ما بعد كورونا: هل نحن جاهزون "للتعليم عن بُعد"؟

ما بعد كورونا: هل نحن جاهزون "للتعليم عن بُعد"؟


24/08/2020

وجدت المنطقة العربية نفسها فجأة أمام اختبار غير مجهزة له في ظل جائحة كورونا، يفرض عليها الانخراط سريعاً في تقنيات تعليمية راسخة في الخارج، والاعتماد عليها بصورة كليّة، تتمثل في أسلوب "التعليم عن بُعد".

وفيما قضت المجتمعات العربية شهوراً في الاختبار والتجربة، جاءت النتيجة، على نحو غير مفاجئ، محبطة. وقد مثل إعلان غالبية الدول العربية بدء العام الدراسي على نحو طبيعي في مواعيده، بعودة الصفوف الفعلية، وبعضها ما يزال يتخبط حول الآلية التعليمية التي ستنتهجها، كإعلان "رسوب" لتلك المنظومة، فيما يبقى التساؤل المُلحّ حالياً: هل نحن على استعداد للاستفادة وإعادة التجربة، والاندماج، طوعاً وليس كراهية، في تلك الأساليب التعليمية التكنولوجية الحديثة؟

الإشكالية التي وُضعت المجتمعات العربية أمامها تتجاوز الإيجابيات البدهية لنظام التعليم عن بعد

ولسنا في معرض الحديث عن إيجابيات لمنظومة التعليم عن بُعد، لا تخلو من سلبيات أيضاً، تتمثل في عدم صمود التفاعلية الحية القائمة على اللقاء المباشر أمام تقنيات الشاشة مهما بدت فعّالة، في مقابل إيجابيات تتمثل في عولمة عملية التعليم، وإخراجها من حيز الزمان والمكان، بحيث تصبح قادراً على التواصل والاطلاع على أيّ علوم، وحضور صف دراسي لمحاضر أمريكي، فيما تحتسي كوباً من القهوة في منزلك، سواء كان في ضاحية شعبية في القاهرة، أو في حيّ مرفّه في تونس.

وجدت المنطقة العربية نفسها فجأة أمام اختبار غير مجهزة له في ظل جائحة كورونا

الإشكالية التي وضع فيروس كورونا المجتمعات العربية أمامها تتجاوز الإيجابيات البدهية للنظام، إلى الصورة الذهنية المطبوعة في أذهان الطلاب والمعلمين عن تلك التقنية، مع اختبارها اضطرارياً خلال فترة كورونا، والتي وإن بدت موجتها حالياً أهدأ من شهور ماضية، فإنّ المخاطر ما زالت تُحدق، بحيث يصبح خيار عودة الغلق مجدداً والإجراءات المشددة، ليس ببعيد، وفي أيّ لحظة.

اقرأ ايضاً: حسني عايش: التيارات الإسلاموية تغوّلت على العلم وأفسدت التعليم

لذا، فإنّ التساؤل هو: هل المجتمعات العربية قادرة على تبنّي تلك الأساليب؟ هل باتت أكثر خبرة فيها؟ وهل باتت مقتنعة بجدواها؟ وهل يمكن تضمينها مع الغرف الدراسية التقليدية لتحرّر مفهوم التعليم من فصول محددة إلى فعل مستدام؟

المجتمعات ليست واحدة

لا يمكن تقسيم المجتمعات العربية من حيث القابلية لتبنّي تلك المنظومة، سواء على مستوى الجاهزية أو التطبيق، إلى مجموعة واحدة، حيث لا يمكن النظر إلى البنية المعلوماتية والتكنولوجية المتقدمة لدول مثل؛ الإمارات والسعودية، في المقام ذاته مع دول نامية في هذا المجال مثل؛ مصر وتونس والمغرب والجزائر، أو دول متأزمة مثل؛ سوريا واليمن والعراق والسودان ولبنان.

اقرأ أيضاً: أطفال بلا تعليم.. متى يتوقف نزيف سنوات السوريين؟

الدول الأولى، حسمت خياراتها حول التعليم عن بُعد بالانحياز له أمام مخاوف كورونا، سواء بصورة كليّة، كما أعلنت السعودية في 21 آب (أغسطس) الجاري على لسان وزير الصحة السعودي الدكتور، توفيق الربيعة، أنها "ستمدّد التعليم عن بُعد حال لم يتوافر لقاح لفيروس كورونا"، أو جزئية كالإمارات التي قرّرت تبنّي منظومة "التعليم الهجين"، وهو الدمج بين التعليم عن بُعد والدوام الجزئي في المدارس الحكومية، وترك الأمر لتقدير المدارس الخاصّة، بحيث لا ينتج عنه تغيب كامل للطلاب أو مخاطر عدم تطبيق قواعد التباعد الاجتماعي، خلال الموسم الذي ينطلق في 30 الجاري.

اقرأ ايضاً: دراسة.. الالتزام بتعليمات الوقاية من كورونا مرتبط بذكاء الأفراد

ولا تجد تلك الدول عندئذٍ عائقاً أمام اللجوء إلى منظومة التعليم عن بُعد، وخصوصاً أنّ خططها التعليمية كانت تتجه بالأساس للتوسع في ذلك النوع من التعليم؛ أي إنّها كانت أقلّ الدول العربية صدمة، عندما فرضت جائحة كورونا شروطها، ومن ثمّ فلن يتضخم ضررها حال حملت الرياح موجة ثانية أو ثالثة من كورونا، مع قرارات غلق جديدة.

خبير: فجأة وجدنا أنفسنا مطالبين بتقديم الدروس عن بُعد بطريقة لم نختبرها من قبل ودون تدريب مسبق

في المقابل، لا تجد دول مثل؛ مصر وتونس الرفاهية ذاتها صوب الركون إلى عملية التعليم عن بُعد، حيث قرّرت استئناف الدراسة على نحو طبيعي، في شبه تجاهل لأزمة كورونا، في حين يدور حديث في الأردن، لم يتأكد بعد، حول الاتجاه إلى نظام "هجين" من النظامين.

وتلك الدول، التي كانت بعيدة عن أنظمة التعليم عن بُعد، وجدت نفسها فجأة أمام مسؤولية توصيل مواد تعليمية، غير مجهزة أصلاً إلكترونياً، لطلاب بعضهم لا يملك البنية التكنولوجية لتلقي تلك المادة، ما وضع المعلم والمتلقي في مأزق.

اقرأ أيضاً: "للمرة الأولى في تاريخ البشرية".. جيل كامل من الأطفال ينقطع عن التعليم

مثلاً، اضطر الطالب المصري في كليّة الطب أحمد ماهر (22 عاماً) أن يترك قريته الهادئة "أبو يعقوب" في محافظة المنيا (جنوب مصر)، والمكوث في المدينة، مع فرض الإغلاق والتحوّل إلى التعليم عن بُعد، في آذار (مارس) الماضي، وذلك بعدما فشل في التقاط شبكة إنترنت جيدة تمكنه من متابعة دروسه إلكترونياً.

ترك ماهر، الذي كان طالباً في السنة الثالثة، هو وشقيقه الطالب في سنة أولى في كليّة الصيدلة، منزلهما، وانتقلا إلى منزل في المدينة، تعقباً لشبكة الإنترنت.

وفي قرية "أبو يعقوب" مئات الطلاب في المراحل التعليمية المختلفة ممّن واجهتهم المشكلة ذاتها، ولم يتمكّنوا من الانتقال كما فعل الشقيقان.

يقول ماهر لـ"حفريات" في تقييم تجربة التعليم عن بُعد: لم تكن سيئة في المجمل، وخصوصاً أنني دائم البحث خارج المناهج المحدّدة في الكليّة، والاعتماد على المقاطع المصوّرة في شرح المنهج؛ أي إنني كنت ألجأ إلى ما يبثه أساتذة الكليّة، سواء في مقاطع عرض "برزنتيشن" أو تسجيلات صوتية لمعرفة ما وصلنا إليه في المنهج.

اقرأ أيضاً: الإمارات الأولى عربياً والـ 20 عالمياً ضمن أفضل الأنظمة التعليمية

وبخصوص أساليب التقييم، فقد اختلفت هي الأخرى في ظلّ كورونا، فمع صعوبة إخضاع الاختبارات لتلك المنظومة الحديثة، ومع شبكة إنترنت لا تغطّي مصر بالكامل بالكفاءة ذاتها، ومع عدم امتلاك كافة الطلاب لأجهزة حاسوب، فقد تمّ استبدالها بتقديم أبحاث يحدّدها أساتذة المواد.

يتابع ماهر: إنّ نظام التقييم كان مزدوجاً في إيجابيته وسلبيته، ففيما أتاح له فكرة البحث التعمّق أكثر في أساليب البحث العلمي، بعد اعتماده على بحث ذاتي واضطلاعه على أبحاث سابقة، فإنّ هذا النظام يلقى قصوراً في تركيزه على جزء محدّد من المنهج وإهماله باقي الأجزاء، على عكس نظام التقييم بالاختبارات، الذي يجعل الطالب يدرس المادة كاملة بالكفاءة نفسها.

الدول المتقدمة حسمت خياراتها حول التعليم عن بُعد بالانحياز له أمام مخاوف كورونا

ولفت الطالب في كليّة الطب إلى أنه، هو وزملاؤه، يحاولون تدارك ذلك القصور بدراسة الجزء المهمل في إجازة الصيف؛ لأنّه لم ترقهم فكرة الانتقال إلى العام التالي بحصيلة معلوماتية ناقصة.

بطبيعة الحال لا يُعدّ ماهر نموذجاً يمكن تعميمه في مصر، أو المجتمعات العربية، حيث يعكس وعياً بشمولية وأهمية عملية التعليم، واستثماره لما فرضته جائحة كورونا، علماً أنه يفضّل أيضاً العودة إلى النظام التقليدي، حيث السماح بتفاعل أكبر مع زملائه ومدرّسيه، لكنه، في العموم، لم يخرج خاسراً بسبب الجائحة.

اقرأ أيضاً: السعودية تنهي آخر أدوات التأثير الإخواني في التعليم

وعلى الخلاف يقبع آلاف؛ بل ملايين الطلاب في المنطقة، ممّن لم يعهدوا ثقافة "التعليم عن بُعد"، وشبّوا على سبل الحفظ والتلقين، ولم يروا في مصطلح "التعليم عن بُعد" أو "الدراسة من المنزل" سوى إجازة طويلة.

إحدى هؤلاء الطالبة منة محمد (16 عاماً) تقول لـ"حفريات": لماذا يجب أن أذاكر إذا كنت متأكدة من أنني سأنجح في النهاية، ومنة خضعت لنظام اختبارات تجريبي عن بُعد وفق منظومة تجريبة لتضمين التكنولوجيا في التعليم في مصر للمرحلة الثانوية (قبل الالتحاق بالجامعة).

تضيف منة: الأساتذة كانوا يرسلون لنا بعض الشروح على مجموعات على التليجرام وفيسبوك وواتساب، لكني لم أكن أطّلع عليها إلّا نادراً. وتقضي منة أكثر من 8 ساعات يومياً عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

المعلمون أيضا صدموا

وفيما اختلفت استفادة الطلاب من تلك المنظومة، التي غلبت عليها في أذهان الكثيرين الضبابية، فإنّ الأساتذة أنفسهم كانوا في الموقف ذاته.

يقول المشرف على مادة الرياضيات في وزارة التربية والتعليم اللبنانية، وسام خليفة، لـ"حفريات": فجأة وجدنا أنفسنا ـ بصفتنا معلمين ـ مطالبين بتقديم الدروس عن بُعد بطريقة لم نختبرها من قبل، ودون تدريب مسبق، وفي ظلّ بنية تحتية غير جاهزة، ومن ثمّ كان طبيعياً أن تنتهي التجربة إلى الفشل.

خاضت لبنان محاولات التعليم عن بُعد، سواء عبر إقامة فصول إلكترونية عبر منصات تعليمية مثل "غوغل كلاس روم" أو تقديم مواد عبر التلفاز، طيلة نحو 10 أسابيع، قبل أن تقرّر وزارة التربية والتعليم اعتبار كافة الطلاب ناجحين وينقلون إلى العام التالي.

لا يمكن وضع المجتمعات العربية من حيث القابلية لتبنّي تلك المنظومة في مجموعة واحدة

يشير خليفة إلى أنه، رغم ذلك، فإنّ التجربة التي استطاع اختبارها مع بعض الطلاب ممّن كانوا يملكون شبكة إنترنت جيدة، ويستطيعون الالتزام بحضور الفصول إلكترونياً أبدت فاعلية ونجاحاً كبيراً، حيث تمكّن من تضمين الدروس مقاطع كرتونية وفيديوهات شارحة، تقدّم مزيداً من المعلومات وتضفي جوّاً من المتعة على العملية التعليمية.

بعد الجائحة

يؤكد خليفة أنّ التعليم قبل كورونا يجب ألّا يكون كما بعدها، قائلاً: إنّ اختبار التعليم عن بُعد، وإن جاء اضطرارياً، لكنه فتح آفاقاً جديدة، يجب علينا ـ كوننا تربويين ـ التعامل والاستفادة منها، مثلاً "كيف نطوّر مناهجنا الجامدة ونعطيها حيوية وحياة تؤمنها التكنولوجيا؟ كيف نطوّر أساليب التعليم بعيداً عن التلقين والتحفيظ؟ كيف نطوّر فكرة التقييم والتفكير الناقد بعيداً عن عقدة الدرجات، واعتبار التلميذ يساوي درجته في اختبار ما.

 

الدول النامية وجدت نفسها فجأة أمام مسؤولية توصيل مواد تعليمية عن بعد دون أن تكون مستعدة إلكترونياً

تنتظر نهلة عبد المنعم العام الدراسي الجديد بلهفة، لترى نجلها الأوّل للمرّة الأولى يرتاد المدرسة، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع التخلّص من القلق، في ظلّ جائحة كورونا.

ونهلة كانت ضمن المتبعين بحزم لقواعد التباعد الاجتماعي خلال الجائحة، لذا فإنها تفضل أن تعدّل وزارة التربية والتعليم في مصر قرارها في شأن انتظام الدراسة من منتصف تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، على نحو طبيعي، وتتمنّى على الأقل، أن يتمّ الدمج بين التعليم عن بُعد والحضور المدرسي، بحيث يقدّم التعليم للطلاب إلكترونياً، ويقتصر الحضور بعض الأيام على المراجعة والتأكد من وصول المعلومات بشكل صحيح.

تتابع: العالم يتغير، يجب أن نتجه أكثر إلى أساليب التعليم التكنولوجية، خصوصاً في ظلّ خطر مثل كورونا، فيما لا تملك الأم، وهي صحافية، جواباً عن مصير آلاف الطلاب ممّن لا يملكون آباء متعلمين يستطيعون معاونتهم على أساليب التعليم عن بُعد، فضلاً عمّن لا يملكون وسائله من الأساس.

وأمام تحدّي ملايين الطلاب هؤلاء، تنحاز الأنظمة في المنطقة لعودة الصفوف التقليدية، إلى أن يجدّ أيّ جديد، فيما يأمل الكثيرون أن تحمل العودة أساليب مختلفة للتعليم، وتهدّد استمراريتها موجات ثانية وثالثة من كورونا، تجعلنا أمام الاختبار ذاته من جديد، حيث ملايين الطلاب أمام اضطرارية التعليم عن بُعد، فهل تكون النتيجة واحدة؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية