تعيش المرحلة الفكرية الحالية في السعودية أعلى مراحلها في التعددية مع الآخر؛ وذلك من خلال فتح عدة مجالات تتبنّاها الحكومة دعماً وإدارةً ليصل صوتٌ آخر غير المعهود عن الفكر في السعودية؛ وذلك من داخل المجتمع في المملكة وليس من خارجه؛ فربما عهدنا في مراحل سالفة العديد من محاولات التعددية لكن في خارج المجتمع وليس من داخله؛ بينما في هذه المرحلة نحن إزاء تغير فكري داخلي تتولاه الحكومة دعماً وتنظيماً؛ وفي هذا المقال يقتصر التحليل على الجانب الثقافي فحسب ولا يتعداه إلى جوانب أخرى.
إنّنا إزاء بهجة ثقافية وفكرية في مرحلتنا المعاصرة في الساحة الثقافية السعودية؛ نأمل أن تزداد هذه التعددية
ويمكن لنا أن نحلل هذه التعددية من خلال مجالين مهمين في الحكومة الحالية وهما: مجال الثقافة ومجال الترفيه.
ففي مجال الثقافة اهتمت الحكومة بفصل الإعلام عن الثقافة من خلال وزارتين مستقلتين؛ وإنشاء هيئة عامة للثقافة؛ وفتح المجال للفلسفة بل وتقريرها كمادة أساس في مراحل التعليم الثانوية؛ وبهذا فإنّ المجال الثقافي يخرج عن مسيرته الأحادية التي كانت مسيطرة ردحاً من الزمن نابذة لكل عمل ثقافي مخالف لها. كما أننا نجد اهتماماً بالسينما من خلال التصريح لها؛ والأهم من خلال فتح مجال الابتعاث لتعلم السينما في جامعات ومعاهد معتبرة عالمياً ويرعى هذه المبادرة (المجلس السعودي للأفلام).
اقرأ أيضاً: السعودية الجديدة: "إيوان الفلسفة".. فضاء للتفكير الحرّ في نادي جدة الأدبي
وامتد التغير الثقافي من خلال تأطير عمل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي كان يعتبر التحدي الأساس في مناهضة الأعمال الثقافية كاللقاءات المختلطة بين الجنسين مثلاً.
وتم الإذن بالعديد من البرامج والمبادرات الفلسفية والفكرية التي لم يكن لها السماح في مراحل سالفة ومنها: حلقة الرياض الفلسفية؛ إيوان الفلسفة؛ منتدى الفكر، وغيرها من البرامج. وهناك برنامج متكامل تديره جمعية الثقافة والفنون تحت مسمى (الفعاليات الثقافية) يضم العشرات من المحاضرات والأنشطة الثقافية التي لم يكن لها أن تكون في مراحل سالفة.
اقرأ أيضاً: السعودية الجديدة: أولوية الاستقرار ورفض استغلال القيم الإنسانية
وتقوم العديد من الجمعيات والأندية الثقافية بالجهد الثقافي ذاته عبر منصات متعددة كما نجده عند (مسك) التي تفرعت إلى العديد من الأعمال الثقافية الداعمة للشباب والفتيات لإبراز مواهبهم وتنوعهم الثقافي.
ونحن حين نتحدث عن العمل الحكومي في الثقافة لم ننسَ إشكال العلاقة بين السلطة والثقافة إلا أنّنا إزاء حالة أحادية مسيطرة فترة من الزمن جعلتنا نفكر في زحزحة هذه الأحادية وإن كانت عبر السلطة. إلا أنّنا لا نريد أن تتحول الثقافة إلى أحادية في مجال مقابل لما كان سائداً في مرحلة سالفة؛ ونأمل أن نرى مزيداً من التعددية مع كل مخالف أيّاً كان اتجاهه.
اقرأ أيضاً: السعودية الجديدة تنقل خيار الاعتدال الديني إلى مناطق نفوذها التقليدية
وأما في مجال الترفيه فقد أخذ منحى أساساً في تغير النظرة إلى الترفيه لا باعتباره ترفيهاً مُعيناً على العبادة كما في مراحل سالفة؛ يقبع هذا النوع من الترفيه لعروض دينية توعوية؛ ومحاضرات يتصدرها شباب (تائب) يحكي تجاربه مع المخدرات؛ بل باعتباره ترفيهاً عالمياً يضم أعلى العروض الترفيهية العالمية؛ وفتح المجال الأكثر إشكالاً في ساحتنا الاجتماعية وهي إقامة حفلات الغناء والموسيقى؛ والمسرحيات والتجمعات المختلطة التي تهتم بالمهرجانات الثقافية.
والإشكال ذاته نستحضره هنا باعتبار علاقة السلطة بالترفيه؛ فليس من مهمة السلطة ترفيه المجتمع إلا أنّنا في حالة أحادية جعلتنا نقبل بهذه الإدارة للمجال الترفيهي كمنظم ومعين.
رمزية استبدال هيئة الأمر بالمعروف بهيئة الترفيه لها بُعد مهم في تحليل المرحلة الآنية للمجتمع في السعودية
إنّ رمزية استبدال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهيئة الترفيه لها بُعد مهم في تحليل المرحلة الآنية للمجتمع والحكومة في السعودية؛ وهي رمزية طالت العديد من التغيرات الجذرية في التعليم كإلغاء نشاط (التوعية الإسلامية) في التعليم العام؛ وفتح المجال بالتصريح لأي مبادرة شبابية ثقافية تقدم هواية أو موهبة أو فناً للمجتمع؛ بل وتدعمها إعلامياً وربما مادياً.
ومع هذا التغير السريع والمريب للمجتمعات خارج السعودية أكثر ممن هم داخلها؛ فهل هناك تقبل للمجتمع لهذا التغير؟!
اقرأ أيضاً: السعودية الجديدة... حديث العالم
ربما يُدهش قبول المجتمع لهذه التغيرات الفكرية والثقافية علماءَ السوسيولوجيا؛ إذ إنّ عمر المجتمعات في التغير طويلة جداً مقارنة بعمر الأفراد؛ إلا أنّنا إزاء حالة مدهشة من هذا القبول الذي نجد صداه في ثنايا المجتمع؛ ونلحظه عينياً من خلال الحضور والتفاعل في الحفلات والمشاركة في الأنشطة الثقافية المتنوعة من مراحل عمرية متنوعة. ولعل هذا الواقع الفكري البشري التقني الحالي سببٌ أساس في سرعة هذا التغير؛ وسرعة الاندماج مع التغيرات الثقافية المعاصرة؛ لذا يمكن لنا أن نفكر بطريقة أخرى حينما نقول: بأنّ المجتمع في السعودية متجاوز لهذه التغيرات الثقافية إلا أنّه لم يستطع أن يُظهر التنوع الثقافي في مجاله العام من قبل.
إنّنا إزاء بهجة ثقافية وفكرية في مرحلتنا المعاصرة في الساحة الثقافية السعودية؛ نأمل أن تزداد هذه التعددية من خلال فتح مجالات أكثر شسوعاً للمخالف؛ أن يَحضرَ ويُحضِر ثقافته ليعيشها داخل المجتمع.