مسلسل "الغريب": عندما نُجبر على اعتناق الشرّ

مسلسل "الغريب": عندما نُجبر على اعتناق الشرّ

مسلسل "الغريب": عندما نُجبر على اعتناق الشرّ


04/10/2023

يكتظّ مسلسل "الغريب" بحشد هائل من المواقف المتوالية التي ترفع منسوب الترقّب والتشويق إلى ذرى شاهقة. ولو أنّ المسلسل اكتفى بذلك فقط لكان عملاً عربيّاً مبهراً يضاف إلى سلسلة الإنجازات الدرامية الرفيعة.

بيْد أنّ المسلسل يضم طائفة من الإبداعات على مستويات عدّة؛ فوجود ممثل مبدع ومخضرم من طراز بسام كوسا، وممثلة دافئة الأداء كفرح بسيسو، وحضور نصّ راقٍ ابتكرته مخيلة الكاتبتين لبنى حداد ولانا الجندي، كفيل بأن يمنح المسلسل صفة الاستثنائيّة.

لكنّ اللمسة الأخيرة التي صنعت الفارق الأكبر هو أنّ هذه المجاميع أديرت بكفاءة وحِرفيّة ودقّة من قبل المخرجة صوفي بطرس التي أثبتت، بعد نجاحها الصاخب في فيلم "مَحبس" 2017، أنها صاحبة بصمة خاصة في صناعة دراما بسيطة وعميقة تضاهي مثيلاتها في هذا الحقل.

على مدار اثنتي عشرة حلقة، بُثت على منصة "شاهد" الشهر الماضي، وضعنا "الغريب" (إنتاج صادق أنور الصباح) في قلب التوتّر ونحن نراقب تحوّلات القاضي النزيه يوسف مير عَلم، بعد أن ارتكب ابنه جريمة أودت بحياة شاب، ما أجبر الأسرة على الانتقال من سوريا إلى لبنان، عن طريق التهريب بجوازات مزوّرة، وكانت تلك أولى درجات "السقوط" في بئر الخطيئة.

الحفاظ على الابن، وحمايته من الانتقام، وعدم وجود ضمانات بمحاكمته بشكل عادل، أطلع طاقة التبرير إلى أقصاها، فصارت كلّ انزلاقة في عالم الجريمة والفساد والتواطؤ مع شبكات الإجرام وغسل الأموال، هي واجهة لإخفاء مزاعم الحفاظ على العائلة.

مخرجة المسلسل صوفي بطرس مع الممثل بسام كوسا

في قلب هذه التحوّلات يسكن السؤال الأخلاقيّ عن أولوية القيم: هل هي للحفاظ على الابن والبنت والزوجة، أم لإحقاق العدالة التي ظلّ القاضي الذي تحوّل اسمه في البطاقة المزوّرة إلى "نادر غريب"، يحافظ عليها طيلة مشواره المهنيّ؟

ومن الأسئلة الأخلاقيّة الحارقة التي يتصادم معها المسلسل: هل التحالف مع الشيطان شرٌ محضُ دائماً، وبالتالي هل تكون إقامة علاقة قهريّةمع رجل العصابات البيروتي، والسعي إلى تبرئته قضائياً، أمراً لا مفرّ منه، على الرغم من أنه زعيم مافيا خطير ذو سلطة لا ضفاف لها؟

التنازلات الأخلاقيّة التي يعرضها المسلسل بسلاسة وبراعة ومن دون ادعاء وتبجّح ووعظ هي ما منحه الأفضليّة، لأنّ تآكل القيم المتدحرج بقوة شديدة، جعل جميع أفراد عائلة الغريب في قفص الاتهام، وصار حبل النجاة الوحيد هو قتل الخصم والإجهاز عليه. ويتم ذلك بلا رفّة جفن، ويأتي القاضي ليؤكّد، بلا ندم، أنّ القتلى قضوا نحبهم في إطار "الحقّ المشروع في الدفاع عن النفس"!

تآكل القيم المتدحرج بقوة شديدة، جعل جميع أفراد عائلة الغريب في قفص الاتهام، وصار حبل النجاة الوحيد هو قتل الخصم والإجهاز عليه

وسط هذا التمزّق النفسيّ والتناقضات الأخلاقيّة تتحرك شخصيّات المسلسل الذي انتهى بمشهد أخّاذ مفتوح على التأويلات. فبسام كوسا قدّم دوراً صعباً ومركّباً وتفوّق فيه بفضل فهمه العميق للدور الذي يحتاج إلى أقسى درجات البساطة و"العادية" كأنّما يعيش حياة طبيعيّة، وهذا من أشقّ الأدوار وأكثرها حاجة إلى التماسك الوجدانيّ، لأنّ الكاميرا وهي تحيط بك من كل صوب تجعلك تفقد شيئاً من إحساسك بالواقع، لكنّ كوسا، بخبرته، مضى يسير على هذا الخيط الرفيع من دون أن يتأرجح.

أمّا فرح بسيسو فكان المسلسل إعلاناً صريحاً بنضوجها الفنيّ الاحترافيّ الذي لم يُكتشف في أعمالها السابقة، باستثناء فيلم "بنات عبد الرحمن"، فكان "الغريب" فرصة أخرى لتفجير طاقة الشجن لدى هذه النجمة التي نسيت الكاميرا إلى حد التعب.

ويحسب للمخرجة بطرس اكتشافها موهبة سيكون لها حضور راسخ في الدراما العربيّة وهو آدم الشامي "رامي" الذي عليه أن يتعب على أدائه ليسطع نجمه. أمّا ساندي نحاس "علا" فأدّت دورها بشكل "مربِك" وهذا ليس حكماً سلبيّاً، ففي دوامة الاشتباك مع الأحداث "المجنونة" يفقد الممثل قدرة التعبير بالطرق التقليدية المعهودة.

"خليل" الذي أدى دوره باقتدار سعيد سرحان تجلّى كواحد العلامات البارزة للمسلسل، إلى جانب محمد عقيل "البيروتي" وجمال قبش "فاروق"، وسلمى الشلبي "فيفيان"، وجوي حلاق "مريم"، وناظم عيسى "أبو طوني"، وسواهم.

الممثل سعيد سرحان أدى دوره باقتدار

وبلا ريب أنّ كل من وقف أمام الكاميرا في المسلسل قدم دوراً مدروساً لا ارتجال فيه، وهذا يعود إلى قوة الضبط الشديدة لدى المخرجة وعنايتها المرهفة بالتفاصيل.

ولم يكن لـ"الغريب" أن ينافس في سباق الأعمال الدراميّة، ويحظى بنسب المشاهدة والإطراء الكبيرين، لولا البطل "موسيقى" التي تنفّست في كلّ مفاصل المسلسل، ومنحت التوتّر بُعداً جماليّاً، وهذا أمر متوقّع من فنّان كبير بوزن زياد بطرس.

العمل في مجمله يستحقّ الثناء لأنه يحترم الذائقة. أمّا الذين سجّلوا ملاحظتهم على تشابه مقدمة المسلسل وبناء شخصيته الأساسية مع المسلسل الأمريكي (Your Honor) فمعهم حقّ، ولعلّ اشتراطاتٍ ما أوقعت طاقم العمل في هذه "الخديعة" من دون أن يعلموا. لكنّ ذلك لا يُلغي أنّ "الغريب" ألقى حجراً ثقيلاً في مياهنا الساكنة، وجعلنا "غرباء" مُكرهين أحياناً على اعتناق الشرّ!




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية