محمد بن زايد: الشخصية الهادئة وفعل التغيير العميق

محمد بن زايد: الشخصية الهادئة وفعل التغيير العميق


31/05/2022

هيثم الزبيدي

لافتةٌ الحفاوة التي صاحبت تولي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئاسة دولة الإمارات العربية المتحدة. فمن جهة، لا يستطيع أيّ مراقب إلا أن يلاحظ توافد زعماء العالم على أبوظبي لتقديم العزاء بالشيخ خليفة بن زايد والتهنئة للشيخ محمد بن زايد، بما يعكس المرتبة الكبيرة التي حققتها الإمارات على مدى نصف قرن منذ تأسيسها. ومن جهة أخرى، أن كل هذه الحفاوة، بما فيها اللحظات التي بايع فيها حكام الإمارات الشيخ محمد بن زايد رئيسا للدولة، تمت بهدوء استثنائي. هدوء يذكّر بشخصية الشيخ محمد نفسه.

لا يريد أحد أن يضع نفسه محل الإماراتيين، ليقول إن أهل الإمارات استبشروا خيرا بوصول الشيخ محمد بن زايد إلى الرئاسة. لعل كلمات الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي والشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة تلخص رد الفعل على مستوى القيادات والشعب. لكن حكم الشيخ محمد لا شك سيكون علامة فارقة في تاريخ الدولة الفتية. ولأن الأمور تؤخذ بالقياس، فأن ملامح الحكم أمامنا في السنوات التي صاحبت مرض الشيخ خليفة، عندما فوض فيها الشيخ محمد كي يشرف على عمل الدولة، على المستويين الاتحادي للإمارات والمحلي لحكومة أبوظبي.

في دولة ثرية مثل الإمارات، يتوقع المواطن والمقيم والمراقب تحقيق الإنجازات. طالما توفرت النظرة الصائبة وخطة عمل متوازنة للتنمية والإعمار والتطوير البشري والمادي، فأن البلاد ستسير بخطى وئيدة نحو الأحسن. هذا هو الطبيعي. لكننا نعرف عددا من الدول في المنطقة ممّن توفر لها الثراء والموارد، وانتهت في وضع مزر. دولة الإمارات حققت الكثير في تحويل المال إلى ثراء في أوجه متعددة يدركها كل زائر للبلاد بما يتجاوز تلك الأبراج الجميلة والطرقات والخضرة إلى بناء اقتصادي وتنموي بعيدا عن انظار السائح المتجول. السياح لا يزورون المحطات النووية أو يتجولون داخل المنشآت النفطية المتطورة.

ما يميز إنجازات الشيخ محمد خلال الفترة الماضية، بعيدا عن الإنجاز البشري والاقتصادي، يرتبط بنظرته الاستراتيجية للأمور. هذه النظرة ترسم خارطة طريق للمستقبل. ففي عالم الأزمات، كان الشيخ محمد في مقدمة من قرأ القادم الصعب وتصرّف على أساسه.

إن كان من الصعب رصد كل المحطات السابقة في مسيرة الشيخ محمد، فلعل من الضروري تسجيل بعض من أهمها.

حل عقدة العلاقة مع السعودية

تعامل الشيخ محمد بن زايد مع موضوع العلاقة مع السعودية بتأنّ وصبر. السعودية بلد محوري وأساسي في المنطقة ومن الضروري التلاقي معه استراتيجيا مهما كانت العقبات المتراكمة في العلاقة من أيام تأسيس الدولتين. الدول المستقرة تجلس إلى بعضها البعض وتتحدث عن عقد العلاقة، وخصوصا تلك المتعلقة بالحدود. في مشهد استثنائي أثناء واحد من اللقاءات حول قضية الحدود، أدرك الشيخ محمد أن الحوار سيأخذ البلدين إلى التصعيد. كان بعض الحاضرين هم من المسنين الإماراتيين الذين وصفوا “الطوي” أو البئر التي كانوا يأخذون منها الماء لهم ولماشيتهم، مما يجعل كلامهم شهادة تاريخية على عائدية تلك المنطقة للإمارات. وبدلا من التصعيد، كان رد الشيخ محمد استثنائيا: أن هذا خلاف بين أخوة، وإذا لم يتمكنوا من حله الآن، فيمكن أن يترك لجيل أو جيلين لاحقين من الإماراتيين والسعوديين للجلوس وترسيم الحدود. العلاقة مع السعودية أهم من خلاف على راقم حدودي يميل بضعة كيلومترات لصالح هذا الطرف أو الآخر.

نفس الشيء تكرر عندما توترت العلاقات بين البلدين وأغلقت نقطة الحدود على الشاحنات العابرة من الإمارات نحو السعودية. تم احتواء الخلاف خلال أيام لأن القيادة الإماراتية نظرت دائما إلى البعد الاستراتيجي في العلاقة مع السعودية بعيدا عمّا يعكّرها.

تبدو العلاقات بين البلدين الآن في أفضل حالاتها. يربط البعض هذا بالعلاقة الخاصة بين الشيخ محمد بن زايد وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. هذا صحيح. لكن تحسّن العلاقات استبق وصول العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى العرش وتعيين الأمير محمد بن سلمان لولاية العهد. كان الشيخ محمد بن زايد حريصا على التواصل المستمر مع العاهل السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، واتخذ البلدان قرارات استراتيجية مهمة بشكل مشترك خصوصا في مرحلة الاضطرابات التي أعقبت اندلاع الأزمات تحت مسمى “الربيع العربي”. اشتعل عدد من الحروب الأهلية في أكثر من بلد عربي ووصل الإخوان إلى الحكم في مصر وانطلقت الحملة القطرية – التركية التي تهدف إلى زعزعة استقرار المنطقة بمسمّيات مختلفة. التقارب السعودي – الإماراتي كان خط الدفاع الأول عن الاستقرار في المنطقة، وكان البلدان هما أول من هب لمساعدة الثورة المصرية التي أطاحت بحكم الاخوان في مصر. قرار الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز كان حاسما ومتوافقا بالكامل مع الموقف الإماراتي.

السعودية في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان دولة بمواصفات مختلفة. التغييرات أكثر من أن تحصى. لكن العلامة الفارقة هي تأسيس “العلاقة الخاصة” مع دولة الإمارات على أساس متين وتشاور مستمر ومحصلات متقاربة. لكل بلد طريقته في التعامل مع المتغيرات الدولية، لكن أيّ مراقب سيخلص إلى أن العلاقة قوية على المستوى الاستراتيجي، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالأمن الإقليمي والوضع الدولي. ثمة تجليات كثيرة للعلاقة الخاصة بين الدولتين، لعل آخرها الإدراك المشترك بأن الولايات المتحدة ليست كما كانت وأنها تساوم على أمن المنطقة لاعتباراتها الخاصة، وأن الوقت قد حان لأن ينظر قادة المنطقة في تحالفات أوسع من محدودية نظرة دونالد ترامب الاعتباطية أو تخبطات جو بايدن المربكة. حرب أوكرانيا وقضايا أسعار النفط والغاز والضغوط الأميركية امتحنت هذا التغير السعودي – الإماراتي في النظرة إلى الولايات المتحدة، والنتيجة واضحة للعيان. العلاقة الخاصة صمدت أيضا أمام اختلاف النظرة في التعامل مع الملف اليمني. كان الجميع يراهن على الانشقاق بين البلدين بعد أن سحبت الإمارات قواتها من اليمن. هل كان من المطلوب نظرة متطابقة، أم الوصول إلى محصلة مشتركة في أن تمنع دول الإقليم النافذة الحوثيين من التمدد في الخليج وفقا لأجندة إيرانية معدّة سلفا؟

الاستثمار الطويل للشيخ محمد بن زايد في العلاقة مع السعودية أوصلها إلى ما هي عليه الآن من رسوخ وتفاهم.

الاحتفاء بتولي الشيخ محمد بن زايد الرئاسة احتفاء هادئ. هو جزء من شخصيته. والهدوء هو ما ميّز قراراته التي صاحبت التغيرات الكبرى في المحطات التي مرّت علينا

حس المواطنة

محطة أخرى ينبغي التوقف عندها في نظرة الشيخ محمد بن زايد وهي العلاقة بالمواطن الإماراتي. المواطن الإماراتي ليس فقط الرجل أو المرأة اللذين يعيشان في أبوظبي أو دبي، بأناقتهما التقليدية اللافتة والبيوت الفارهة والسيارات الفاخرة. الإماراتيون هم أيضا المواطنون في مدن أصغر وبلدات تفترش خريطة البلاد. على طول الطريق الواصل بين أبوظبي ودبي، أو ذاك الذي يحاذي الساحل نحو الرويس وطريف أو الذي يمتد في عمق الصحراء نحو مدينة زايد وواحة ليوا، ستجد عناية فائقة توليها حكومة أبوظبي بالإماراتيين. في تعليق لصديق زائر عند مرورنا بمدرسة ثانوية في مدينة المرفأ قال “هذا مبنى يليق بجامعة”.

لكن الإمارات ليست أبوظبي فقط. وإن كانت دبي حالة استثنائية عالميا، فأن الإمارات الشمالية نالت نصيبها من الإعمار والتنمية. في مجموعة من القرارات التي اتخذها الشيخ محمد بن زايد قبل سنوات، تستطيع أن تقرأ نظرته لهذه المدن والبلدات في الإمارات الشمالية. خذ مثلا القرار الخاص بالموظفين في أبوظبي. فأسوة بكل عاصمة، تستقطب أبوظبي الباحثين عن عمل – وخصوصا في الوظائف الحكومية التي توفرها الحكومة الاتحادية وحكومة أبوظبي – مما يجعلها هدفا للشباب من المناطق البعيدة. كان القرار غير مباشر ويقضي بعدم السماح لموظفي حكومة أبوظبي بالانتقال ذهابا وإيابا على الطرق السريعة خلال عطلة نهاية الأسبوع وما يسبّبه ذلك من حوادث طرق مؤسفة. لكن البعد الاستراتيجي للقرار هو التحرك لأن يبقى أبناء تلك المدن والبلدات البعيدة في أماكنهم وألاّ تفرغ تلك المدن لصالح وافدين مما يهدد التوازن الديمغرافي فيها.

يحتاج بقاء هؤلاء المواطنين في مدنهم وبلداتهم أن تذهب التنمية إليهم وأن يحصلوا على حصتهم من الوظائف الاتحادية. وليس بعيدا عن الذاكرة تلك الجولات التي قام بها الشيخ محمد في الإمارات الشمالية ممثلا للشيخ خليفة بن زايد. استمع إلى المواطنين الإماراتيين، ووجه على الفور الحكومة وصندوق خليفة للتنمية في توفير السكن ودعم الوظائف وتشجيع الاستثمار. الرسالة كانت واضحة: دولة الاتحاد ترعى أبناءها حيثما كانوا.

حتى الاستثناء في دبي كان أمامه محطة اختبار. فمع الأزمة المالية العالمية عام 2008، تأثرت الحركة التجارية في دبي واستحق تسديد بعض القروض التي استثمرت في إعمار المدينة وجعلها على ما هي عليه. راجت قصص في الغرب عن عدم قدرة دبي على تسديد أقساط الدين أو الدين نفسه. تحركت أبوظبي بسرعة ومنعت تكرار ما كان يحدث في عدد من الدول الأوروبية التي وجدت نفسها مفلسة أو على حافة الإفلاس. هذا القرار الاستراتيجي وتوقيته كانا محطة فارقة لتسجيل لحمة المواطنة، ليس مع المواطن الإماراتي فقط، بل على مستوى إمارة مع إمارة. اسم برج خليفة الذي أطلق على مبنى برج دبي، شاهد تاريخي لقرون قادمة على لحظة قرار لم تنظر فيه أبوظبي لنفسها بمعزل عن دبي، أختها الشقيقة في الاتحاد.

الاستقرار الإقليمي

يبدو العالم العربي اليوم منشغلا بأزمة توفير الغذاء بعد تراجع أو توقف التوريدات بسبب حرب أوكرانيا. هذه أزمة كبيرة وخطيرة وتحتاج ليس إلى توفير الغذاء لسكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحسب، بل إلى تغيير ذهنية التعامل مع الأمن الغذائي.

لكن لو عدنا إلى 10 سنوات ماضية، سنجد أن التهديدات كانت سياسية. كان الإخوان مثلهم مثل إيران، يواصلون مشروعهم للسيطرة على كل مفردات الحكم في عدد من الدول العربية استعدادا للتمدد. مشروع الإسلام السياسي صعد على ظهر “الربيع العربي” وصار صاحبه.

المنطق الذي ساد في عدد من الدول العربية أن “ننحني للعاصفة”، خصوصا وأنها مدعومة من إدارة أميركية ساذجة. إدارة باراك أوباما اقتنعت أن الإسلاميين يمكن أن يرسوا حكما ديمقراطيا أسوة بما حدث في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية حين تقدمت الأحزاب الديمقراطية المسيحية. موقف هو قمة في السذاجة وعدم الفهم لطبيعة الحركات الإسلامية في عالمنا العربي والإسلامي. ومن جهة أخرى، مارست إدارة أوباما أسلوب الاسترضاء مع إيران، خصوصا بعد أن مكّنت طهران القوات الأميركية من انسحاب “مشرّف” من العراق. باعت الإدارة الأميركية المنطقة بعقد كتب على ورقة اسمها الاتفاق النووي مع إيران.

المشهد في العالم العربي كان مأساويا. ميليشيات سنية وشيعية صارت تتحكم بالدول، وكان من الواضح أن المشروعين لا زالا في بدايتهما. كان موقف الشيخ محمد بن زايد واضحا في منع هذين المشروعين من تحقيق أغراضهما. عندما ثار المصريون على حكم الإخوان، وفّرت الإمارات والسعودية العون المادي الذي يسمح بتماسك الدولة إلى حين الخروج من أزمتها. سقط المشروع القلب الذي بنى عليه الإخوان والقطريون والأتراك أحلامهم. وكانت القوات الإماراتية هي من حرّر الجنوب اليمني من الخطر الحوثي في رسالة تحذير مهمة لإيران ومشروعها في تطويق الجزيرة العربية من حافتها الجنوبية، بعد أن تمكنت من تحقيق الكثير في العراق من خلال الحشد الشعبي، وفي سوريا من خلال الحرس الثوري وحزب الله، وفي لبنان كمحطة أخيرة في الطريق الرابط بين طهران وبيروت. ضربتان مهمتان للإسلام السياسي السني والشيعي.

بعد عشرة أعوام من الآن، سيؤكد المؤرخون أن مشروع الإسلام السياسي في المنطقة ما كان له أن يتزحزح عن حكم العديد من الدول لولا وقفة الشيخ محمد بن زايد.

 لا شك أن ثمة الكثير مما يمكن أن يكتب عن كاريزما الشيخ محمد بن زايد وعلاقاته الدولية ومكانة الإمارات الصاعدة عالميا ومرونته حتى مع من يناصبونه العداء الشخصي أو العداء للنموذج الإماراتي. هذه كانت بعض المحطات التي تستحق التوقف عندها أكثر من غيرها.

الاحتفاء بتولي الشيخ محمد بن زايد الرئاسة احتفاء هادئ. هو جزء من شخصيته. والهدوء هو ما ميّز قراراته التي صاحبت التغيرات الكبرى في المحطات التي مرّت علينا.

عن "العرب" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية