مشكلة اسبينوزا... سردية تتجاوز الزمن وتعجز عن استكمال الرؤية

مشكلة اسبينوزا... سردية تتجاوز الزمن وتعجز عن استكمال الرؤية

مشكلة اسبينوزا... سردية تتجاوز الزمن وتعجز عن استكمال الرؤية


19/08/2024

إرفين د. يالوم هو اسم كبير في عالم الرواية النفسية الفلسفية، وهو واحد من القلائل الذين نجحوا في تطويع الرواية لتشريح رجال الفلسفة الكبار؛ فوظف مهنته كطبيب ومحلل نفسي  في الغوص الباطني داخل أعماق شخصياته، وهي شخصيات ليس من السهل الخوض في مضمونها النفسي والفكري وإخضاعها لعوالم السرد، فقد تناول في روايته واحداً من أعظم فلاسفة التنوير، سبينوزا الفيلسوف الهولندي (1632ـ1677) الذي جاء بأفكار تقدمية جداً عن الله والوجود قياساً لعصره، فنفى أن يكون لله طبائع تتشابه والبشر، ونفى عنه صفة الانفعال، واعتبره وجوداً لا نهائياً لا يخرج عن الطبيعة الكليّة ويمتد فيها؛ وأنّه منطقي وعقلاني ولا نهائي، وليس في حاجة أو انتظار لتمجيد أحد منّا.

اعتمد يالوم في سرديته على المرويات القليلة التي وصلتنا عن سبينوزا، وآرائه في كتابيه:   "رسائل في اللاهوت والسياسة"، و"الأخلاق"؛ لينسج عالمه الروائي، وليجعل الأحداث أكثر تشويقاً، فأحدث تقاطعاً ذكياً بين سبينوزا ابن القرن السابع عشر، وألفريد روسينبرغ ابن القرن العشرين، المُنظّر الإيديولوجي للحزب النازي، وواضع الفلسفة الداخلية للحزب، وكانت فصول الرواية عبارة عن تناوبات متتالية بالتبادل بين عالم سبينوزا الفيلسوف، وروسينبرغ أحد كبار رجال النازية.

وقد يبدو هذا الربط غريباً في البداية، لكن يشي العنوان بشيء من التفسير، فروسينبرغ كاره اليهود، والمعتقد في سمو الجنس الآري، والمؤمن بنبالة الألمان وضرورة القضاء على العرق اليهودي، الذي تسبب في إضعاف الروح الألمانية، والتسبب في هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، تفاجئه حقيقة أنّ كثيراً من عظماء الألمان، وخاصة غوته أديبه الأحب، يكنوّن محبة وتقديراً عظيمين للفيلسوف ذي الخلفية اليهودية سبينوزا، حتى أنّ غوته ظلّ عاماً كاملاً يضع كتاب الأخلاق لسبينوزا في جيبه. ومن هنا كان أرق روسينبرغ، كيف يكون من بين اليهود العرق الأدنى رجل بمثل عظمة سبينوزا؟ وكيف يتبعُ عظماء الألمان رجلاً يهودياً؟ وتصاعُد أزمة روسينبرغ يأتي من كونه يتلاقى مع سبينوزا في آرائه نفسها عن الديانات وعن القصص الدينية المقدسة، وهو ما لا يسمح به كبرياؤه النازي. ومع أنّ سبينوزا لم يعد يهودي الديانة بعد قرار الحرمان، الذي فرضته عليه طائفته وحاخاماتها بعد آرائه فيهم وفي الله، لكن من رأي روسينبرغ هو يهودي العرق، والتهود جنسية لا تسقط بالخروج من اليهودية كدين؛ فهي أبدية فيه بالدم واللحم. دفعه هذا الحقد للسطو على تراث سبينوزا، ومصادرة مكتبته، ظناً منه أنّه بذلك سيعرف المصادر التي وصل بها سبينوزا لاستنتاجاته المتقدمة عن الله والكون والطبيعة، فهو لا بدّ أن يكون سارقها، فتلك الأصالة الفكرية لا تتوفر للعقلية اليهودية، في ظنه.

🎞

يفتح يالوم نافذتين بالتناوب على قرنين مختلفين، فيرجع ويتقدم بطريقة تثقل الرواية من ناحية الأحداث والتصاعد الدرامي، ومراكمة الزمن الروائي. فيطل بنا على أمستردام القرن السابع عشر حيث يعيش الفتى النابغة سبينوزا، وسط أهل وحاخامات وطائفة يرون فيه الكثير من الأمل للعرق اليهودي، لكنّ ذلك الفتى يُخيب أمل الجميع، ويكوّن أراءً ثورية حول الدين والإله والإنسان، تقوض أُسس الديانات القديمة، فلا يكون الله فيها يشبه الإنسان في شيء، ولا يكون من طبيعته الانفعال، ولا يضفي عليه تعبدنا أو عصياننا أيّ زوائد. بل يضع منظوره الخاص عن الله الذي ساواه بالطبيعة، التي لم يقصد بها الشجر والأنهار والوجود، وإنّما المبدأ الأول والعلة الأولى والقوانين السارية في أزلية الوجود وأبدية الكون، ويسرُّ بهذه الآراء لرجلين من اليهود (فرانكو وجاكوب) زعم أحدهما كذباً وبالاتفاق بأنّ صديقه يعاني أرقاً دينياً حركه موت أبيه على يد محاكم التفتيش، دون أن يحرك الرب ساكناً، فوّصِفَ لهم سبينوزا كأفضل شخص يمكن أن يساعد جاكوب المؤَرَق بهواجس دينية، وبعد أن يفضي سبينوزا بكثير من آرائه حول الطبيعة التي يتحرك بها الله في الكون، والتي لا تشبه ما تقرّه اليهودية، يكتشف أنّ هذين الرجلين ما هما إلّا فخ للإيقاع به من قبل رجل ثالث، يريد أن يستولي على عقار والده، الذي وعد الرجلين بأن يُعيد باقي أسرتيهما من الموت المحدق بهما على يد محاكم التفتيش، مُقابل أن يحصلوا على اعترافات من سبينوزا يشهدان بها أمام الحاخامات، وتُثبتُ عليه تهمة التجديف والهرطقة، ويُنفى من أمستردام، وهذا ما حدث بالفعل. لكنّ أمراً كهذا لا يغيب عن سبينوزا، فهو دَفَعَ الأحداث بطريقة ما للحدوث؛ فأفكاره يوماً ما ستُعلن وقرار الحرمان آتٍ آتٍ. ونيته وهو يفضي بقناعاته واستنتاجاته حول التوراة والأنبياء وطبيعة الوجود، حاضرة بصدقها وباستنتاج شخصية بعقل حاد تضع في اعتبارها أنّ هذه الآراء ستسقط في حجر الحاخامات.

إلا أنّ جاكوب هذا الرجل الذي وشى بسبينوزا للحاخامات، ومع نوازعه تجاه أهله، تُصادف أراء سبينوزا وقعاً خاصاً في نفسه، وتتلاقى مع هواجس دينية حقيقية لديه، فيشعر بالندم وينتحب أمام سبينوزا على وشايته به، وشبّه ما فعله بفعلة يهوذا بالمسيح، فكان من هذا الحدث أن صهر جاكوب وسبينوزا في عُرى صداقة أبدية لم تنفصل، ووضع المؤلف من خلال شخصية جاكوب ضلعاً مهمّاً في بُنيان الرواية وتطور الديانات معاً، فجاكوب المهتز إيمانياً، المُعاني من شكوك عميقة يتشاركها مع سبينوزا حول إلهية نصوص التوراة، وزمن كتاباتها والتناقضات الكثيرة التي تحوم حولها، يقرر أن ينطوي في دفء العشيرة على أن يموت في صقيع الأسئلة المُتعِبة فيخفي شكوكه عن طائفته، ويظل متمسكاً بصداقة سبينوزا سرّاً؛ يفهمه ويفهم أفكاره كما لم يفهمه أحد، يُعطيه ذلك العقل القادر على أن يستوعب ثِقل الخُلاصات السبينوزية التي لم يستوعبها الكثير حتى في عالم اليوم، وينتهي الحال بجاكوب بعد تلك التوأمة الروحية إلى أن يختار أن يُصبح حاخاماً ويُصلح الدين من الداخل، وهو بذلك يُمثل الآلاف من المجددين في الأديان، والباحثين عن تفسيرات للنصوص تصمد في عالم يتطور، فكأنّما يصف حال كل المصلحين على مر العصور، كيف توحدوا في مرحلة عمرية وفكرية مع الناكرين لتعاليم السماء وقدسية النصوص وحقيقة الوحي، لكنّهم أخذوا مسلك التوافق، مُحافظين على دفء الإيمان وطمأنينة الانطواء داخل الجماعة، واحتفظوا لأنفسهم بحق الاجتهاد، وإيجاد مكان للدين الذي تهتز أركانه كلما تقدم الزمن.

يتقدم بنا يالوم ثانية إلى القرن العشرين، ويقتحم العالم النفسي لروسينبرغ الرجل المهتز ذي الذكاء المتوسط، الذي يحتقره كل رجال الحزب، ويستمد من رضا هتلر عنه وجوده، وتتحكم شخصية هتلر في حياته النفسية، حد أنّ انطفاءه وموته وبعثه، رهين بأن يهتم هتلر به أو يغفله، يُثني على كتاباته أو يتجاهلها، وعلى ضعف تكوينه النفسي والاعتمادية المريضة على شخصية هتلر، فقد وضع هذا الرجل إنجيل الحزب النازي، فرفع عرقاً بشرياً وحطّ من باقي أجناس الأرض، اعتبر المرضى والمعاقين آفات في الجسد الإنساني والألماني، ونادى بالقضاء عليهم، وقد قُتلَ نتيجة هذه الأفكار الملايين، واحتلت حواضر الأمم المتقدمة، وصُودرت أعظم مكتبات العالم على يد مغول جُدد بياقات نظيفة.

غير أننا كقراء عرب، لنّا إرث مؤلم مع "المسألة اليهودية"، لا نستطيع إلّا أن نُعمل عقلنا بانتباه شديد ونحن نقرأ تلك الأحداث التي، وإن كانت حدثت في قرن ماضٍ وقارة أخرى، إلّا أنّنا نحصد وبالها إلى اليوم، فالكاتب الذي يستعرض تاريخ المظلومية اليهودية، وتاريخ الشتات اليهودي الحديث والهولوكوست، والبخس من العقلية اليهودية حد استكثار أن يكون سبينوزا ابن تلك القريحة، ومحاربة التحليل النفسي لأنّ واضعه (فرويد) ابن الثقافة اليهودية، لا ينظر بتلك العين نفسها للمظلومية العربية الفلسطينية، والتي لا تختلف فيها أفعال النازية مع اليهود عن أفعال الصهيونية مع العرب، ولا هو استنتج بأدواته الوجودية في التحليل، كيف تحول الضحية إلى قاتل، وكيف أنّ المظلومية الإسرائيلية أصبحت لعبة طفل؛ للحصول على ما يريد حتى ولو على حساب أمة قديمة في التاريخ والجغرافيا... فـ (يالوم) يفاجئنا حين يدفع الأحداث في مكان وزمان مختلفين، فوضعنا مرة واحدة في إسرائيل، حيث رئيس الوزراء بن غوريون يُعيد لسبينوزا مكانته داخل الأمة اليهودية ويعتبره سلف الإسرائيليين، ويعتبر قرار الحرمان بعد ما يقرب من قرنين ونصف لاغياً؛ فيقيم نصباً له داخل أرض، لو أنّ سبينوزا حيّاً لحارب طائفته إنصافاً لأهلِها.

ولا يمكن أن تُغفل هنا الذائقة والمهارة التي استطاعت أن تنقل لنا روح النصوص وعمقها، فقد جاءت الترجمة موفقة للغاية، وأعتقد أنّ خالد الجبيلي بترجمته معظم أعمال يالوم، عرف روح الكاتب نفسها، فجاءت الترجمة ترجمان ذلك العقل وتلك الروح.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية