تروّج قطر أنها باتت الحليف الأقوى للولايات المتحدة الأميركية، واشنطن كعادتها تلتزم الصمت، والدوحة ترفع من وتيرة الصراخ بانتصارها الوهمي، واشنطن أيضاً تلتزم الصمت، عندها يخرج المسؤولون القطريون وهم يحتفلون بإفشال المقاطعة، لا بل ويفاخرون بأن أميركا تستطيع حل أزمتهم باتصال هاتفي، لاحظوا هنا الحديث عن أميركا فقط، حسناً لنواصل معهم احتفاليتهم وهم يقولون إنهم على استعداد «للمشاركة في قمة خليجية - أميركية الربيع المقبل في كامب ديفيد، شريطة أن يكون دافع رباعي المقاطعة للمشاركة هو الإرادة الحقيقية، وليس بالإكراه»!
ذلك هو النصف الفارغ من الكوب، أما النصف الممتلئ، فيبدو غير ذلك، فبالنسبة للحليف الأقوى، فتلك أمان قطرية بلا شك، لكن للولايات المتحدة حلفاءها في المنطقة، وبالتالي من غير الوارد لديها مثل هذا الطرح، ناهيك عن الحديث به، لذلك لم نسمعه من مسؤولين أميركان، بل تردد على لسان مسؤولين قطريين، وما أكثر ما يتردد على ألسنتهم. عموما الأكيد هنا أن الإدارة الأميركية عندما تتعامل مع دولة صغيرة بحجم قطر ذات ثقل معدوم، سواء في المنطقة أم في العالم، فمن المؤكد أنها لا تسير وفق عواطف أو وجهات نظر، وإذا كانت جزءاً من الاحتفالية القطرية أنها تحولت بالكامل إلى مجموعة مستعمرات منها الأميركية، فإن ذلك فعلياً لا وزن له في ميزان التحالفات، وهناك الكثير من الشواهد على ذلك، إذاً ماذا تعني توسعة قاعدة العديد لتشمل قوات المارينز بتمويل قطري بالكامل؟ هي باختصار حقيقة التحالف الذي تحتفل به الدوحة اليوم، فالسياسة الأميركية تمكنت من ابتزاز الحكومة القطرية، ووجود القاعدة وتوسيعها لا يعتبر خدمة لقطر بقدر ما يشكّل مصلحة لواشنطن، فما الذي يمنع من إرسال قوات لدولة تتحمل نفقتهم وترفيههم، ويؤمن وجوداً دائماً في المنطقة على غرار الوجود في كوريا الجنوبية على سبيل المثال؟ بالتأكيد لا شيء، لكن ماذا عن الدول الداعية لمحاربة الإرهاب التي تقاطع قطر لدعمها تنظيمات إرهابية وأفراداً؟ بالنسبة لهذه الدول لا يعنيها كثيراً وجود مثل هذه القاعدة أو توسيعها أو إنشاء قواعد أخرى، فهي لم تكن يوماً تخطط للهجوم على قطر، حتى وإن روّجت الدوحة لذلك، فهذه الدول منذ اليوم الأول للأزمة اتخذت قرارها بالطرق السياسية والديبلوماسية، ولم تتطرق أي منها لعمل عسكري، وكون قطر تتحدث بذلك، فهي تعمل لإقناع شعبها بأنها مضطرة للوقوع تحت استعمار اختياري لحماية سيادتها المزعومة ونظامها بحسب الشواهد، وعلى رغم أن القواعد العسكرية قد تحقق شيئاً من الاستقرار لتنظيم الحمدين، إلا أن النظرة على المدى الطويل ستختلف تماماً.
لعل تلك صورة مصغرة للمشهد كما يبدو اليوم، إلا أنه فعلياً هناك جوانب أخرى لا بد من التطرق لها، فالموقف الأميركي الملتبس منذ بداية الأزمة ما زال يشكّل عائقاً لحلحلتها، بل إنه أسهم في حال التمرد الذي تمارسه الدوحة، وتضخم أوصلها إلى الابتذال والتدليس وافتعال الأزمات، والحديث عن أن الرئيس ترامب بإمكانه حل الأزمة بتلفون واحد مثلما ذكر مسؤولون قطريون غريب في شكله ومضمونه، ويدل على ضعف قراءة ومتابعة للحدث، فوزير خارجية أميركا والمتحدث باسم سياستها الخارجية وأحد أركان حكومتها ريكس تيلرسون زار عاصمتي قطر والسعودية من دون أن «يحلها»، ويبدو أن الأساس الفكري لتخيل قضية «الاتصال الهاتفي الحل» ينبع في حقيقته من التبعية التي تعيشها السياسة القطرية اليوم، وتفكر فيها، وتسعى لإسقاطها على الدول الأخرى، لاسيما تلك التي تملك عليها ملفات وأدلة تدينها، فالتلفون الواحد لن يحل الأزمة، ما يحلها هو أن تتمكن قطر من إقناع تلك الدول بتخليها عن السياسات الطائشة، والالتزام بسياسة حسن الجوار قبل أن تقنع واشنطن بذلك، أما أن تصبح الدوحة مرتهنة للقرار الأميركي، فهو في جانب منه يتوافق مع متطلبات الدول الأربع، لاسيما في ما يتعلق بمحاربة الإرهاب والكف عن دعمه، لكنه لن يكون كافياً ما لم تتعهد به واشنطن أيضاً.
الدول الأربع لديها اليوم الكثير من الملفات التي تشغلها، وهي ملفات أكثر أهمية من قطر وعبثها، فمصر لديها انتخابات، والإمارات والسعودية ينصب اهتمامهما على رسم المستقبل لبلديهما بخلاف العمل المشترك في اليمن لإعادة الشرعية، والبحرين في ذات القارب تحارب تدخلات قطر واعتداءات إيران، على عكس الدوحة التي لا يشغلها إلا قضية المقاطعة، ومن الطبيعي أن تكون هي قضيتها الأولى، وهذا ما قامت به بالفعل، ونحن نتفهم ذلك، بيد أن المطلوب الآن هو توضيحات من واشنطن للدول الأربع حول السياسة التي تمارسها مع الدوحة، فالصمت جعل الدوحة تروّج أنها أقنعت الأميركان بأن يكونوا بصفها، وعلى رغم أنه بالإمكان لأي متابع أن يكتشف سذاجة ذلك الطرح، إلا أنه من الواضح أن الولايات المتحدة غير مستعجلة بتقديم توضيحات لحلفائها، وعما إذا كانت هناك معالجة للملفات لتقرير مدى المنفعة من أي حراك منتظر، عندها فقط يمكن للرباعي أن يعيد النظر في ما اتخذه من مواقف.
أزمة قطر اليوم تختلف عن الأمس، فتنفيذ الدوحة لتوجيهات واشنطن بالإعلان عن استعدادها للمشاركة في قمة خليجية - أميركية لا قيمة له، لأن السؤال هنا هو هل الدول الداعية لمحاربة الإرهاب على استعداد للجلوس مع قطر على طاولة واحدة؟
الإجابة على هذا السؤال يحددها السلوك القطري ومدى الالتزام بالمطالب التي أذعنت لها في واشنطن. فلا يكفي أن يكون موضوع السيطرة على دعم الإرهاب تحت نظر الإدارة الأميركية، وأيضاً لا يكفي أن تنضوي قطر تحت الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران، فذلك وإن كان من مصلحة المنطقة، إلا أن التعهد به سيكون للرياض، وهو ما تتحاشاه الدوحة، بل وتخشاه.
سعود الريس-عن"الحياة"