ما هي استراتيجية الوطن الأزرق التركيّة؟ وما علاقتها بالاعتداءات التركيّة المتزايدة؟

ما هي استراتيجية الوطن الأزرق التركيّة؟ وما علاقتها بالاعتداءات التركيّة المتزايدة؟


16/08/2020

مؤشرات متزايدة وتحركات تركيّة متواترة باتت تؤكد على التوجه التركي نحو التخلّي عن الاعتماد الحصري على سياسات التمدّد الناعم والتوجّه بشكل متزايد للاعتماد على القوة العسكرية الخشنة والصريحة، وإن جاء ذلك ضمن أُطُر مخالفة للأعراف والقوانين الدولية.

والآن، ومع تصاعد النزاعات في منطقة "شرق المتوسط" تتبلور هذه التوجهات التركية تحت مُسمّى جديد؛    "الوطن الأزرق"، فما قصّة هذا الوطن؟ وكيف أصبح عنواناً للسياسة التركيّة الخارجيّة؟

الظهور إلى العلن

في شباط (فبراير) عام 2019م أطلقت القوّات التركية أكبر مناورات عسكرية في تاريخ البحرية التركية، بمشاركة (103) سفن حربية وعشرين ألف جندي تركي، وحملت رسمياً اسم "الوطن الأزرق"، الاسم الذي لم يكن مألوفاً في حينه، ولم يكن معلوماً ما المقصود به تحديداً.

أردوغان في المؤتمر الصحفي وتظهر من خلفه خريطة "الوطن الأزرق"

سرعان ما جاء التوضيح للاسم، في الرابع من آذار (مارس) 2019م، مع ظهور الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في مؤتمر صحفي على هامش المناورات العسكرية، وظهرت خلفه خريطة موضحة لحدود الوطن الأزرق ومساحته وكتب عليها بالتركية: (Mavi Vatan)؛ أيّ "الوطن الأزرق"!

نصف مساحة البلاد!

وبحسب الخريطة المُعلَنة، فإنّ الوطن الأزرق هو مناطق في البحار المحيطة بتركيا؛ البحر الأسود، وبحر مرمرة، وبحر إيجة، والبحر المتوسط، يكون لتركيا الحقّ في استغلال واستثمار جميع الموارد الواقعة ضمن حدودها. وتبلغ مساحة "الوطن الأزرق" كما هي محدّدة في الخريطة (462,000) كلم مربع؛ أي ما يعادل نصف مساحة تركيا، التي تساوي نحو (783,562) كلم مربع.

 

طُرِحَ مُسمّى "الوطن الأزرق" لأوّل مرّة في العام 2006م من قبل أدميرال بالبحريّة التركيّة

ورغم طرحه مؤخراً فقط على العلن، إلّا أنّ مُسمّى واستراتيجية "الوطن الأزرق" ليس وليد اليوم، وإنما يعود إلى العام 2006م، حين طرحه لأوّل مرّة الأدميرال جيم غوردنيز، مدير قسم التخطيط في حينه بالبحرية التركية، وذلك بهدف الإشارة إلى مناطق السيادة البحرية التركية القانونية المعلنة منها، والواقعية غير المعلنة منها.

معضلة قديمة

لم ينشأ هذا التوجّه الاستراتيجي التركي بشكل مفاجئ، وإنما بالإمكان تتبّع جذوره إلى نحو 100 عام، وبالتحديد إلى تاريخ توقيع معاهدة "لوزان" في العام 1923م، التي تمّ بموجبها تثبيت حدود الجمهورية التركية بالاتفاق مع القوى الدولية في حينه. حققت تلك الاتفاقية السيادة التركية على كامل الأناضول، بدلاً ممّا كان الحال عليه في معاهدة "سيفر" (1920م)، التي كانت قد قسّمت الأناضول بين دول عدّة، من بينها اليونان التي خُصّصَت لها مناطق في الغرب منه، إلّا أنّ معاهدة لوزان بالمقابل حرمت تركيا من السيادة على الجُزُر البحرية، حتى الواقعة على مقربة من السواحل التركية، سواء في بحر إيجة أو المتوسط، ومنحتها للسيادة اليونانية، ما عنى إحاطة تركيا بمحيط من مناطق السيادة اليونانية الممتدة من الجزر إلى المياه البحرية الإقليمية المحيطة بها؛ أيّ إنّ معاهدة لوزان منحت الأتراك السيادة في البر، لكنّها "خنقتهم" في البحر.

