هذه صورة لواحد من الملوك الذين وجدوا أنفسهم أطفالاً ملوكاً؛ وهو آخر ثلاثة ملوك حكموا العراق في النصف الأول من القرن العشرين، إنها صورة الملك فيصل الثاني، ملك فتح عينيه على الدنيا طفلاً فوجد نفسه ملكاً، مرّات ليست كثيرة تحصل مثل هذه الحالة في تواريخ الملكيات.
في هذه الصورة الملكُ شابٌّ بين كتابين؛ أحدُهما أمام ناظريه، وهو عربيٌّ قديم، كتاب (الحيوان) للجاحظ، وثانيهما، على الطاولة جنبه، وهو انكليزيٌّ حديث، أتوقّع أنّ عنوانه غير الواضح في الصورة هو (عصر الأناقة).
سوى الكتابين البارزين تمكن ملاحظةُ بضعة كتبٍ أخرى أسفل الطاولة.
الملك على كرسيٍّ متواضعٍ بدا محشوراً ما بين طاولة صغيرة ونافذةٍ ضيقة.
النافذة الضيقة، وقد أزيحت ستارتها، تشفّ عن ظلام خارج الغرفة. ليس من الصعب تخمين أنّ الغرفة كانت غرفةَ نومٍ ضيقة؛ ترتيب أشيائها والمسافة ما بين الملك والمصوّر تفصح عن ضيق المكان.
صفوفٌ من كتبٍ ومجلدات
ليس في الخلف من الملك الشاب، على الجدار الذي خلفه، صفوفٌ من كتبٍ ومجلدات دائماً ما تكون متوقَّعة بمثل هذه الحالات الملكية والرئاسية وحتى بغيرها. ملصقٌ ورقيٌّ أبيض صغير على كعب كتاب الجاحظ يؤكّد أنّ الكتابَ مستعارٌ من مكتبة عامة، ربما هي مكتبة الكلية التي كان الملك يدرس فيها ببريطانيا. جدران الغرفة منقوشة بتكوين لونيٍّ متكرر من ورق نباتٍ وورد، إنه نقش آلي متواضع مما هو مألوف في تلك السنوات التي التقطت فيها الصورة.
مجرّد وجود كتاب بيد شاب هو تقدير وإعجاب بأن يُنظَر إليه على أنه يريد أن يكون متعلّماً ومثقفاً
لكنّ الكتابين كافيان للتعبير عن طبيعة اهتمام وذوق شابٍ ما زال طالباً.
لنجرّد هذا الشاب من صفته الملكية، الصورة ذاتها، بالتلقائية التي تنظّم المكان، تستدعي مثل هذا التجريد وتسمح به، ولنفكّر بالطبيعة الإنسانية التي كان يمكن أن يكون عليها الشاب بعد سنوات.
مجرّد وجود كتاب، أيّ كتاب، بيد شاب هو تقدير وإعجاب، بصيغة ما، بأن يُنظَر إليه على أنه يريد أن يكون متعلّماً ومثقفاً.
قد تكون هذه رغبة إعلانية لا تعبّر عن اهتمام حقيقي. لكن الرغبة بإعلان المرء عن نفسه كطامح ثقافي والمعرفة والتعلّم هو توقير وتعظيم للثقافة والمعرفة.
لا تمثيل في الصورة
لا أحسب أنّ الملكَ الشاب كان دعيّاً في الصورة، لا تمثيل في الصورة. التمثيل يستدعي حضوراً لأمكنة التمثيل، بهذه الحالة لابد من مكتبة ورفوف ومجلدات، لابد من مكتب في المكان يليق بالمكين، لكن اللحظة واقعية، والمكان واقعيٌّ لا أثر بأيِّ تفصيل منه للتمثيل وتلفيق اللحظة. كلُّ ما في الصورة عفويٌّ.
الخيطُ الأوضح الذي يتواصل في صور الملك الشاب منذ طفولته هو البراءة التي يخالطها حياءُ فتى تربّى ليكون ملكاً
لا ادعاء في هذه العفوية التي وضعت الملك ما بين الكتابين، وهو مستغرقٌ بمطالعة أحدهما، العربي القديم، فيما الآخر، الانكليزيٌّ الحديث، جنبه. الصورة ليست طارئة بين مجمل الصور الكثيرة التي وثقت حياة ويوميات الملك بمختلف مراحلها القصيرة؛ فمن الصورِ الأخرى الكثيرة التي بقيت منه ثمة صورة أخرى يظهر فيها وهو في معرض تشكيلي مع رسامين ونحّاتين عراقيين صاروا في ما بعد من رموز الفن التشكيلي في العراق، وثمة صورة ثالثة تظهره مع بيانو، ورابعة يمارس فيها الملك، صبيّاً، هوايةَ الرسم في الهواء الطلق، ربما كانت الطبيعة موضوعاً لعمل بالألوان المائية، لا أذكر بالضبط.. لكنَّ صورة الملك ما بين الكتابين، العربي القديم والغربي الحديث، تضعنا، وتضع الملكَ أمام ثنائيةِ الانشداد إلى ثقافةٍ عربية عريقة من جانبٍ والتطلع إلى ثقافة وحياة غربية حديثة من جانبٍ ثانٍ.
مسرّةُ الطفل الواضحة بابتسامته
بعد وقوفي عند هذه الصورة، وقد بقيت لأيام منشدّاً إلى لحظتها ومتأسّياً على مصير فتاها، سعيت من أجل الوقوف على صور أخرى للملك الشاب. لقد صادفت أثناء ذلك فيديو على موقع يوتيوب، كان الفيديو يستعرض صوراً للملك، متسلسلةً بموجب تدرّج العمر. تبدأ الصورُ بالملك طفلاً وتنتهي به شاباً. أثارت انتباهي في الصور مسرّةُ الطفل، الواضحة بابتسامته، وبهجتُه التي تواجه الكاميرا بالضحكات. تستمر هذه الابتسامات لتشكل الملمح الأبرز في حياة طفولة الملك، لكن الملك، وكلما تقدمت به الحياة نحو الشباب، فإن ملامحه تأخذ بالتخلي تدريجياً عن تلك الابتسامة العفوية قرينة طفولته، وكان هذا يتوافق مع ظهور ملامح حزن شفيف يتسرب إلى محيّا الشاب فيمتزج بتعابيرِ ذكاء واضح غير أنه لم يعبّر عن نفسه بعد، ولم يُتح للشابِّ بعد ذلك أن يفصح عنه بما تبقت له من سنوات قليلة أعقبت الصورة قبل المصير التراجيدي الذي انتهى إليه.
الخيطُ الأوضح الذي يتواصل في صور الملك الشاب، بالفيديو وبسواه، منذ طفولته وحتى نهايته شاباً، هو البراءة التي يخالطها حياءُ فتى تربّى ليكون ملكاً. تنطفئ الابتسامة، وتتسع ملامح الحزن، لكن البراءة التي تقدّمها صورةُ الملك في غرفته ما بين الكتابين وحدها التي ظلّت تحكم حياة الشاب، الذي وُلد وعاش ومات ولم يبدِ من ملامح الملوكية سوى رصانةٍ هي الأخرى ظلت قرينةَ تلك البراءة التي بدأ حياته وأنهاها بها.