ماذا بعد إقرار قانون مكافحة الانفصاليّة في فرنسا؟

ماذا بعد إقرار قانون مكافحة الانفصاليّة في فرنسا؟


26/07/2021

أحمج نظيف

بعد شهور من الجدل والأخذ والرد، صوّتت الجمعية الوطنية الفرنسية، في 23 تموز (يوليو) الماضي، نهائياً، على مشروع مكافحة الانفصالية، والذي يهدف إلى منح الدولة المزيد من "وسائل العمل ضد أولئك الذين يريدون زعزعة استقرار الجمهورية" على حد تعبير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. 

فالقانون المثير للجدل، والذي اعتبرته العديد من الأوساط اليسارية والإسلامية معادياً للمسلمين وللجميعات الدينية، شهد مساراً سجالياً خلال الشهور الماضية منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي وحتى اليوم، بين أروقة غرفتي البرلمان الفرنسي واللجان المتخصصة داخل مجلس الشيوخ والجمعية الوطنية، إذ قدّم النص إلى مجلس الوزراء في 9 كانون الأول (ديسمبر) 2020 وزيرُ الداخلية جيرالد دارمانين والوزيرة المنتدبة المسؤولة عن الاندماج مارلين شيابا، واعتُمد في القراءة الأولى، مع التعديلات في الجمعية الوطنية في 16 شباط (فبراير) 2021، ثم في مجلس الشيوخ في 12 نيسان (أبريل) 2021. وبعد فشل اللجنة المشتركة في 12 أيار (مايو)، اعتُمد النص في قراءة جديدة، مع تعديلات في الجمعية الوطنية في الأول من تموز (يوليو)، ولاحقاً وفي 20 تموز (يوليو) رفضها مجلس الشيوخ لقراءة جديدة. ليتم أخيراً إقراره نهائياً بالأغلبية المطلقة.

يعتقد المشرّع الفرنسي أن القانون الجديد يساهم في تعزيز العلمانية وحياد الخدمات العامة، عبر مراجعة الرقابة على أفعال السلطات المحلية التي من شأنها تقويض الحياد تقويضاً خطيراً في الخدمة العامة، ومراقبة الجمعيات الدينية ودور العبادة من خلال تعديل مشروع قانون 9 كانون الأول 1905 بشأن الفصل بين الكنيسة والدولة وقانون 2 كانون الثاني 1907 بشأن الممارسة العامة للعبادة. بيد أن أصواتاً من المعارضة اليسارية ترى أن القانون يحوّل الصراع مع القوى الإسلاموية المتطرفة إلى مواجهة مع عامة مسلمي فرنسا، ويضفي على عمل الدولة طابعاً أمنياً لا يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى نتائج، بل يمكن أن يفضي إلى نتائج عكسية تزيد من منسوب الانفصالية داخل المجتمع.

يبدو أن مصطلح "الانفصالية" قد فرض نفسه دائماً في المعجم السياسي الفرنسي، منذ كرّسه الرئيس الفرنسي خلال خطاباته السياسية منذ مطلع عام 2020. صحيح أن المصطلح ليس مجهولاً تماماً للباحثين في العلوم الاجتماعية أو خبراء العلاقات الدولية المهتمين خاصةً بحركات الاستقلال الذاتي، لكن نظرة عامة سريعة على البحث تميل إلى إظهار أنه، حتى وقت قريب، كان مفهوم الانفصالية يستخدم أساساً لوصف مشاريع الأقليات التي تسعى للانفصال على المستوى الإقليمي، من أجل بناء كيان جديد. سياسة متميّزة عن الدولة المهيمنة.

وهكذا، كان المتخصصون قادرين على التحدث عن "الانفصالية" في ما يتعلق بالباسك في إسبانيا الذين  يطالبون بدولتهم الخاصة أو استقلال سياسي وثقافي ولغوي واسع. وعموماً، لجأت ما تسمى بالحركات "الانفصالية" إلى العنف، ونادراً إلى التفاوض، لتأكيد حقها في الحكم الذاتي أو الاستقلال. تم تطبيق فكرة "الانفصالية" أيضاً على بعض حركات السود الراديكالية في الولايات المتحدة، خلال السنوات 1960-1970، والتي دعت إلى العودة إلى "ديانات الأصل" وإعادة التأسيس الكيانية للسكان المنحدرين من أفريقيا، ودعوة أعضائهم أو المتعاطفين معهم علانية إلى فصل أنفسهم وجودياً عن الأغلبية البيضاء، إما عن طريق العودة إلى البلدان الأفريقية، أو عن طريق إنشاء كيانات "إثنية إقليمية".

أما في فرنسا، فيبدو استخدام مفهوم "الانفصالية" نادراً وحديثاً،  وحتى بداية القرن الحادي والعشرين كان استعماله غائباً عن الخطاب العام. في العلوم الاجتماعية، نادراً ما يُستخدم لتسمية الظواهر الداخلية في المجتمع الفرنسي. ومع ذلك نشر إيريك مورين عام 2004 عملاً يشير صراحةً إلى "الانفصالية الاجتماعية": على عكس الكليشيهات والأفكار المتلقاة حول أحياء الطبقة العاملة، أظهر الاقتصادي مورين أن الانفصالية تهم أكثر الطبقات العليا من الأثرياء، والمتخرّجين الذين يفضلون استراتيجية مهارات التعامل مع الآخرين. ويشير في دراسته إشارةً أقل إلى "الطبقات الخطرة" المقيمة في ضواحي الطبقة العاملة، بقدر ما يشير إلى "انفصالية الأغنياء" الذين يعيشون في الأحياء المخملية . وفي ما يتعلق بالسكان الفرنسيين المسلمين، فحتى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لم يتحدث أي متخصص، من بين علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع أو علماء السياسة، عن "الانفصالية الإسلامية" لوصف استراتيجيات الجماعات الأصولية.

لكن التحولات التي عاشتها فرنسا خلال السنوات الأخيرة، وبخاصة الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها بشكل استعراضي ووحشي، جعلت الطبقة السياسية السائدة، وبخاصة اليمينية، أكثر صلابة في مواجهة المجموعات الأصولية، التي دعمتها لعقود ومنحت لها اللجوء وأسباب التمدد في مواجهة الأنظمة العربية خلال الثمانينات والتسعينات، ولتحقيق أهداف انتخابية، في ظل تمدد القواعد الانتخابية لليمين في عموم أوروبا، دأبت القوى اليمينية الفرنسية، وسطها وأقصاها، إلى المزايدة في هذا الاتجاه، حيث تحولت النقاشات داخل البرلمان حول مشروع القانون إلى مزايدات بين اليمين المعارض واليمين الحاكم حول من يفرض قواعد أكثر تشدداً في مواجهة هذا "الغول الإسلاموي" الذي كانت صحف اليمين الفرنسي تهلل له ولإنجازته "الجهادية" في الجزائر وأفغانستان، فيما كان صوت اليسار أقلياً وضعيفاً في مواجهة الأغلبية الرئاسية من جهة، وكتلة اليمين المتطرف من جهة أخرى.

لكن سيكون من الاختزال الحديث عن إجماع النخب السياسية الفرنسية على "مشروع قانون يعزز احترام مبادئ الجمهورية". إن قراءة تقارير المناظرات في دوائر البرلمان وداخل اللجان المختلفة للجمعية الوطنية، تسلّط الضوء على تعدد وجهات النظر وتعدد تمثيلات "المشكلة" والاختلافات في الحلول التي طُرحت للمشكلة، مثل تعميق التفاوتات الاجتماعية، والانقسامات الإقليمية، والتمييز الإثني - العرقي، والجنسي والثقافي التي ابتُلي بها اليوم المجتمع الفرنسي عامةً، وأحياء الطبقة العاملة خاصةً.

في هذا الصدد، وعلى الرغم من الهيمنة العددية للممثلين المنتخبين للأغلبية الرئاسية، الذين اصطفوا عموماً كرجل واحد في الدفاع عن نص الحكومة، والهوية والمزايدات الأمنية للأحزاب اليمينية وممثلي التجمع الوطني (لوبان)، الذين ساهموا بالأحرى، لجعل نص القانون أكثر راديكالية، تكشف التبادلات عن حيوية معينة للديموقراطية البرلمانية. لكن هذا التفاؤل بديناميكية الحياة السياسية الفرنسية يجب أن يكون مقيداً في ما يتعلق بتشخيص الحكومة الذي انتقده انتقاداً طفيفاً أعضاء البرلمان على اختلاف مشاربهم، باستثناء أقصى اليسار (ميلنشون).

بهذا المعنى، إذا "تشاجر" النواب الفرنسيون حول العلاج الذي سيُطبّق على "المشكلة"، فنادراً ما شككوا في الافتراضات الأيديولوجية والسياسية والفلسفية التي بُني عليها التشخيص. فأغلبية النواب، وحتى قطاع واسع من المعارضة، يعتقد جازماً بوجود خطر انفصالي يهدد المجتمع الفرنسي، مصدره الأساسي "الأصولية الإسلاموية" من دون تفريق منهجي واضح بين المسلمين والجماعات الإسلاموية، باعتبار سيطرة هذه الجماعات على مناشط مسلمي فرنسا ومقدراتهم ومنابرهم سيطرةً شبه تامة، بل إن الحكومة الفرنسية تعتبر هذه الجماعات الممثل الرسمي للإسلام في فرنسا، وتخاطب المسلمين من خلالهم، في تناقض صارخ ومفارقة مثيرة للحيرة. هل هو تشاؤم سياسي أم إيمان صادق بقرب حدوث خطر انفصالي من شأنه أن يقسّم المجتمع الفرنسي؟ سيبقى دائماً لغزاً ومصدراً للنقاش في العلوم الاجتماعية حول ما إذا كان الفاعلون السياسيون يتصرفون من منطلق الحساب أو المصلحة أو الأيديولوجيا. قد يُغرى المرء بالقول إن النخب السياسية الفرنسية تميل أكثر إلى استغلال موضوع "الانفصالية الإسلامية" كلما اقتنعوا حقاً بوجودها، وعلى العكس، كلما جعلوها نتاجاً سياسياً وانتخابياً.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية