مرحلة النهايات هل تمتد أيضاً إلى الجماعات الدينية؟

مرحلة النهايات هل تمتد أيضاً إلى الجماعات الدينية؟


30/11/2020

تعني "نهايات" هنا؛ انتهاء مرحلة وبداية مرحلة أخرى، وهي حالة أصابت الأفكار والنظريات والموارد والأعمال جميعها، ولا بدّ أنّ الخطاب الديني قد تعرض لهذه الموجة، ويحتاج أيضاً إلى أن يشكّل مفاهيم وحالات ومعاني، وأفكاراً جديدة مختلفة، عما درج عليه الخطاب طوال العقود والقرون الماضية.

اقرأ أيضاً: من الهرمية إلى الشبكية: موقع المتفرج لم يعد آمناً

هذه السيادة للنسبية، تجعل الخطاب نسبياً أيضاً (نهاية المطلقية)، والشبكية التي تترسخ في المعرفة والإدارة تزيد من شأن المجتمعات على حساب الجماعات (نهاية الجماعات)، وحالة الشكّ والفوضى التي تعمّ الأفكار والفلسفات، تجعل من الصعب وصف الأهداف والمطالب بأوصاف يقينية، وبتغير مفهوم السياسة (ما بعد السياسة)؛ فإنّ الخطاب يتحول من السياسة إلى الإصلاح، ومن الإسلام هو الحلّ إلى الإصلاح هو الحل، وفي حالة المساواة والشبكية فإنّ التواصل والعمل والبحث (والفتوى أيضاً)، تتحول من الهرميّة إلى الشبكيّة، ومن التلقي إلى المشاركة، ومن الحتمية والأُحاديّة إلى الانتقاء والتعدّديّة، ومن أُحاديّة الصواب إلى تعدّديّته، وفي حالة الشك والفوضى، فإنّ الخطاب يتحول من الكمال أو مظنّة الصواب، والكمال إلى محاولة الاقتراب منه (نهاية الصواب)، ومن المثاليّة إلى التراكم، فالاستيعاب، فالإبداع، فالتراكم مرة أخرى، ومن وهم الصواب إلى حقيقة السؤال، ومن لذّة اليقين إلى قسوة الشكّ، ومن الوصاية إلى مشاركة المجتمع، ومن "غيتو" الجماعات والتنظيمات إلى فضاء الزمان والمكان.

الإنسان متجه ليكون قادراً على تعليم ومداواة نفسه بنفسه وأن يحصل بنفسه أيضاً على الاحتياجات والمعلومات

الإنسان متجه ليكون قادراً على تعليم ومداواة نفسه بنفسه، وأن يحصل بنفسه أيضاً على الاحتياجات والمعلومات، والتواصل مع العالم كله، وعلى قدر من الكفاءة والمساواة التي تمنحها المؤسسات المعقدة والمتطورة، وبطبيعة الحال؛ فإنّ عالم الدين ومؤسساته القائمة منذ قرون تواجه حالة خوف من الانقراض.

تتجه الأمم، حسب نظرية أرنولد توينبي "التحدي والاستجابة"، إلى التعامل مع الصدمات التي تتعرض لها في أحد مسارين: النكوص إلى الماضي، ومحاولة استعادته، والتمسك بعه تعويضاً عن الواقع المرّ، أو محاولة استيعابها، والتغلب عليها، وتوظيفها إيجابياً.

وتمثّل الشبكية صدمة كبرى للأمم والمجتمعات والأفراد، وربما تكون الظاهرة المتمثلة في الموجة الدينية الصاعدة، وانحسار الفلسفة من أهم وأكثر مؤشرات الخوف وضوحاً في هذه المرحلة، فالانحسار الفلسفي بما هو غياب الوعي بالأسئلة الكبرى للكون والحياة، أو العجز عن التفكير فيها، أو الانشغال عنها، أو عجز أدواتنا الفلسفية عن فهم واستيعاب العالم المتشكل، ما يؤشر إلى مرحلة يمكن وصفها بــ "عالم يحتضر"، ذلك أنّ فناء عالم "الصناعة"؛ يعني نهاية الفلسفة المنشئة له، والمستمدة منه أيضاً؛ ففي هذه النهايات للأعمال والموارد والمؤسسات والأسواق والعلاقات والطبقات، تنتهي أيضاً الأفكار المصاحبة لها. وبطبيعة الحال؛ فإنّ فلسفة جديدة تنبعث مع انبعاث العالم المتشكل!

لماذا تراجعت الفلسفة لتصعد موجة هائلة وعاصفة من التدين والجماعات الدينية؟

لكن، لماذا يبدو ذلك لم يحدث بعد؟ ولماذا تراجعت الفلسفة لتصعد موجة هائلة وعاصفة من التدين والجماعات الدينية؟ فالعالم كله، وعلى اختلاف أديانه، يبدو ممعناً في بعث ديني، لا في بعث فلسفي! الفلسفة تنشأ حول السؤال، والتدين ينشأ حول الخوف! وفي هذه النهايات العاصفة لعالمنا، يصعد الخوف، ويكون الدين إجابة حاضرة وبدهية، وملجأ من هذا الخوف الذي يكتسح عالمنا اليوم؛ إذ يهيمن على الناس جميعهم اليوم خوف وقلق من المستقبل المجهول، المنقطع عن الحاضر والماضي، وتشكيلاته التي تبدو مفاجئة لجميع الناس.

اقرأ أيضاً: الصراعات الشبكية وحروب ما بعد الحداثة

معظم الأعمال والمهن والأسواق والمؤسسات والموارد، التي تبدو اليوم قائمة وسائدة، هي موضع شكّ في مصيرها، وقدرتها على البقاء، لن تكون الأعمال والمؤسسات القائمة اليوم موجودة بعد سنوات قليلة، ولن تكون المدارس والجامعات والشركات والأسواق القائمة، اليوم، باقية كما هي بعد سنوات قليلة، فلم يعد هذا الهاجس المستقبلي حديثاً معزولاً، أو خيالاً علمياً.

لم تعد الفلسفة الآن قادرة على حماية وعينا بذاتنا ولا أيضاً على تشكيل وعي جديد

وببساطة، فإنّ الإنسان تحكّم مسار حياته ووجوده ومصيره ثلاثة محددات أساسية بيولوجية سلوكية ونفسية: البقاء، والخوف، والارتقاء. ولا يمكن الارتقاء إلّا بتأمين البقاء، ومواجهة الخوف والمهددات؛ فالإنسان يفكر في تحسين بقائه، عندما يملك الوفرة في الوقت والموارد، ويؤمّن بقاءه واحتياجاته الأساسية. والفلسفة تعكس الارتقاء وتحسين البقاء، وصياغة أسئلة جديدة، أو التفكير في أسئلة مؤجلة، والبحث عن إجابة. هكذا نشأت الفلسفة في العصور القديمة والوسطى، بعدما تطورت الزراعة، منشئة استقراراً وقرى ومدناً، ثم نهضت الفلسفة المعاصرة بعد الثورة الصناعية، وأنشأت هذا العالم الذي نعرفه.

اقرأ أيضاً: مأزق الخطاب الديني في عصر المعرفة والشبكية

واليوم، في ظلّ الخوف الذي يكتسح عالمنا الآيل للسقوط، والعالم المقبل غير الواضح، لم تعد الفلسفة قادرة على حماية وعينا بذاتنا، ولا تشكيل وعي جديد، ولا نملك أيضاً القدرة على انشغالات تتقدمها انشغالات البقاء، ومواجهة الخوف على وجودنا وأعمالنا ومصائرنا، لكنّها، بطبيعة الحال، مرحلة انتقالية محدودة؛ إذ سوف تبدأ الموارد الجديدة بالتشكل، ومعها أسواقها ونخبها وأفكارها وفلسفتها.

تحكّم بمسار حياة الإنسان ثلاثة محدّدات أساسية بيولوجية سلوكية ونفسية: البقاء والخوف والارتقاء

من المؤكد؛ أنّ الإنسان يبحث ويفكر في القيم الجديدة والناشئة، وتلك المتغيرة بفعل التحولات التي تجري في الأسواق والموارد، وبسبب سرعة هذه التحولات وجذريتها، فإن الأفراد والمجتمعات تعطي أولوية وأهمية لأسلوب الحياة، باعتباره التكيف الضروري الذي يجب اتباعه. فعلى سبيل المثال؛ عندما تصعد وتنتشر تقنيات التصوير والمراقبة وجمع البيانات، يتشكّل فكر واتجاه اجتماعي لحماية الخصوصية وإعادة تعريفها، وكانت الفردية ضريبة تؤدي في مجتمعات الصناعة، لكنّها تتحول في اقتصاد المعرفة، إلى ضرورة اجتماعية، يحمي بها الإنسان نفسه من الانتهاك والخواء. هكذا، تصعد قيم الفردية باعتبارها مبدأ أخلاقياً رفيعاً وحقاً جديداً للإنسان، ليحمي نفسه من غوغائية التقنيات الجديدة، وليرتقي بنفسه، ويحلّ فيها القيم والمعرفة والمهارات الجديدة التي تحميه، والعلاقات الاجتماعية نفسها، تتعرض لتحولات وتحديات؛ ففي فرص العمل، في المنزل أو عن بعد، يقلّ الدور الاجتماعي لمؤسسات العمل، وهي نفسها تواجه الانحسار والتحول. وفي فرص التعلم الذاتي وعن بعد، يقل الدور الاجتماعي للمدارس والجامعات. وهكذا، فإنّ الإنسان في حاجة إلى أوعية جديدة، لتنظيم علاقاته. هذه أمثلة للتحديات والتحولات التي تغير في حياة الإنسان، وتجعل أسلوب الحياة مجالاً صاعداً للإجابة عن التساؤلات الجديدة، وبناء الحياة الجديدة نفسها؛ كالصداقة، والأسرة، والطعام، واللباس، والسلوك الاجتماعي، واللياقة، والآداب الفردية والاجتماعية.

صار الإبداع القوة الرئيسة المحركة لاقتصاد المعرفة وأسواقها وهذا يجعله هدفاً أساسياً للتعليم والتدريب

وصار الإبداع القوة الرئيسة المحركة لاقتصاد المعرفة وأسواقها، وهذا يجعله هدفاً أساسياً للتعليم والتدريب، ومقياساً للتقدم المهني والاجتماعي، وجوهر التنافس على فرص العمل والقيادة. وهكذا تصبح الثقافة والفنون والموسيقى والكتابة الإبداعية والشعر والرواية والقصة والعمارة والتصميم، المحتوى الأساسي للمؤسسات التعليمية والتدريبية؛ لأن الإبداع والخيال أهم مورد في الأعمال والأسواق.

ويعتمد التقدم العلمي والتقني الجديد على معرفة الإنسان وفهمه، ففي محاكاة التقنية للإنسان، تصعد علوم اللغة وعلم النفس والاحتمالات، فجوهر التقدم العلمي والتقني، اليوم؛ هو تحويل اللغة، والإمكانات، والمهارات العقلية والتحليلية، والتذكر، والتداعيات، والترجمة، والتفكير، إلى رموز وبرامج حاسوبية وأجهزة وروبوتات. بطبيعة الحال؛ يصعد عدم اليقين ليحلّ محلّ اليقين، فتتراجع أهمية العلوم اليقينية، وتصعد الفلسفة وعلوم الإحصاء والاحتمالات واللغة والإنسانيات، وتحتل موقعاً جوهرياً ومؤثراً في العلم والتقنية والحياة، وفي إعادة النظر في المعنى والجدوى والوجود والمصير، وفي صعود التدين الفردي يصعد التصوف، بما هو التأمل الفردي والبحث عن الإجابات والإلهام.

إنّ الواقع المتعين يعبر عن فكرة داخلية تشكله أو تمنحه هويته، كما يقول هيغل، وبذلك فإنّ الواقع الديني الجديد المتشكّل يعكس فكرة دينية جديدة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية