أغفلت التربية على الكم عبر تاريخها الأثر المتعاقب للسلوك البشريّ الوضيع، السلوك الذي يحرس الملكيّة ويدعّم ركائزها النكوصية، فالإغفال المتعمّد فتح باب الذرائع المزيّفة لشرعنة العالم كما هو، وإطلاق أحكامٍ وقيمٍ نهائية لم تتغير طوال التاريخ الذي كتبه الأقوياء وصاغوه بحبر الخديعة والوهم؛ فالتربية على الكم وقد شكّلت وجوداً يقصي الجميع فيه الجميع، تتحمّل كامل إخفاقاتنا في عدم الوصول إلى السعادة أو الوصول إلى سعادة مزيّفة، جعلت العالم من حيث لا ندري حلبة منافسة وصراعٍ دائمين، لقد أصبح الجميل والعميق هامشاً ضيّقاً لبشرية مذعورة تلهث خلف تعاستها وقبحها.
التربية على الكم جعلت العالم من حيث لا ندري حلبة منافسة وصراعٍ دائمين، لقد أصبح الجميل والعميق هامشاً ضيّقاً لبشرية مذعورة تلهث خلف تعاستها وقبحها
يمكن لمن يتنفسون خارج النسق الاستهلاكي العام الذي برمجته التربية الكمّيّة، أن يلمسوا أثر المعنى الجمالي العميق في إشارة الحالمين الكبار بالإنسانيّة، "فإنطوان دي سانت أكزوبيري"، في كتابه "الأمير الصغير" يرسم هذه الإشارة: "إذا قلتَ للراشدين "إنني رأيت منزلاً جميلاً من القرميد الأحمر، تزيّن نوافذه الرياحين، ويحطُّ على سقفه الحمام"، فإنهم لا يتمكنون من تخيّل ذلك المنزل، ينبغي أن تقول لهم: "رأيت منزلاً يساوي مئة ألف فرنك" فيهتفون حينها: ما أجمله!"، لقد قلّصت تربية الكم المخيّلة البشرية التي تتنفس الحريّةَ من خلالها، إلى تصورات ضيّقة تسبق كل ما ننظر إليه وتبتلعه؛ فداخل حقل التصورات هذا لن تنموَ سوى محاصيل الجوع والنقص، حيث العين قد أصبحت فماً لا يشبع سيُسيّل لعابَه كلُّ ما تراه.
الفرصة في العثور على إنسانيتنا، تتضاءل يوماً بعد يوم، منذ أن ضيّقت التربية على الكم الخناقَ على التربية الجماليّة، لقد ربطت النافع بالجميل ربطاً تعسفياً، يبرر غاياتها في استنفاد الإنسان وشلّه، فالنافع الذي جعلته الضرورات المُختلقة يتعيّن بالإشباعات المادية للفرد، ساهم في الوقت ذاته في خلق عالمٍ تهدد الفرد فيه الحاجة والقلّة والخواء تهديداً مستمراً، بعد أن حُصر وجود الإنسان في معادلة "التنافس والإنتاج والاستهلاك" بتعبير "أريك فروم"، وهذا ما جعل المخيلة الإنسانيّة تضمر وتنحسر، متيحةً للتصورات القبلية والجمعيّة عن الجميل والجمال أن تنمو نموّاً جهنمياً، يماثل الجميع في رغباتٍ مشتركةٍ أصبحت الطريق الوحيد والحصري إلى السعادة، ولكن في الحقيقة لم تكن سوى طريق باتجاه واحد يفضي إلى العنف والخوف والحرب.
اقرأ أيضاً: من هم الفقراء فعلاً؟.. الحالة السورية نموذجاً
تُعتبر التربية الجماليّة في معظم مجتمعاتنا ترفاً فائضاً عن الحاجة، لاسيما في فضاء الجوع والحرمان الذي يطبق عليها، ففي إحدى حصص مادة الاجتماعيات لتلاميذ المرحلة المتوسطة كان هناك سؤال كالتالي: إذا كان لديك قطعة أرض فماذا تزرعها؟ وبينما تعددت الإجابات ما بين الخضروات والفواكه والحبوب، إجابة واحد كانت مختلفة: "أريد أن أزرعها ورداً؛ تلا هذه الإجابة استهجان واسع من جميع الأطفال: وماذا نفعل بالورد، نحن لسنا نحلات أو فراشات، فلا يمكننا أن نأكل الورد إذا ما جعنا. نعم هؤلاء الأطفال محقون، فالحاجة التي تترصدهم لن تسمح لهم بالنظر خارج أسوراها، الخوف سيطرد الجميل من مملكتهم، وسيطرد في الوقت ذاته الحرية التي لن يتعيّن الجمال داخلها.
"هناك أهمية كبيرة لأن يكتسب الأطفال قيماً جمالية تناقض الشموليّة والأحادية، وتجدر الإشارة إلى أنه لا يمكن أن يتميّز التعليم بطابعٍ جماليّ إلّا إذا تم تحرير المعرفة المقدمة إلى الطلاب، وتحرير القائمين عليها(المعلمين) من كل أشكال القهر والتسلّط سواء أكان قهراً معنوياً أو رمزياً أو مادياً فضلاً عن ضرورة تحرير العلم من كل الأساطير المرتبطة به"، "فصابر جيدوري" يؤكد في بحثه أنّ المؤسسات التربوية في مجتمعاتنا تتناقض مع القيم الجماليّة التي يفترض تبنيها لها، مما لا يسمح بتشكل الخبرة الجماليّة لدى أطفالنا، حيث إنّ انعدام هذه الخبرة يترك الوعي الجمالي المرتبط بقدرتهم على التعبير وعياً محدوداً ومغلقاً.
إذا لم يكن الإحساس بالجمال هو التعبير الأرقى عن نضوج الفرد، سنرى في كل مكان حولنا أفراداً يتحولون إلى وحوش ينغمسون بالعنف والقباحة
لاشكَّ أنّ المنظار الجمالي هو الزاوية التي يمكن أن نقرأ من خلالها الوجود كاملاً، فالعقائد التي تنتجها السلطة تقنّن كل شيء وفق أهوائها، فهي من تعلن الجميل والقبيح وتحتكر توصيفاتهما؛ إذ يصبح الخروج عن قيمها خروجاً على السلطة نفسها، وهذا لأن الفنون يمكن أن تشكل تهديداً مباشراً، لما يمتلكه من قدرةٍ على زعزعة القيم النهائية التي تضمن تماسك أي عقيدة وسلطة، وهذا إن عاد فإنه يعود إلى تلازم الفن والحرية، فالفنون لعبت عبر تاريخها دوراً حاسماً في نمو واتساع الروح الإنسانية، حيث تتبدى بها ومن خلالهما الطبيعة الأصيلة للوجود، تلك التي تحاول السلطة تغييبها في التماثلات الواسعة التي تخلقها من الخوف والقهر والتسلّط، وعندما تستكمل استلاب الإنسان داخل منظوماتها الجافة، سيجد الإنسان نفسه في المكان الخاطئ، المكان الذي لن يجد معنى لنفسه أو لأي شيء فيه.
اقرأ أيضاً: الاستلاب في ظل العولمة: كيف أفقر الإنسان نفسه؟
ليس المكان الخاطئ في النهاية سوى المكان النفسيّ لبشرية اختزلت وجودها إلى كمّ هزيلٍ، أثث العالم من حولنا بالتملّك والتنافس والجشع، وفي هذا العالم من الطبيعي أن يصبح الجمال هامشياً وأن يتحوّل إلى سلعةٍ معممة، فزمن المغامرين والحالمين الكبار قد ولّى، والحلم العالمي الجديد قد أطبق على الجميع، الحلمُ بالثروة والشهرة الذي سرق الحرية من البشرية، ثم أصبح المكان الوحيد لجمالٍ يتعفّن في أوردة السوق والمضاربات، فإذا لم يكن الإحساس بالجمال هو التعبير الأرقى عن نضوج الفرد، سنرى في كل مكانٍ حولنا أفراداً يتحولون إلى وحوش ينغمسون بالعنف والقباحة.