في مكتبه بدمشق؛ ونحن نحتسي القهوة في درجة حرارة تقترب من الصفر؛ يصرّ الدكتور مأمون عبد الكريم غير عابئ ببرودة الطقس على أنّ بقاء آثار سوريا من بقاء الوطن؛ وأنّ هذا الإرث ليس إلا ملكاً لكل السوريين؛ وأنّ الحرب ستنتهي بالتأكيد؛ وسيكون هذا التراث عنواناً للمصالحة الوطنية.
وأكد المدير العام للمتاحف والآثار في سوريا في حوار خص به "حفريات" أنّ 80% من الآثار السورية المتضررة قابلة للترميم، بعد أن قامت مصلحة المتاحف بعملية تغليف استثنائية بدعم من اليونسكو، موضحاً أنّه قبل مهمته كمدير للآثار في سوريا حتى لا تتكرر مأساة آثار متحف بغداد في العام 2003.
والدكتور مأمون عبد الكريم أكاديمي سوري قدّم عبر مسيرته العلمية والمهنية إسهامات عديدة ومتميزة في المجال الأثري، أصبح مدير الشؤون العلمية في المديرية العامة للآثار والمتاحف بين عامي 2000 - 2002، ثم مديراً لشؤون المتاحف حتى العام 2004. كُلِّف رئيساً لقسم الآثار في كلية الآداب بجامعة دمشق بين عامي 2009 و2012، وتسلّم إدارة المديرية العامة للآثار والمتاحف في آب (أغسطس) 2012.
حتى لا تتكرر المأساة
ننزل للقاعة الرئيسة في المتحف الوطني؛ يفتح الباب؛ درجات السلم المنخفضة توحي أنّنا ننزل قبواً كبيراً مظلماً؛ لكن المكان الكبير الذي يتسلل إليه ما تبقى من ضوء النهار في مثل هذه البرودة يجعل من الصعوبة إدراك أنّ حجم التحديات التي واجهوها للحفاظ على هذه الآثار وهذا التراث الإنساني السوري كبيرة جداً؛ المكان يحتوي على صناديق خشب كثيرة في كل مكان؛ بعضها كتب عليها "متحف تدمر قطعة واحدة"، وبعض التماثيل بلا رؤوس؛ وحين سألته قال: "منذ توليت منصبي منذ أربعة أعوام ونصف العام ونحن نواجه دماراً ونبكي؛ كل أشكال الظلم عشناها؛ أنت تنظر الآن إلى تمثال أثينا وقد تم تحطيم الرأس من قبل "داعش"؛ هم يعتبرون هذه التماثيل أصناماً؛ لقد خضنا معركة شرسة لنقل آثار من كل محافظات سوريا لدمشق في مناطق آمنة".
أغلقنا المتاحف وبدل إخفاء القطع في أماكنها الأصلية غيرنا الإستراتيجية وقررنا نقل كل الآثار إلى دمشق
وأضاف "أعمل بشكل تطوعي مديراً للمتاحف؛ أنا أستاذ جامعي في جامعة دمشق؛ عندما قبلتُ هذه المهمة؛ فإنني قبلتها فقط حتى لا تتكرر مأساة نهب آثار متحف بغداد في العام 2003؛ في آب (أغسطس) 2012؛ كان الوضع في سوريا استثنائياً؛ كانت هناك تهديدات عندما وقع انفجار ضخم في المبنى الأمني واستشهد جنرالات؛ رئيس الوزراء هرب وترك سوريا؛ كان الوضع بالغ القلق؛ في هذه الظروف أحياناً وهو وضع انتقالي خطير؛ تحدث عمليات النهب؛ وهذا ما حدث في بغداد خلال بضع ساعات، نحن قمنا بإغلاق المتاحف وإخفاء القطع، لقد عرض عليّ أن أترك وطني لأهاجر إلى كندا لكنني رفضت.. كيف كنت سأواجه الأجيال القادمة؟".
خطة وطنية أنقذت تاريخ سوريا
وحول ظروف عمله يقول: في آب (أغسطس) 2012 قبلت هذه الوظيفة حاملاً رؤية بأنّني سأغلق المتاحف وسأخبئ القطع في أراضيها وأماكنها الأصلية؛ عندما عشنا هذه التجربة المريرة؛ غيرنا الإستراتيجية وقرّرنا نقل كل الآثار إلى دمشق؛ قمنا بعملية ترحيل 30 ألف قطعة أثرية بطائرات عسكرية من دير الزور إلى دمشق؛ وقمنا بنقل 24 ألف قطعة أثرية من حلب إلى دمشق في ظروف استثنائية صعبة جداً؛ في حمص وحماة كان الوضع ممتازاً؛ كانت الإشكالية الضخمة أمامنا هي الآثار في تدمر؛ لم نكن نتوقع أن يهاجم الإرهاب تدمر؛ كنا نعتقد أن تدمر ستبقى محمية؛ وعندما وجدنا أن الأمور في دائرة الخطر؛ بدأنا نحضر كل إجراءاتنا لعملية النقل؛ شاءت الأقدار أن تتم عملية نقل الآثار قبل احتلال مدينة تدمر بساعات عبر الصحراء متجهة إلى دمشق.
رحّلنا إلى دمشق 30 ألف قطعة أثرية من دير الزور و24 ألفاً من حلب بطائرات عسكرية
ويضيف: القصة بدأت عندما كلفت الحكومة السورية وزارة الداخلية بتجهيز 20 كوماندوز سوري وعناصر من الشرطة الخاصة ممن يستطيعون تحميل هذه الصناديق، وهذا شيء تم في منتهى الحرفية؛ لأنه كان يحتاج لخطط وقدرة على الدفاع، وقبل احتلال "داعش" لتدمر؛ أنقذنا 400 تمثال ومئات من القطع الأثرية؛ وعندما بدأوا يحققون مع الشهيد خالد الأسعد مدير الآثار والمتاحف في تدمر؛ لم يكن هناك سوى هذه القطع التي تراها الآن؛ لكنّهم كانوا يقومون بمحاولة تكسيرها بما يشبه السكين؛ كنا نعتقد أنّهم حوّلوا كل شيء إلى تراب، لكن فوجئنا بأنّ الأضرار لم تكن على مستوى كبير؛ لم نسع لوضع ابتسامة على وجه ميت؛ صحيح أن الجرح موجود؛ ولكن 80% من الآثار قابلة لأن يعاد ترميمها.
"كانت هناك مرحلتان لإنقاذ الآثار؛ الأولى ما قبل احتلال الآثار والثاني بعد التحرير؛ وشاءت الأقدار أن يتم احتلال تدمر مرة أخرى؛ فأنقذنا كل هذه الآثار".
بين "داعش" ومافيات تهريب الآثار
وحول الآثار في المناطق غير الخاضعة للنظام، يقول: دعني أفرق لك بين أمرين؛ بين "داعش" وعصابات ومافيا تهريب الآثار؛ مع "داعش" من المستحيل أن تتفاهم من أجل إنقاذ التراث أو الآثار؛ أنت تتعامل مع فكر خارج نطاق السياسة؛ فالقضية بيننا وبين "داعش" لم تعد سياسية؛ إنما من منطلق تكفيري بحت؛ عندما قتلوا خالد الأسعد (82 عاماً)؛ كانت إحدى التهم التي وُجّهت له أنّه "عابد أصنام"!.
مع "داعش" من المستحيل التفاهم لإنقاذ التراث أو الآثار فهو فكر خارج نطاق السياسة
ويضيف: أما باقي الأماكن الأخرى فالأمر يختلف: سأعطيك مثالاً؛ عندما سقطت مدينة بصرى في قبضة المسلحين، كان ثمة مجتمع محلي مليء بنخب ثقافية ودينية واجتماعية؛ تواصلنا مع هذه النخب بأن تكون هناك وساطة وفرضوا حلاً بأن تبقى دائرة الآثار تعمل باعتبارهم خبراء، ونحن من جهتنا ندفع الرواتب والمعاشات وكل شيء لهم؛ وهذه منطقة غير خاضعة لسيطرة الدولة؛ نحن ندفع مرتبات لما يقرب من 22 موظفاً ومهندس آثار يعملون معنا منذ عامين.
إنقاذ التراث سيبقى أبدياً
يقول الدكتور مأمون: نريد أن نقول إنّنا نختلف في السياسة نعم؛ نختلف في كل شيء لكننا لا نختلف على تراثنا؛ هذا التراث يجمعنا؛ هذا التراث هو مشروع للمصالحة؛ كل شيء قابل للتغيير؛ كل شيء سينتهي؛ وستنتهي المأساة السورية؛ وإنقاذ التراث سيبقى أبدياً.
ويوضح: سأروي لك شيئاً آخر؛ لدينا معرض يضم أجمل قطع للفسيفساء لكنها سقطت؛ تواصلنا مع النخب الثقافية والاجتماعية والدينية؛ وقمنا بإنقاذها؛ هذا نصر للشعب السوري ولكل السوريين؛ هناك شرفاء في كل مكان؛ المشكلة الحقيقية التي تقابلنا في إنقاذ الآثار هي "داعش"؛ لأنهم ينظرون للآثار باعتبارها أصناماً كما قلت لك.
عندما سقطت بصرى تواصلنا مع هذه النخب هنالك وفرضوا حلاً باستمرار عمل دائرة الآثار
وبين الدكتور مأمون أنّ هناك ما يقرب من 2500 موظف آثار يعملون في كل سوريا من مناطق سيطرة الأكراد لمناطق إدلب، وكل المناطق التي تشهد صراعات ونزاعات؛ "إذا كنا معنيين بإنقاذ هذا التراث فعلينا أن نتّحد؛ وإذا كان هناك خلاف سياسي فالعنوان خاطئ؛ عنوان مناقشة السياسة مع مديري الآثار ليس في محله. نحن مهمتنا الأساسية في المقام الأول هي الحفاظ على التراث؛ هناك مسؤولية سورية ممتازة وهناك التفاف سوري قوي؛ هناك التفاف عالمي قوي معنا؛ لكن ليس هناك التفاف عربي إسلامي معنا؛ للأسف في عالمنا العربي كل شيء يبدأ بالسياسة وينتهي بالسياسة".
حماية التراث موضوع إنساني
ويتابع: بعد أربع سنوات ونصف منذ توليت منصب مدير عام المتاحف والآثار بالجمهورية العربية السورية؛ لم أتلق رسالة دعم عربية واحدة سوى من لبنان؛ بينما أوروبياً وغربياً تلقيت مئات وآلاف الرسائل من شخصيات ومنظمات تعلن دعمها للآثار السورية من أمريكا وكندا واليابان؛ لم نتلق أي دعم حتى من رئيس جامعة عربية؛ سوى مركز التراث في البحرين ومركز التراث العالمي ومؤسسة الشارقة بدعم من الشيخ سلطان قاسمي ودولة لبنان.
يؤكد مدير الآثار والمتاحف السورية أنّ التراث الثقافي السوري يستقطب اهتمام العالم أجمع؛ "لكن للأسف ليس هناك دعم معنوي من الأشقاء العرب، كنا نتطلع إلى نوع من الدفء في العلاقات الإنسانية بين العرب على الأقل من ناحية التراث؛ كنا نحتاج شيئاً واحداً فقط من العالم العربي؛ كنا نحتاج سؤالاً واحداً فقط يوجهونه إلينا: هل ما زلتم أحياء أم أصبحتم من الأموات؟ رسالة واحدة فقط"، مضيفاً أنّه موضوع إنساني بحت، "لم نطلب أموالاً ولم نطلب زيارات منهم إذا كانوا خائفين من زيارة دمشق أو زيارة سوريا أو حتى إن كان هناك تخوّف سياسي؛ فلا أعتقد أنّ هناك تخوفاً من أن يقوم مدير متاحف في دولة عربية، أو أن يراسلنا رئيس جامعة عربية ليقول إننا معكم".
2500 موظف آثار يعملون في كل سوريا التي تشهد صراعات ونزاعات
ويتابع قائلاً: نتحدث عن إرث لا يمكن أن يقسم بين قسمين؛ قسم للمعارضة وآخر للنظام؛ هذا أمر غير مقبول ومرفوض؛ هذا تراث ملك للإنسانية؛ وملك للسوريين كلهم؛ الأزمة ستنتهي والحرب ستنتهي؛ وسيبقى هذا التراث، "التراث السوري يعنى الهوية؛ سيجتمع السوريون ذات يوم وسيذهبون إلى تدمر؛ لن نسأل وقتها من هو المعارض؟ ومن الموالي؟ في المستقبل القريب أو الآن، المهم هو إنقاذ هذا التراث؛ جزء منه مسؤولية عربية وجزء آخر مسؤولية عالمية".
لا يأس مع الأمل
وعند سؤال الدكتور مأمون عن فرص إعادة ما تم تدميره من آثار سواء في تدمر أو غيرها، أجاب: الصناديق التي تراها الآن مملوءة بآثار من تدمر في الترحيل الأول؛ بعد احتلالها من التنظيمات الإرهابية المسلحة.. قاموا بتمزيق التمثال من النصف؛ وهناك العديد من القطع التي لم يكن من السهل نقلها؛ قمنا بعملية نقل في آخر ليلة بعدما أدركنا أن تدمر ستسقط؛ قمنا بعملية ترحيل لما يقرب الـ400 تمثال استثنائي جميل ومئات من القطع الأخرى ولكن بقيت هذه القطع.
وأضاف: لاحظ أنّ رأس هذا التمثال سليم، في حين أن جسده مكسر لقطع؛ هذا يستغرق وقتاً طويلاً في عملية الترميم؛ لأنها عملية معقدة جداً، أكثر من 80 % من الآثار الموجودة قابلة لترميمها بكل بساطة؛ الرأس موجود في معظم التماثيل وسيتم إعادة ترتيبها، أنقذنا كل شيء.
"في 27 آذار (مارس) 2016 عندما تم تحرير مدينة تدمر نقلنا ما تبقى من آثار، وحدثت عملية احتلال أخرى للمدينة الأثرية، تصوّر لو كانت هذه الآثار قد بقيت مرة أخرى بأيدي هؤلاء لفجروها كلها، لم نفهم لماذا أقدم هؤلاء الإرهابيون على هذا الأمر؛ كسّروا ولم يكملوا التكسير. ويقطعون الرؤوس، ولحسن الحظ كل شيء قابل للترميم".
كل شيء قابل للتغيير وستنتهي معه المأساة السورية لكن التراث سيبقى للأبد
وقال: لقد قمنا بعملية تغليف استثنائية بدعم من اليونسكو؛ حتى لا نكرر مأساة بيروت؛ فهم خاضوا حرباً أهلية؛ أنقذوا الآثار ولكن الرطوبة وعوامل الجو أثرت فيها، قدمنا كل أطروحاتنا ووافقوا، وقمنا بعملية تغليف كل شيء وتصويره من جديد؛ خلال أربع سنوات من الحرب قمنا بالتقاط أكثر من 270 ألف صورة لقطع أثرية جديدة، لدينا ترسانة من البيانات حول الآثار من الصور والبيانات، وتم رقمنة جميع المخططات، وإنقاذ آلاف من المخططات العثمانية من القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر إلى أماكن آمنة لأننا خفنا من إمكانية حرائق أو إبادة، ونقلناها لمستودعات إسمنتية مناسبة في ظروف صحيحة.
واختتم الدكتور مأمون بقوله: "نحن فعلنا هذا كي لا يواجهنا أحفادنا بأنّنا لم نكن على مستوى المسؤولية، وأنّنا تخاذلنا يوماً في الدفاع عن حماية الآثار السورية؛ كانت الدموع تنهمر من عيوننا، ونظل بلا أكثر من أسبوع، هل تعلم ماذا يعني لو دخلت عصابات "داعش" مدينة تدمر قبل ما فعلناه؛ ستكون أكبر نكبة في حياتي كلها، ولن أسامح نفسي أبداً، كان هذا يحتاج لقرارات جادة وفورية وحاسمة، لحسن الحظ انتصرنا في هذه المعركة، التي هي معركة ثقافية في نهاية المطاف، الأمر لا يتعلق بالسياسة".