ما وراء الكواليس: من يدفع بعودة "داعش" في لبنان؟

ما وراء الكواليس: من يدفع بعودة "داعش" في لبنان؟

ما وراء الكواليس: من يدفع بعودة "داعش" في لبنان؟


02/07/2025

طوني بولس

عند كل مفترق، وأمام كل تحول سياسي كبير في لبنان، يعود تنظيم "داعش" إلى الظهور وخلاياه النائمة إلى النشاط، ليشكل حلقة تقاطع مصالح للمتضررين من المتغيرات والمتراجعين في لعبة النفوذ الإقليمي. في الأيام القليلة الماضية، لم يكن الإعلان الأمني اللبناني عن تفكيك خلايا للتنظيم حدثاً عادياً ولا معزولاً عن هذا السياق.

ففي توقيت لافت كشفت الأجهزة الأمنية عن توقيف مجموعات كانت تتحضر لتنفيذ عمليات أمنية نوعية في الداخل، بعد أيام قليلة على هجوم إرهابي دموي استهدف كنيسة في دمشق، ما أعاد شبح التنظيم المتطرف إلى واجهة المشهد الأمني والإقليمي معاً.

وبين خبر "قسورة"، مدرس الكيمياء اللبناني الذي تحول، وفق الاتهامات، إلى قيادي ميداني يجيد تصنيع الطائرات المسيرة، ومشهد الدم في كنيسة مار إلياس في قلب دمشق، وصولاً إلى الحديث عن خلية تم توقيفها وكانت تخطط لتفجيرات مجالس "عاشوراء" في الضاحية الجنوبية قبل ساعات قليلة، تفتحت فجأة أبواب الأسئلة: لماذا ظهر "داعش" الآن؟ وهل عودته صدفة أمنية عابرة أم ورقة سياسية تستخدم عند الحاجة إلى خلط أوراق الإقليم وإعادة تموضع اللاعبين؟

وفق مصادر أمنية لبنانية فإن الاعترافات التي أدلى بها موقوفون ينشطون ضمن ما يعرف بـ"ولاية لبنان" التابعة لتنظيم "داعش" أن التنظيم لا يزال ينظر إلى لبنان باعتباره "أرضاً للنصرة والدعم اللوجيستي، لا كساحة مباشرة للجهاد"، ويتضح ذلك من طبيعة المهام التي اضطلع بها هؤلاء الموقوفون، والتي اقتصرت على تأمين الحاجات اللوجيستية ونقلها إلى الداخل السوري. مع ذلك لا تعني هذه المعطيات، بالضرورة، ثبات توجهات التنظيم، أو استبعاد احتمال تبدلها في أي لحظة، بما قد يدفعه إلى نقل نشاطه الميداني المباشر إلى الساحة اللبنانية في حال تغيرت حساباته.

"قسورة"

أحد أبرز الموقوفين يعرف بلقب "قسورة"، من مواليد عام 1997 ويتحدر من بلدة كامد اللوز البقاعية (شرق)، حائز شهادة ماجستير في الكيمياء ويعمل مدرساً خصوصياً، مما يعكس البعد المعقد في استقطاب الكوادر العلمية إلى التنظيمات الإرهابية، وقد تولى في بداياته منصب "نائب والي داعش" في لبنان، قبل أن تتم ترقيته لاحقاً وتعيينه "والياً" مسؤولاً عن شبكات وخلايا كانت تضع لبنان ضمن بنك أهداف محتمل. وقد أدار من موقعه شبكة سرية تضم نحو 15 شخصاً عملوا بإمرته في مناطق متعددة، واضعين لبنان ضمن بنك أهداف محتمل لتنفيذ عمليات نوعية.

هذه المعطيات، وفق المصدر الأمني نفسه، تعيد تأكيد الترابط الوثيق بين المساحات الرخوة أمنياً في سوريا وامتداداتها في الداخل اللبناني، مما يفرض تحديات إضافية على الأجهزة الأمنية في مواجهة عودة محتملة لخلايا متفرعة من الفكر "الداعشي".

بوابة "الإخوان"

في السياق يوضح الكاتب السياسي نبيل بو منصف أن مشهد ظهور "داعش" المتجدد لا يمكن عزله عن صراعات النفوذ الإقليمية، "خصوصاً عندما تصبح بعض الجماعات التكفيرية ورقة ضغط أو أداة ترهيب عابرة للحدود"، وأشار إلى أن تنظيم "الإخوان المسلمين"، وإن أظهر وجهاً سياسياً معتدلاً في محطات كثيرة، إلا أنه بقي يمثل حقل تجارب فكرياً لنمو تيارات العنف، "فعندما تسقط مشاريع الإخوان في العمل السياسي التقليدي، يعاد تدوير فائض التطرف تحت عناوين جهادية أكثر راديكالية، وغالباً ما يترك (داعش) وأشباهه كخيار أخير لتخريب أي مسار استقرار محتمل".

وفي الحالة اللبنانية تحديداً، رأى بو منصف أن إعادة تحريك خلايا "داعش" تتزامن دوماً مع تحولات كبرى أو انسداد سياسي داخلي، "وفي سوريا، تستخدم مثل هذه الخلايا بين الحين والآخر كرسالة دموية لحماية التوازنات القديمة أو تأخير أي حل سياسي حاسم"، وخلص إلى أن "داعش" ليس حالاً معزولة بقدر ما هو عرض مزمن لمرض فكري وسياسي مستمر اسمه "الإخوان المسلمين"، إذ لا تزال الجماعة قادرة على إنتاج أجيال جديدة من التطرف متى استدعى الظرف ذلك.

الرابط الأيديولوجي

من جهته ذهب مدير معهد المشرق للشؤون الاستراتيجية سامي نادر إلى تفكيك الرابط الأيديولوجي المباشر، معتبراً "أن المدرسة الفكرية الإخوانية هي التي أعطت التبرير النظري الأول للجهاد العالمي، قبل أن تتفرع منها مجموعات كـ(القاعدة) ثم (داعش)، إذ يرى بعض الأوساط أن التصدعات داخل تنظيم الإخوان نفسه بين أجنحة لندن ودمشق وغيرها لم تُنهِ الأساس العقائدي الذي يمكن استخدامه كلما استدعى الأمر هز الاستقرار أو الضغط على الساحات الرمادية"، وأشار نادر إلى أن توقيت بروز "داعش" في لبنان وسوريا اليوم ليس بريئاً، "فمن جهة هناك فراغات أمنية تملأ بهذه الأوراق، ومن جهة أخرى هناك أطراف إقليمية تعرف أن عودة (داعش) تعيد خلط الأوراق السياسية وتبقي دول المنطقة رهينة هواجس الإرهاب، مما يمنح المفاوضات الإقليمية أبعاداً جديدة".

أما العميد المتقاعد جورج نادر فيعتبر أن التربة الخصبة للتطرف في لبنان لم تجف يوماً، "إذ إن تراكم الفقر، غياب الثقة بالدولة، واستمرار وجود سلاح خارج المؤسسة الرسمية عوامل كافية لفتح ثقوب في جدار الأمن الوطني"، وبنظره، فإن سلاح "حزب الله" خارج سلطة الدولة، على ضخامته كقضية سيادية، يفتح أبواباً لاستغلال فراغ الدولة من قبل خلايا إرهابية تستغل تناقضات الداخل وقلة العدالة في توازن القوة.

فيما قال المحامي محمد صبوح إن الملف تحول إلى ورقة سياسية لتأكيد سردية معينة، وسأل أمام الإعلام "كيف يتحول أستاذ كيمياء في مدرسة عادية إلى خبير في تصنيع المسيرات، وهو ما لم يتقنه حتى (داعش) في العراق وسوريا؟"، ليخلص إلى القول إن "الدولة العميقة" في لبنان تبحث عن أي ورقة تثبت بها أمام الحلفاء الغربيين أنها في "حرب مفتوحة" على الإرهاب، حتى لو كان الخطر الفعلي أقل مما يسوق.

سياق إقليمي معقد

تزامن هجوم الكنيسة في دمشق مع كشف الخلايا في بيروت أخرج القصة من إطارها المحلي إلى الإقليمي الأوسع. فوفق تقارير استخباراتية ودبلوماسية، أعادت عملية دمشق رسائل قديمة عن قدرة تنظيم "داعش" على إعادة لملمة شتاته متى توفرت الرعاية أو الفوضى.

بعض التحليلات الغربية ربط الأمر مباشرة بمرحلة الفراغ التي يعيشها المشروع الإيراني في أكثر من ساحة. الضربات المتكررة التي تلقاها هذا المحور، سواء في سوريا أو عبر الضغوط الدولية على "حزب الله"، فتحت شهية بعض اللاعبين على تحريك أوراق رديفة، من بينها أوراق متطرفة ظلت، عقداً من الزمن، حلاً احتياطياً لإشغال الساحات الساخنة، وإبقاء الرواية الأمنية حية لتبرير بقاء السلاح والمنظومات الموازية للدولة.

وتربط تقارير أمنية وأبحاث لمراكز متخصصة في الجماعات الإسلامية توثق تداخلاً مصلحياً بين "الإخوان" ومحور "الممانعة" المدعوم من إيران، بالتالي تحريك "داعش" ضد السلطة في كل من سوريا ولبنان بهدف تقويض الاستقرار وإبقاء التوتر قائماً، وهو ما تلتقي عليه أطراف عدة لها خصومات أو تفاهمات غير مباشرة مع إيران.

وتعتبر تلك التقارير أن نموذج حركة "حماس" عنوان واضح للتلاقي بين فصائل متشددة تتلقى تمويلاً إيرانياً وتعمل ضمن خط "محور الممانعة"، على رغم اختلاف المرجعيات الدينية. 

سردية "حزب الله"

في ظل هذه الخيوط المتداخلة يعود إلى الواجهة سؤال قديم جديد: هل يستفيد "حزب الله" من هذا الظهور المفاجئ؟ الإجابة تحمل أكثر من وجه. فمن ناحية، لا يملك الحزب قدرة التحكم المطلق بجميع التبدلات الميدانية. لكن في المقابل، لا ينكر كثر أن سردية وجود خطر إرهابي دائم يدعم سردية السلاح كـ"حامٍ للبنان".

واللافت أن تحركات "داعش" أتت قبل أيام قليلة من انتهاء المهلة الأميركية التي تطالب الدولة اللبنانية بخطة واضحة لنزع سلاح "حزب الله" وإنهاء وضعيته الأمنية والعسكرية، إذ إن الظهور "الدرامي" لـ"داعش" في لحظة حساسة، مع عمليات أمنية ميدانية ومصادرة أسلحة ومسيرات، يعزز خطاب الحزب بأن "الأمن اللبناني مهدد من جماعات لا يمكن للجيش وحده ردعها".

اللحظة الحرجة

في موازاة توقيف خلايا "داعش" في لبنان، يحاول "حزب الله" وفقاً لمصادر سياسية مواكبة، إبعاد أي تحليل يربط بينه أو بين إيران وتحريك خلايا "داعش" بالتوقيت الذي يخدم وضعيته السياسية محلياً وإقليمياً. وفي هذا الإطار، سرب إعلام الحزب رواية مفادها بأن "التحقيقات ثبتت علاقة خلية داعش بالموساد الإسرائيلي، واكتشفت تطبيقات على هواتف عناصرها يجري عبرها التواصل مع الاستخبارات الإسرائيلية"، على رغم عدم صدور أي تأكيد رسمي بهذه المزاعم حتى اللحظة.

وفي تعليق على هذه الرواية أوضح الصحافي علي الأمين أن "من المفترض أن تكشف الجهات الرسمية عن حقيقة هذه المجموعة، ونترقب نتائج التحقيقات، غير أن ذلك لا يقلل من شأن ارتباط اكتشاف هذه الخلية بالتطورات السياسية الضاغطة على الحكومة وعلى (حزب الله)، بخاصة في ما يتعلق بوضع خطة لتنفيذ ما تبقى من اتفاق وقف إطلاق النار"، وأضاف الأمين "تعزز هذه العملية منطقاً يروج له الحزب في أوساطه، بصورة غير رسمية، وهو خطر الإرهاب على لبنان وعلى بيئة الحزب. فالقبض على مثل هذه المجموعة يخدم هذه الفكرة في لحظة سياسية حرجة". وتابع "في الوقت نفسه يطرح الأمر تساؤلات حول دقة المعلومات التي تؤكد أنها مجموعة تابعة لـ(داعش)، علماً أن هذا التنظيم في صعوده وهبوطه بالمنطقة ارتبط دائماً بالصراعات الإقليمية والدولية التي شهدتها سوريا والعراق وغيرهما، وثمة مؤشرات كانت تدل على نهاية وظيفته".

البيئة الحاضنة

من جانبه يرى المحلل السياسي علي السبيتي أن "كل ما يشاع عن اتهام حزب الله بتحريك خلايا داعش وفق توقيت سياسي ليس أكثر من محاولة لتشويه صورة الحزب وصرف الأنظار عن الدور الحقيقي الذي أداه في محاربة الإرهاب"، ويؤكد السبيتي أن "الحزب دفع أثماناً بشرية هائلة في مواجهة المجموعات التكفيرية في سوريا ولبنان، وهو ليس بحاجة إلى استخدام ورقة داعش، بل تصدى لها ميدانياً".

ويضيف السبيتي "الربط بين توقيت توقيف الخلايا واتهام الحزب بتوظيفها هو استنتاج سياسي يفتقد إلى أي أساس واقعي أو أمني، لأن من قام بالتوقيف والتحقيق هي الأجهزة الشرعية التابعة للدولة"، وبرأيه "لو لم يكن هناك غطاء أمني وسياسي فعلي لمحاربة الإرهاب، لما تمكنت مديرية الاستخبارات في الجيش من توقيف شخص بمستوى قسورة الذي أدار شبكة معقدة وخطرة".

ويقول السبيتي إن "خطر داعش اليوم يؤكد أن البيئة الحاضنة للفكر المتطرف ما زالت موجودة، لكنها ليست من صنع حزب الله ولا من مصلحته، بل تستخدم من خصوم لبنان للضغط على ساحاته، أما الحزب فهو جزء من معادلة ردع هذا الإرهاب لا تغذيته".

اندبندنت




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية