عدلي صادق
شهدت أبوظبي الثلاثاء انطلاق مؤتمر عالمي جديد من نوعه وفي موضوعه، تحت عنوان “الأقليات المسلمة: الفرص والتحديات”. ونقول إن المؤتمر جديد، لأن الخطاب المتداول يقتصر على شواغل الأكثرية المسلمة في بلادها، ويندر التركيز على الوضع الأقلوي للمسلمين في بلدان غيرهم من الشعوب ذات الأديان الأخرى، ما خلا، بالطبع، الفتاوى المرسلة إلى الأقليات المسلمة المغتربة في شؤون العبادات لا المعاملات.
ويناقش المؤتمر الفُرص المتاحة لهذه الأقليات، في سعيها إلى دحض الصورة التي تسبب بها إرهابيون لا يعرفون شيئاً عن محددات الدين الإسلامي ومضامينه الحضارية والشواهد الكثيرة في التاريخ الإسلامي، على التسامح والتعايش وتقبل الآخر في بلاد المسلمين، فما بالنا ببلدان الآخرين.
وينطلق المؤتمر العالمي، الذي يجمع نحو أربع مئة داعية وكاتب ومفكر وناشط اجتماعي ونقابي وأكاديمي وإعلامي وغير ذلك، من قناعة ضمنية بأن الأقليات المسلمة في بلدان غير المسلمين تواجه تحديات عسيرة، تراكمت مصاعبها في ربع القرن الأخير، بجريرة العنف المجنون الذي يطال الأبرياء.
فإن كان معلوما أن الإنسان المسلم، في مغتربه، قد أبلى بلاء حسنا على كل صعيد، فظهر العالم والأديب والأكاديمي والصانع الماهر والعامل المُجيد المتفاني، والطالب المسلم والذكي، والرياضي البارع ورب الأسرة المتسامح المستنير؛ فإن خفافيش الظلام وناكري شروط الحياة والأخوة بين البشر الأسوياء، كادوا يطمسون إسهامات المغتربين والأقليات المسلمة في تاريخ الحضارة الإنسانية.
فقد بدا اليوم أن الصورة النمطية السلبية التي ارتسمت في أذهان البسطاء من أبناء الشعوب غير المسلمة، مقلقة وظالمة، بقطع النظر عن حقائق الأحداث التي جرت، وطالت أبرياء، وأزهقت أرواح أناس بدون تمييز، من شعوب تعاطفت مع قضايا المسلمين، وبعضها إن لم يتعاطف فلم يروّج لخطاب الكراهية.
وإن كان لا بد من الاعتراف بأن الأقليات المسلمة التي تعيش بين الشعوب ذات الأديان الأخرى، باتت أمام تحد جسيم، لا سيما وأن وقائع الحياة اليومية كفيلة بتذكيرهم يوميا بالشر الإرهابي؛ يتوجب التحول إلى المستوى التنظيمي وإلى الخطط ذات المقاصد النبيلة، لمواجهة الشر وتداعياته، ومن هنا تأتي أهمية المؤتمر.
قبل ربع القرن وأبعد كان المسافرون، على سبيل المثال، يتنقّلون عبر المطارات بيُسر وسهولة، ولا يستغرق قطع المسافة من الشارع إلى الطائرة إلا وقتاً يُعد بالدقائق.
أما اليوم ففي كل مطارات الدنيا يُفتش المسافرون جميعاً وبلا استثناء، وأصبح السفر مشقة، بل أصبح إبقاء المسافر مرتدياً سترته، عند المرور عبر أجهزة الكشف الأمني، يمثل احتمال وجود ثغرة، وفي بعض المطارات توضع الأحذية نفسها في آلات الكشف، وقد تطورت الأجهزة وازداد عدد العاملين في الحقل الأمني في المطارات، وأصبح الجنود المدربون على مقاتلة الإرهابيين يتواجدون في المطارات، ويتباطأ مرور الطوابير من أجهزة الفحص الأمني. عندئذٍ يتذكر الناس أن هذا الشقاء ما كان ليصبح لازماً لو لم تكن هناك تفجيرات وإرهابيون، وهؤلاء في معظمهم مسلمون ضالون للأسف.
فعلى مستوى هذا المثال وحده، نجد أنفسنا أمام تحدٍ عنوانه أن المنحرفين الذين يستهدفون الأبرياء، مستَنكرون من قبل الغالبية العظمي من المسلمين، وأن المسلمين متسامحون ومؤمنون بالتعايش بين الحضارات والأديان، وأن الأذى نفسه يصيبهم في بلدانهم، وأن الإرهابيين أنفسهم يتذابحون إن تواجدوا في بقعة واحدة. لذا فلا بد من تصحيح الصورة، بينما الصورة لا تصحح بغير عمل تنويري تؤديه الأقليات المسلمة في بلدان الشعوب الأخرى، إن لم يكن إقراراً بفضل حكوماتها ومجتمعاتها في استيعاب هذه الأقليات وتأمين حياة آمنة لها، فليكن دفاعاً عن شرف وثقافة وديانة شعوبها في الأوطان الأم، وهذا هو معنى التحدي الذي تواجهه الأقليات المسلمة.
في دولة الإمارات العربية المتحدة، وفي العديد من البلدان المسلمة، ينصهر العاملون من كل الأديان والجنسيات، في بوتقة العمل والإنجاز، وقد وَجدت جموع غفيرة من العاملين غير المسلمين ضالتها في أسواق عمل المسلمين.
ولم يعد دور الإنسان المسلم، من أبناء أقليات المسلمين، هو الاكتفاء بالبرهنة يومياً وبشكل فردي على تسامحه وقناعته بالتعايش والتعاضد مع الشعوب التي يعيش بين ظهرانيها. ولما كان من بين الأقليات المسلمة فقهاء وأكاديميون وناشطون اجتماعيون وجمعيات ومراكز ثقافية، فإن على هؤلاء جميعاً أن يثابروا على تظهير ثقافتهم وأخلاقهم الإسلامية التي تؤكد على حُرمة الدم وقتل النفس، وعلى ضرورة تعزيز ونشر ثقافة السلم الأهلي في أي مكان.
وباعتبار أن أقليات المسلمين ارتضت العيش في بلدان الآخرين وسعدت به، فالأجدر بها أن تأخذ بناصية الحوار المجتمعي لتكريس التسامح، والإصرار على أن الإرهابي، أيّا كان دينه، منحرف وباغ، ويؤذي بالدرجة الأولى شعبه ويشوّه ديانة شعبه.
ولعل ما يزيد التحدي صعوبة نشوء ظاهرة تطرف مضاد ضد المسلمين، لدى شرائح متزايدة من الشعوب غير المسلمة. فقد صعد إلى مراكز المسؤوليات العامة بعض هؤلاء المتطرفين، ما اقتضى التركيز أكثر على شطط هذا المنحى، من خلال إشهار قيم المجتمع المسلم أمام الرأي العام في بلدان الأكثريات غير المسلمة، إن هذا هو الخط الذي يراد لرسم مستقبل هذه الأقليات، لكي تتحاشى العنف المضاد أو الإقصاء، بجريرة الفجرة الإرهابيين الضالين.
دولة الإمارات احتضنت هذا المؤتمر في سنة إحياء مئوية مؤسسها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. كان الراحل الشيخ زايد، ليس متسامحا وحسب؛ وإنما كان يفتش عن كل طيف آخر معوز لكي يمد له يد العون.
مؤتمر أبوظبي العالمي للأقليات المسلمة ينعقد تحت رعاية وزير التسامح الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، الذي عُرف بتواضعه ودماثة خلقه، وسيكون مفيداً أن ينعقد هكذا مؤتمر سنويا، لكي تقدم وفود الأقليات مخرجات عملها وتناقش سبل تطويره!
عن "العرب" اللندنية