محمد آل الشيخ: رحيل تنويري سعودي شجاع

محمد آل الشيخ: رحيل تنويري سعودي شجاع

محمد آل الشيخ: رحيل تنويري سعودي شجاع


11/07/2024

ودعت المملكة العربية السعودية، الكاتب التنويري محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ الذي يُنظر إليه كأحد أبرز الكتاب الذي ساهموا في صناعة الأفكار وسجالات التنوير، وخاضوا مواجهات لا تلين مع التطرف، فكراً وجماعاتٍ.

 رحل آل الشيخ (69 عاماً)، في التاسع من الشهر الجاري، بعد معاناة طويلة مع المرض، وودّعه الكثير من أبناء الوسط الصحفي والفكري العربي، مشيدين بمسيرته الصحفية وشجاعته في نشر الوعي والمواجهة في ذروة حقبة التطرف التي عصفت بالمنطقة، وأبطأت نموها الثقافي والحضاري، وفق صحيفة "الشرق الأوسط".

ونعى وزير الإعلام السعودي سلمان الدوسري، الكاتب آل الشيخ. وقال في تغريدة على منصة «إكس»: «رحم الله الكاتب الصحفي والمثقف الأستاذ محمد بن عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، الذي توفاه الله الثلاثاء، بعد رحلة عطاء إعلامية زاخرة، أسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان".

واشتهر آل الشيخ بمواجهة التيارات المتشددة في السعودية، وفي المنطقة العربية بأسرها. ويقول موقع "إيلاف" إنه من أكثر الكتاب الذين يعود لهم الفضل في كسر حواجز وجدران الخوف من التيارات المتشددة، لذلك دفع ثمناً كبيراً لشجاعته في زمن الخوف، فقد تم تكفيره، ولم تتوقف محاولات تشويه صورته اجتماعياً، إلا أنه ربح المعركة في نهاية المطاف.

وفي مقابلة سابقة مع جريدة "عكاظ" قال :"أتمنى من كل قلبي أن نرى أفلاماً درامية ليس فقط عن الصحوة، وإنما عن كل فترات تاريخ المملكة، التي تمتلئ بمواقف تاريخية لو تولاها سيناريست مبدع، ومخرج محترف، هوليوودي مثلاً، لخلق أفلاماً ربما تحصل على جائزة الأوسكار".

محمد بن عبداللطيف آل الشيخ: نضال ضد فكر الظلاميين

ومن أروع ما قال قبل رحيله في حوار عبر "عكاظ" :"منذ أن بدأت أكتب زاويتي في جريدة الجزيرة، أي منذ ما يقارب العشرين سنة، وكنت على يقين منذ البداية أنه لا بد لهذا الظلام من نهاية".

وغرد الصحفي السعودي وناشر "إيلاف" عثمان العمير ناعياً الراحل آل الشيخ، قائلاً :"كان نجماً من إبداع وعطاء، ووطن، وإصلاح مجتمع، وتخيل لمستقبلٍ مضيء.. بل ملاذ له.. فهوى. بل .. صعد..صعد. ‏كم هو الحزن يسحق القلب حين يصبح جاثماً. ‏فقدناك يا نبيل، أيها الوسيم المتعلق بالغد".

وفي فترة مرض الراحل كتب العمير :"كم أشعر بالحب والامتنان للرجل، القيمة محمد بن عبد اللطيف آل‬ الشيخ، كانت السعودية‬ تسكنه وكان تغييرها إلى الأفضل هو هاجسه، ‏وكان الحلم صغيراً لكن تصوره كان كبيراً، كان نضاله ضد فكر الظلاميين فاعلاً ومؤثراً، فكان بيته مأوى من يزور الرياض من مختلف الموانئ، وكان يغدق عليهم وعلينا التفاؤل والطموح والنهوض".

وتسابق آلاف المغردين والكتاب وغيرهم من أبناء المملكة العربية السعودية، ودول الخليج والدول العربية في نعي الراحل ‏محمد بن عبداللطيف آل الشيخ، في تعبير عفوي يؤكد مكانة الكاتب الراحل، والدور المؤثر الذي قام به دفاعاً ثقافة وفكر السعودية والخليج، والتصدي للأفكار الظلامية، ومجابهة التطرف.

 

وكان محمد آل الشيخ شاهداً على مرحلة الفتنة، عندما برزت أشواك "الصحوة؛ التي طالما وجّه إليها الكاتب سهام مقالاته ونصل كلماته

 

وكانت الرحلة الطويلة التي قضاها الراحل في كتابة المقالات الصحفية، من على منبره في صحيفة «الجزيرة» السعودية، قد مكنته من التزامن مع تحولات المجتمع السعودي، ومعالجة الأفكار والأحداث، وتعميق مفهوم الوطنية ومعانيها في أذهان ووجدان قرائه، حيث عاصر محمد آل الشيخ التحولات الفكرية للمجتمع السعودي، وكان شاهداً على مرحلة الفتنة، عندما برزت أشواك «الصحوة»؛ الحقبة التي طالما وجّه إليها الكاتب سهام مقالاته ونصل كلماته، وتعرض خلالها مثل سواه من الكتاب والمفكرين لحملات تشويه ممنهجة استهدفت تكميم الكلمات والمقالات.

وكان عموده الصحفي ميداناً لتمحيص الأفكار الشاذة وتعميق البعد الوطني، وقد صوّر وزير الشؤون الإسلامية في السعودية الدكتور عبد اللطيف آل الشيخ الظروف التي عاصرها الكاتب الراحل، ورياح التطرف التي كانت تعصف بالمنطقة ولم ينبرِ لها إلا أفراد من الأقلام الجسورة لمواجهتها. ووصف الوزير عبر حسابه في منصة «إكس»، الكاتب الراحل محمد آل الشيخ، بالمفكر الشجاع وصاحب القلم المخلص المحب لدينه ولوطنه وقيادته.

وأضاف وزير الشؤون الإسلامية: «كان (رحمه الله) سداً منيعاً وطوداً شامخاً أمام تجار الفتن، والإخوانيين الصحويين، والغلاة، والمتطرفين الإرهابيين، في وقت كان الكثير يخشى مجابهتهم ومحاربتهم وكشف حقيقتهم، وسخر قلمه في محاربة أصحاب المناهج الفاسدة والأفكار الضالة، بكل قوة وشجاعة وحجة وبرهان وفكر مستنير، عبر كتاباته وأطروحاته خلال مسيرته الصحفية الطويلة".

وأشار الوزير عبد اللطيف آل الشيخ إلى الأذى الذي نال الراحل في سبيل مواجهة التطرف، الأمر الذي زاده ثباتاً بمواقفه الوطنية، والدفاع عن أمن الوطن وقيادته.

أصدر آل الشيخ كتاباً بعنوان "حتى لا يعود ابن لادن"

ووصفت "الشرق الأوسط" الراحل محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ بأنه كان يكتب بلغة سهلة، وسلسة، متباسطاً إلى قرائه، ومستنداً إلى خبرته عن مجتمع عفوي قبل أن تطرأ عليه عوادي الأفكار المتشددة، ومع لغته البسيطة لم يتراخَ في حدته تجاه التطرف، إذ طالما كتب بعريكة لا تلين لتبكيت صور التشدد فكراً وجماعات.

ولم تكن حياة الراحل محمد آل الشيخ وقفاً على الكتابة والسجالات التي كانت تمور بالأفكار والسجالات وحدّة الخطاب، بل اتسمت بتنوع بدأه منذ كانت التجارة مجال اشتغاله واهتمامه أول الأمر، ومنها انتقل إلى بحر الصحافة بأمواجها المتلاطمة ورياحها العاصفة، يوم كان الميدان سخياً بالمواجهات في ذروة الحراك الفكري والمجتمعي السعودي.

وكان من أشهر ما كتب في ذلك "التكفير مادة الإرهاب" والذي حذّر فيه من أنّ "فكرة التكفير بالمعاصي في ثقافة الخوارج كانت في وجه من أوجهها غاية لتبرير القتال وإباحة الدم، ومن ثم الوصول إلى انتزاع السلطة بالقوة".

ولفت آل الشيخ في مقاله إلى أنّ "علماء السلف تنبهوا لخطورة التكفير والحكم المتعجل على المسلم بالخروج عن الملّة"، موضحين أنه "يمكن القول إنّ التكفير شرعية من لا شرعية له".

وعلى هذا النهج، كتب الراحل في مواجهته التشدد والمتطرفين محذراً من أهدافهم غير المعلنة "إنهم يدافعون عن الإرهاب"، موجهاً الحديث إلى من انتقدوا التحالف العالمي على الإرهاب الذي شاركت فيه دول عربية ضد تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، بحسب "الشرق بلومبيرغ".

ونوّه "آل الشيخ" في مقاله إلى أنّ من المتشددين من أعلن براءته من فعل "داعش" لكنه بدأ ينتقد الحملة على التنظيم، كما حذّر دولاً غربية من إيواء المتشددين بقوله: "اتضح للغربيين أنهم جعلوا من بلدانهم ملاذاً آمناً لدعاة وحركيي التأسلم السياسي، وأنّ من يؤوي الثعابين فلن يسلم من لدغاتها؛ فهاهم آلاف الشباب الغربيين المسلمين يلتحقون بالجماعات الإرهابية المتأسلمة، ويتبنون الخطاب الإسلامي المسيّس، ويتأدلجون، ثم يتطرفون، فيجزون رؤوس البشر بمن فيهم مواطنيهم لأنهم كفرة، وأنّ دولة الخلافة التي تُنادي بها الحركات المتأسلمة بلا استثناء لن تقوم إلا على أكوام من جماجم البشر وبرك من الدماء".

 

وزير الشؤون الإسلامية السعودي: كان (رحمه الله) سداً منيعاً وطوداً شامخاً أمام تجار الفتن، والإخوانيين الصحويين، والغلاة، والمتطرفين الإرهابيين

 

ولم تقف مواجهة الكاتب الراحل، الفكر المتطرف عند الغلو والتشدد، بل ذهب إلى التحذير من الطائفية التي تبرز كأحد أخطر نتائج التطرف والتشدد، وكتب في ذلك مقالاً تحت عنوان "ألجموا هؤلاء المشايخ الدمويين"، قال فيه: "يأبى أحد المشايخ إلا أن يرسخ الصراعات الدموية بين الطوائف، متذرعاً بقال فلان، وأفتى فلان، وفي رأي هذا الرجل أنّ الذي ليس من طائفتك العقدية، فهو في معاييره من (الطوائف الممتنعة)، وحكمها - إذا ظفرت بأحد أفرادها - هو القتل".

ولا تنتهي كتابات الراحل عند تلك المواجهات، بل كانت له رؤيته في كيفية تسخير المتطرفين النص الشرعي لأفكارهم، وفي ذلك كتب مقالاً بعنوان "الشريعة ليست مصنفاً تتناوله من الرف وتطبقه" استعرض فيه تناقضات بعض الجماعات في مفهومها لتطبيق الشريعة الإسلامية، وأورد أحداثاً شهدها العهد النبوي تؤكد أنّ "الرسول صلى الله عليه وسلم، يأخذ بالاعتبارات الواقعية والظروف الموضوعية في الأحكام"، ليستدل الكاتب بذلك على أنّ "الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تكون صالحة لكل زمان ومكان، ما لم تتغير أحكامها تبعاً للمصالح وظروفها ومقتضياتها"، مشيراً إلى أنّ "من يقرأ سيرة ثاني الخلفاء عمر بن الخطاب وكيف تعامل مع المتغيرات أثناء فترة حكمه، يجد أنّ الشريعة فعلاً تتغير حسب مقتضيات الظروف والمصالح".

ومن خلال اسمه الشعري المستعار «العابر»، كان يختلس من نفسه ووقته لحظات من المستراح الشعري، والكتابة للفن والحياة، ومن ذلك أغنيته «أسعد الله لو يجي جدّة حبيبي» التي تغنى بها الفنان عبد المجيد عبد الله، بالإضافة إلى النشر في الأدب الشعبي، في حقبة من حياته عمل فيها رئيساً لمجلس إدارة مجلة «قطوف» التي تهتم بالشعر الشعبي، ومجلة «حياة الناس»، لكنه آثر بنهاية المطاف أن يترك الشعر ويتفرغ للكتابة التي وجد نفسه من خلالها، واختار مواجهة العاصفة موقِناً أنّ لظلام التطرف نهاية، وقد آن.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية