
صابر بليدي
فجّر المؤرخ والباحث الجزائري محمد الأمين بلغيث جدلا صاخبا أعاد إلى الواجهة نزعة إثنية وهوياتية متجددة، بعدما اعتقد البعض أن فتائلها قد تفككت، لكن منسوب الشحن بين الأنصار والخصوم، أكد على أنها ما زالت قادرة على صناعة الانقسام والاستقطاب، فمجرد تصريح لم يتعد حدود نصف الدقيقة لقناة فضائية، كان كافيا لوضع السلم الأهلي على حافة الانهيار، وتهديد حقيقي للنسيج الاجتماعي، خاصة بعد دخول نخب وقوى سياسية على خط الأزمة.
ساهمت ردود الفعل التي أعقبت التصريح الذي أدلى به المؤرخ والباحث الجزائري محمد الأمين بلغيث، لقناة “سكاي نيوز عربية”، حول مسألة الهوية الأمازيغية في الجزائر، في صعود لافت للتوتر المجتمعي، فقد كان البيان الناري الصادر عن التلفزيون الحكومي ضد دولة الإمارات العربية المتحدة وضد الباحث، ثم قرار إحالته على السجن المؤقت في انتظار التحقيق في تهم جنائية وجزائية، كافيا لمعاينة انقسام هوياتي واضح بين ما بات يعرف بـ”أنصار” بلغيث وبين “خصومه”.
بلغيث، الذي كان يفرش له السجاد الأحمر في القنوات التلفزيونية ومختلف وسائل الإعلام خلال السنوات الماضية، وجد نفسه في سرعة البرق نزيل سجن الحراش بالعاصمة، رفقة الفاسدين والمجرمين ومعتقلي الرأي.. وغيرهم، وهو لا ينتمي إلى أيّ فصيل من هؤلاء، إلا أن سوء قراءته للتوازنات داخل مراكز القرار وتوجهات السلطة نحو إطفاء التوظيف الهوياتي في تصفية الحسابات، جعلاه يسقط في مطب مفاجئ كلفه فقدان مكانته في دوائر السلطة، بعدما وصفه بيان التلفزيون الحكومي، بـ”صاحب النفس المريضة، وتاجر الأيديولوجيا في سوق التاريخ،” كما حشد ضده قطاعا عريضا من الشارع والنخب الجزائرية.
العارفون بالمزاج العام في البلاد يقولون بأن “بلغيث أخطأ المكان والزمان فقط،” في إشارة إلى ترديده نفس الكلام في مختلف البلاتوهات وفي الصحف والمواقع منذ سنوات، ولم يكن رد الفعل عليه قويا بهذه الحدة، والسبب أن السلطة كانت توفر الغطاء اللازم وتتبنى خفية التوجه المقصود لرغبتها في تفكيك البنية السياسية والاجتماعية التي كانت تغذي احتجاجات الحراك الشعبي.
أما الآن فزيادة على نيتها في استمالة الشارع الأمازيغي إلى النسيج الوطني، فهي تمر بأزمة صامتة مع دولة الإمارات العربية المتحدة.
صناعة استخباراتية
“لا وجود لشيء اسمه الثقافة الأمازيغية، وما يتردد هو صناعة الاستخبارات الصهيونية والفرنسية،” هذه الجملة هي التي وضعت السلم الأهلي على صفيح ساخن وأثارت انقساما شوفينيا في الشارع وحتى لدى النخب، وأدت إلى حبس بلغيث وسط تضارب حول الهشاشة التي تدب في أوساط المجتمع، والأسباب التي تعيد الوضع في البلاد إلى مربع الصفر مع أيّ طرح لإشكالية الهوية الوطنية والتعايش بين المكونات الإثنية والثقافية واللغوية.
لكن هل يكون سجن الباحث وتوجيه تهم جنائية وجزائية له وصفة علاجية تنهي المرض، أم تكون عقارا سيزيد من التهاب وتوسع الداء، فقد أجمع الأنصار والكثير من الخصوم على أن سلب الحرية لن يكون حلا للأزمة المزمنة، وأن فتح المجال أمام الحريات والنقاش المفتوح هو السبيل الوحيد للمحاججة وتقديم الطروحات وإفراغ الصدور من الشحنات المتراكمة.
ويرى متابعون أن سجن المؤرخ والباحث، قرار متسرع، وسيضع السلطة القضائية أمام ضغط رهيب، وقبلها السلطة السياسية التي ستجد نفسها غير دقيقة في تقدير الموقف، فمحاكاة وسم افتراضي لا يعني في الغالب أنه تفاعل إيجابي مع الرأي العام، وأن مفعول التصريح كان بالإمكان احتواؤه بأي تصرف آخر، إلا سجن الباحث الذي جلب تعاطف أنصار توجهه الأيديولوجي، وحتى عدم رضاء الخصوم والمحايدين.
ودخلت قوى سياسية وأكاديمية موالية أو قريبة من السلطة على خط الأزمة على غرار حركة البناء الوطني وحركة مجتمع السلم وأساتذة التاريخ في الكليات، وإذ كان الظاهر هو التنديد بسجن الباحث والمؤرخ، فإن تداعياته تزيد من شرخ الأزمة، لأنه في المقابل هناك قوى مماثلة تريد الضرب بيد من حديد لكل من يتجرأ على الطعن في مكونات الهوية الوطنية، وذلك ما سيشكل مأزقا حقيقيا للسلطتين القضائية والسياسية في التعاطي مع الملف.
السجن.. علاج أم مأزق
ناشد رئيس حركة البناء الوطني عبدالقادر بن قرينة، الرئيس عبدالمجيد تبون، أن يعفو عن بلغيث، وقال “صحيح أننا لا نطعن في أحكام القضاء الجزائري متى صدرت، ولكن ثقتنا في القاضي الأول في البلاد وأملنا في حكمة الأخ رئيس الجمهورية وتبصره لقطع الطريق على المتاجرين بالتأزيم، لأننا ندرك أن ابنا وطنيا سليلا للشهداء مثل الدكتور الأمين بلغيث ستشفع له وطنيته عندكم”.
وتم اتهام بلغيث بـ”انتهاك المبادئ العامة التي تحكم المجتمع الجزائري المكرسة بموجب الدستور، وتعديه على مكون أساسي للهوية الوطنية، ومساسه بالوحدة الوطنية،” حسب بيان صادر عن محكمة الدار البيضاء بالعاصمة، المختصة في الجرائم المرتكبة بواسطة الوسائط الإعلامية والإلكترونية، وهي تهم جنائية وجزائية ثقيلة.
من جانب آخر أكدت حركة مجتمع السلم على أن “المرحلة الدقيقة والحساسة التي تمر بها الأمة وتجتازها البلاد تقتضي الحفاظ على التماسك الوطني ضمن عناصر الهوية الوطنية ومكوِّنات الشخصية الجزائرية التي تنتمي إلى الإسلام والعروبة والأمازيغية، وتجنب كل ما من شأنه أن يفرّق بين الجزائريين أو يضعف وحدتهم والعمل بما يجمع كلمتهم ويضمن قيم الوحدة والانسجام التي جمعت بين أبناء الجزائر في تعايشٍ راقٍ، وتكاملٍ مبدع ووحدة محصنة للبلاد”.
ووجهت الحركة نداء للنخب والمثقفين والإعلاميين والرسميين إلى تغليب معاني الوحدة والأخوة وحماية الوطن من كل محاولات الاستهداف الخارجية وامتداداتها الداخلية التي تستهدف إثارة الاختلاف وإضعاف الجبهة المجتمعية، وأكدت على ضرورة تبني الخطاب المسؤول والتصريحات المضبوطة التي تساهم في تحقيق الأمن الاجتماعي والسياسي في البلاد.
أما رئيسها السابق عبدالرزاق مقري فقد ذكر في منشور له أن “الخروج من الإطار العلمي إلى التهارش السياسي بشأن اختيار كلمة (أمازيغ) أو (بربر) في تسمية المكونات السكانية، وحول أصل الأمازيغ أو البربر هل هم عرب أو غير ذلك لغو لا وزن له، والانقسام على أساس ذلك أمارة من أمارات التخلف، والتوجه إلى فضاء القضاء ما لم تكن ثمة إساءة للسكان بهذا الخصوص لا مبرر له”.
قال مقري “لم يقل بلغيث شيئا جديدا البتة، كل ما تطرق إليه هو موضوع نقاش علمي وثقافي قديم كُتبت فيه الكتب والمقالات والبحوث بلا حد ولا عدد، منها ما يؤيده ومنها ما يعارضه، والتصريحات التي أساءت لعناصر الهوية الأخرى الإسلام والعربية كثيرة، وثمة من فعل ذلك وهو مبجل مقرب في وسائل الإعلام ولدى السلطات، وأن بيان التلفزيون الجزائري وتحريك القضاء لوقف الدكتور بلغيث سيؤجج الاحتقان الهوياتي ولا يهدئ الأوضاع”.
ووجه أكثر من 300 أستاذ جامعي من مختلف الجامعات الجزائرية رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية مطالبين بتدخله في قضية الباحث بلغيث.
وقال بيان حمل توقيعهم بأنهم “يتوجهون إلى رئيس الجمهورية بهذه المناشدة بناءً على ثقتهم بحكمته وبصيرته، وأن المسؤولية الأخلاقية والمهنية تحمّلهم الوقوف والتضامن مع زميلهم الذي أفنى سنوات طويلة في خدمة التاريخ الجزائري والجامعة الجزائرية”.
وطالب الأساتذة بـ”إنصاف” الأستاذ بلغيث وتمكينه من العودة إلى أسرته واستئناف عمله الأكاديمي، لأن الجزائر في حاجة إلى كافة أبنائها وطاقاتها للحفاظ على مسيرتها الموحدة والقوية، كما أرادها الشهداء، لاسيما وأن الرجل يعد من أعلام الدرس التاريخي في الجزائر، وله إسهامات بارزة في المكتبة الجزائرية والعربية بأكثر من 20 مؤلفا.
لكن رئيسة حزب العمال لويزة حنون كان لها رأي آخر من تصريح الباحث والمؤرخ، الذي وصفته في تصريح لها أمام أنصارها في مدينة بجاية التي تعد إحدى المدن الكبرى في منطقة القبائل، بـ”الدكتور المزعوم في التاريخ”.
وصرحت “تزوير التاريخ، في جميع دول العالم، يُعد جريمة. إعادة كتابة التاريخ وفقا لأيديولوجية معينة ليس رأيا ولا عملا علميا، بل جريمة”.
موقف أم جريمة
قالت حنون “نحن شعب أمازيغي، تعربنا بفعل الإسلام، جزئيا أو كليا، حسب المناطق. هذه هي الحقيقة التاريخية المثبتة علميا، سواء أعجب ذلك البعض أم لا،” ورددت “نحن شعب أمازيغي، وكذلك كل شعوب المغرب.. لقد طالبنا بانسحاب الجزائر من هذه الجامعة التي تحولت إلى أداة في يد الصهاينة، وأن دعم الجزائر غير المشروط للقضية الفلسطينية لا علاقة له بالعروبة أو حتى بالدين.. دعمنا نابع من قناعة بعدالة هذه القضية، كونها قضية تحرر وطني”.
ولفتت إلى أنه “نحن نتقاسم مع الشعوب الأخرى الثقافة والدين، لكننا أمة بحد ذاتها. الجزائر أمة. ولا ننتمي لما يسمى بالأمة العربية، لأنها ببساطة لم توجد يوما، وأن الأمة تُبنى من شعب له تاريخه، ثقافته، لغته أو لغاته، أرضه، ومؤسساته التي تمثله، وما يسمّى بالأمة العربية هو مجرد مفهوم ابتكره بعض المفكرين كرد فعل على ظهور الحركة الصهيونية”.
وفي نفس الاتجاه، ذهبت جبهة القوى الاشتراكية، التي استنكرت ما وصفته بـ”الانحرافات الخطيرة التي تستهدف ثوابت الأمة الجزائرية،” واعتبرت “الطعن في مكونات الهوية الوطنية ليس مجرد رأي، بل جريمة وخيانة عظمى، خصوصاً في ظل ما تمر به البلاد من تحديات إقليمية ودولية دقيقة”.
وأكد الأمين العام للحزب يوسف أوشيش على أن “التصريحات التي تشكك في الشخصية الجزائرية تسعى إلى زعزعة استقرار البلاد وتغذية خطاب الفرقة والكراهية، وأن احترام الثوابت الوطنية لا يتنافى مع التعددية، بل يتطلب إطارا وطنيا جامعا يثمّن كل مكونات الهوية الجزائرية ويقطع الطريق أمام المشاريع التخريبية، سواء أكانت مشرقية أم غربية”.
لكن رئيس حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية عثمان معزوز، الذي سبق له أن أثار غضب التيار العروبي المحافظ، لمّا وصف العرب الأوائل في المنطقة بـ “الغزاة”، استنكر سجن بلغيث وتصريحه معا.
وقال “سجن أيّ شخص بسبب رأي أو فكرة يُعد مؤشرا على فشل المجتمع في ممارسة النقاش والإقناع، وأن المجتمعات الديمقراطية لا تخاف من الأفكار، بل تواجهها بالحوار والعقل، وأن السماح لأصوات معينة بالهيمنة على المشهد الإعلامي والأكاديمي دون إتاحة مساحة للرد والتصحيح يشكل خطرا على التعددية”.
وحذر المتحدث من أن “القمع يؤدي إلى فرض فكر واحد قائم على الخوف لا على الحقيقة، وأنه من حق كل جزائري في التعبير الحر، والرد على الآراء المتطرفة يجب أن يكون بالعقل لا بالزج في السجون”.
وتبرز ردود الفعل السياسية والأكاديمية حول قضية المؤرخ والباحث بلغيث، مدى الحساسية الأيديولوجية التي تهيمن على الشأن الهوياتي في البلاد، وأن الحلول السياسية التي أطلقتها السلطة على مر السنوات الماضية لمعالجة المشكلة لم تحقق الغاية المرجوة، بسبب غياب النقاش الحقيقي المفتوح بين النخب والمختصين، فضلا عن رغبة أطراف متطرفة في الإبقاء على حالة قلق دائم، لاستغلالها في المحطات اللازمة، كمحفز صالح لشحن وتعبئة الأنصار في لعبة المواقع والتحكم في مفاصل النفوذ.
العرب