باللون الأزرق الداكن... المساحات الداخلة ضمن حدود "الوطن الأزرق"

والآن، وبعد قرابة 100 عام من اتفاقية "لوزان"، ترسخّت القناعة بأنها لم تكن ملبية للطموح التركي، وأنها سبّبت لتركيا مشاكل استراتيجية دائمة، أهمّها القلق من إحاطتها بالجُزر اليونانية في بحر إيجة والبحر المتوسط، وبالتالي جاء "الوطن الأزرق" عنواناً للتوجّه التركي نحو تعزيز سيادة تركيا في البحار المحيطة بها.

حاجات متزايدة

يأتي هذا التوجّه التركي بدافع من حاجات متزايدة تتمثل في ازدياد عدد سكان تركيا وتجاوزه 80 مليون نسمة، وازدياد حجم الاقتصاد والقطاعات الصناعية، وبالتالي زيادة حاجات البلاد من الطاقة، وبحسب إحصاءات موقع (World meter) فإنّ تركيا باتت تحلّ في المرتبة السادسة عشرة عالمياً من حيث استهلاك الطاقة.

بعد قرابة 100 عام من اتفاقية "لوزان"، ترسخّت القناعة لدى الأتراك بأنها لم تكن ملبيّة لطموحهم

وذلك بالرغم من حقيقة كَوْن تركيا دولة تكاد تخلو من أيّ موارد للطاقة داخل أراضيها. وهو ما عَنَى ارتفاع فاتورة الطاقة، وهو ما يترك أثره على إجمالي موازنة البلاد واحتياطات النقد من العملة الصعبة، وبالتالي قيمة العملة المحلية، وهي فوق ذلك تكون متأثرة باستمرار بتقلبات أسعار السوق الخارجة عن إرادتها.

وبذلك تزايدت الحاجة لبلورة استراتيجية جديدة تلبي حاجات البلاد، وتضمن تحقيق غرض الوصول إلى موارد الطاقة التي تعاني النقص منها داخل أراضيها، وما يضمنه ذلك من تأسيس اقتصاد متين ومستقل عن المهّددات الخارجية، فكانت هذه الاستراتيجية هي "الوطن الأزرق".

التبلور والتنفيذ

مع تسارع اكتشافات حقول الغاز في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط والتي قدّرت بنحو (345) تريليون متر مكعب من احتياطات الغاز، بالإضافة إلى احتياطيات نفطية تقدر بنحو مليار ونصف مليار برميل من النفط، تزايدت الأطماع التركية بوضع اليد على أكبر حصّة منها، خصوصاً أنه لم يكن يوجد أيّ احتياطات مهمّة ضمن المياه الإقليميّة التركية والمياه الاستثمارية التي يحقّ لتركيا استغلالها بموجب اعتبارات القانون الدولي.

خريطة اليونان .. وتظهر هيمنتها على الجزر في بحر إيجة

وهنا برزت فكرة "الوطن الأزرق"، لتعبّر عن هذه الأطماع التركية، وارتبطت بمساعي تركيا للسيطرة على موارد الطاقة في شرق المتوسط. وسرعان ما بدأت الممارسات التركية على هذا الأساس، باتجاه فرض السيادة على كامل المناطق ضمن هذه المنطقة المفترضة بالرغم من وقوع معظمها خارج حدود المياه الإقليمية والسيادة التركية.

اقرأ أيضاً: ما الثمن الذي سيدفعه اللبنانيون سداداً لشيك تركيا المفتوح؟

وفي الثالث والعشرين من شباط (فبراير) 2018، بدأت تركيا بممارسة سيادتها فعلياً، وذلك عندما اعترضت 5 بوارج حربية تركية حفّاراً تابعاً لشركة "إيني" الإيطالية، كان على وشك المباشرة في أعمال التنقيب قبالة السواحل القبرصية.

استدعى هذا المخطط تحوّلاً على صعيد تفعيل وتنشيط وتكثيف أدوار الأساطيل الحربية التركية

وفي أيار (مايو) 2019م جاء الإعلان التركي عن البدء بعمليات استخراج الغاز من حقول شرق المتوسط مع مباشرة الشركات التركية استخراج الغاز من قبالة سواحل قبرص الشمالية، رغم ما تبع الخطوة التركية من تهديدات وتنديد أوروبي واسع. وكانت تركيا قد مَنَحت ترخيصاً لشركة "تركيش بتروليوم" عام 2012م، للتنقيب في المياه الإقليمية لجمهورية قبرص الشمالية التي لا تعترف بها أيّ دولة في العالم سوى تركيا.

تمدّد عسكريّ وتوترات متزايدة

مثل هذا المخطط الاستراتيجي استدعى من تركيا تحوّلاً على صعيد تفعيل وتنشيط وتكثيف أدوار الأساطيل الحربية التركية، وتحوّلها نحو البروز كقوّة بحرية، وما يستدعيه ذلك من تأسيس قواعد عسكرية خارج أراضيها، وهو ما تحقق مع تأسيس عدد منها، بدءاً من تفعيل الاتفاقية العسكرية مع قطر وإرسال قوّات تركية إلى القاعدة التركية هناك في حزيران (يونيو) من العام 2017م، إلى تأسيس قاعدة في الصومال في أيلول (سبتمبر) من العام 2017م، ومن ثمّ جاء اتفاق استئجار جزيرة سواكن السودانية في كانون الأول (ديسمبر) 2017م.

سفينة "يافوز" التركية... متوجهة للتنقيب قبالة السواحل القبرصية

وجاءت الخطوة التركية العسكرية الأبرز في إطار مواجهة مشروع خطر أنبوب "إيست-ميد"، لنقل الغاز من حقول الغاز في شرق المتوسط باتجاه أوروبا، انطلاقاً من سعي تركيا للاحتفاظ في تحكّمها بنقل الغاز لأوروبا، وفي تشرين  الثاني (نوفمبر) 2019م، بادرت لتوقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية، وكذلك وقعّت معها اتفاقاً عسكرياً، شرعت بناءً عليه بإرسال قوّات ومعدّات عسكرية تركية لتقديم الإسناد لها، في حين رفضت اليونان الاتفاقية؛ باعتبارها تتجاهل وجود جزيرة كريت اليونانية بين الساحل التركي والليبي وما يحيط بها من المياه الإقليمية والاستثمارية التابعة لها بموجب القانون الدولي، وبادرت في آب (أغسطس) 2020م إلى توقيع اتفاق ترسيم حدود بحرية مضادٍّ مع مصر.

اقرأ أيضاً: بين الشرق والغرب.. تركيا إلى أين؟

وهكذا، فإنّ السلوكيات والمخططات العدوانية التركية تأتي في إطار استغلال حالة من المزاج الدولي العام الذي بات يتّسم بالاتجاه أكثر فأكثر نحو الاعتماد على الواقعية والمراهنة على القوّة بدلاً من إقامة الاعتبار  للأعراف والمواثيق والمعاهدات الدولية، وهو ما تمارسه تركيا ضمن استراتيجية "الوطن الأزرق"، عبر محاولتها فرض مناطق استثمارية وسيادية بحرية خاصّة بها، رغم عدم وجود أيّ سيادة قانونية لها عليها، وذلك في ظلّ غياب العقوبات الدولية الناجعة، بالرغم من تزايد التهديدات والتلويحات الأوروبية مؤخراً بإمكانية فرضها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية