّبه وتعتبر المغنين والمغنيات خارجين عن القيم الاجتماعية

ثمة أغانٍ تراثية وأخرى وطنية وثالثة طربية ورابعة وخامسة..، الناس يغنون في المناسبات العامة والخاصة؛ لكن بعض المجتمعات تؤثم الغناء وتعيِّبه، وتعتبر المغنين والمغنيات خارجين/ـات عن القيم الاجتماعية، وتخضع لهذه القيم مؤسسات حكومية، يفترض أنها عصرية وحديثة، كالمؤسسة التعليمية، التي تُعتبر مؤسسة مدنية، تقوم على التربية أولاً ثم التعليم.

اقرأ أيضاً: هل أعاق الحجاب الشابة سلام عن كسر نمطية العمل؟‎

عندما يتملكنا الفضول نحن الباحثين والباحثات؛ لمعرفة سلوك الأفراد وبواعثه، يتملكنا أيضاً فضول لمعرفة الدوافع الكامنة وراء منع طلاب وطالبات المدارس من الغناء في الفسحة التي هي من حقهم/ـن، كما يجري في بعض المدارس السورية، إذ يُعاقب الطلاب والطالبات لقيامهم/ـن بالغناء ويهددون بالفصل من جميع المدارس السورية بحجة إثارة الشغب الذي يعاقب عليه قانون المدارس في وزارة التربية والتعليم السورية.

اقرأ أيضاً: هل نحن بخير حقاً؟

إذا نظرنا إلى الموضوع من ناحية اجتماعية؛ فقد يتعلق الأمر بمنهج التفكير المنقول إلى هذه المجتمعات من جيل إلى جيل، فما زال الأموات يسيطرون على الأحياء، من خلال الأعراف والتقاليد والعادات التي فرضوها على المجتمع في زمنهم، وجعلوا من هذه العادات والأعراف والتقاليد هوية اجتماعية واحدة، محدودة، محددة بقوانين غير قابلة للنقاش والمراجعة والنقد وغير قابلة للتغيير، حتى بعد أن هبّت رياح التغيير على المجتمعات الخاضعة لتلك الأنظمة، ولفحت مختلف مجالاتها، الاجتماعية والسياسية والدينية.

اقرأ أيضاً: كيف اكتسب الاستبداد خبرة تصنيع غريزة الخوف؟

من ناحية أخرى، يبدو أنّ السلطة، التي تمارس على الطلاب والطالبات في المدارس، لا تنطبق عليها صفة السلطة التعليمية، (البداغوجية)، فهي أقرب إلى سلطة تنفيذية – أمنية، مستمدة من سلطة أعلى مستبدة، إذ إدارة المدرسة صورة مصغرة عن بنية تسلطية متفردة برأيها، تحرص على إعادة إنتاج تسلط الأكثرية على الأقلية، والأقوى على الأضعف، وتسلط الرجال على النساء، أي إنها تعيد إنتاج السلطة بوجه آخر وطريقة أخرى، سواء في داخل الأسرة أو داخل المؤسسات الحكومية، وتساهم في قمع حرية التعبير، ومن ثم، قمع حرية التفكير، وتعمق عدم المساواة.

اقرأ أيضاً: متى يتخلص الإنسان من الشعور بالاغتراب داخل وطنه؟

هذه الممارسات السلطوية، والمتسلطة أدت وتؤدي إلى الكراهية والحقد والضغينة والعنف، لكأنّ هذه السلطة تؤهل الطالب/ـة ليكون وتكون في المستقبل مقاتلين ومقاتلات عنفيّين وعنفيّات ومتعصبين ومتعصبات لمن يهينهم/ـن ويذلهم/ـن ويسد آفاق المستقبل في وجوههم/ـن، ويجعل منهم بالتالي قمعيين ومقموعين ومقموعات في الوقت نفسه، لأنهم ولدوا وتربوا وتعلموا على ذلك.

اقرأ أيضاً: إلى روح نهلة.. من ينقذ أطفال سوريا؟

عندما ذهب ابن خلدون في مقدمته الشهيرة لكتاب "العِبر وديوان المبتدأ والخبر" إلى دراسة طبيعة المجتمعات وتغيّر أحوالها، ليتزوّد بمعيار يمكنه على أساسه التحقق من الأحداث والمتغيرات، ويحكم من خلاله على النتائج، فقد رأى أن "الحاضر يشبه المستقبل" مثلما "يشبه الماءُ الماءَ"، وقد ألقى الضوء على التاريخ، ليستطيع من خلاله معرفة قدرة المجتمعات على "العمران"، والمقصود بالعمران، العمران الاجتماعي؛ أي التراكم المادي والثقافي والمعرفي والأخلاقي، والتراكم السياسي والديني، وقد كان له الفضل في تأسيس "علم الاجتماع" الذي يُدرس في جامعات العالم، ومنها الجامعة السورية، لكن من دون ممارسة عملية على أرض الواقع، كما رأى ابن خلدون أنّ "الاجتماع البشري ضروري" وأنّ "الإنسان مدنيّ بالطبع" أي لا بد له من الاجتماع، الذي هو المدنية حسب رأيه، والذي هو معنى "العمران".

   يتعلق الأمر بمنهج التفكير المنقول إلى هذه المجتمعات من جيل إلى جيل فمايزال الأموات يسيطرون على الأحياء

المدنية نقيض التخلف، ففي سوريا والدول المشابهة، ذات الطابع الشمولي، لا تحمل مجتمعاتها الطابع المدني، فقد طمست الأنظمة الاستبدادية هذا المفهوم وحولته إلى مجتمع أهلي، طائفي، عشائري، وأوغلت الدين في السياسة، وأوغلت في الذهن الجمعي للمجتمع؛ إن مفهوم المجتمع المدني مفهوم دخيل، يلغي العقائد الدينية، والحزبية، ويخلخل النظام الاجتماعي القائم على الموروث من العادات والأعراف السائدة، وهنا يكمن دور البنية المجتمعية، إما أن تكون مشجعة وحامية للجهل والتخلف، فينتشر ويستشري في المجتمع، أو تكون عكس ذلك، مدافعة عن حقوقها وحامية للمدنية والحداثة، وتنسحب هذه الحالة على جميع المؤسسات الحكومية، وقطاع الصناعة والزراعة والنقابات والأندية الرياضية والثقافية وغيرها، وجميعها من إنتاج البنية السياسية.

اقرأ أيضاً: المثل الشعبي إذ يكرس العنف والتطرف

العمران نقيض الهدم، عمران الفكر والحرية والعدالة والمساواة، واحترام القانون؛ يبدأ من الأسرة، فتفعل فعلها في الجماعات، ثم إلى المجتمع ككل، لكن هذا العمران يلزمه نظام سياسي يقوم على تلك الأركان ويعززها اجتماعياً وقانونياً وأخلاقياً، فتتمدن السلطة، وتصبح الدولة حيادية تجاه عقائد مواطنيها ومواطناتها وميولهم واتجاهاتهم، فيمكن للديمقراطية حينئذ أن تسود، وعكس ذلك سيكون الهدم حتمياً ومتعمداً للأجيال القادمة عندما تمارس السلطة التعليمية القمع على موهبة الغناء وعلى حرية التعبير، ولا تحتويها بالتشجيع والحب، سيكون التحول الديمقراطي مستحيلاً في  المجتمعات السلطوية، وفي الدول المتسلطة، ويبقى الانتماء للسلطة مرجحاً، بل مؤكداً، وهنا يكون قول ابن خلدون ثابتاً: القوانين التي تفعل فعلها في الجماعات لا تتأثر بصورة كبيرة بالأفراد والأحداث المنعزلة... فإنّ المحاولات التي يقوم بها أحد المصلحين لإحياء دولة فاسدة قلما تصادف النجاح؛ لأن جهود الفرد سرعان ما يكتسحها التيار الجارف العنيف الذي تمثله القوى الاجتماعية المحافظة.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية