لماذا كان موقف بنت الشاطئ حاداً وحاسماً من التفسير العلمي للقرآن؟

لماذا كان موقف بنت الشاطئ حاداً وحاسماً من التفسير العلمي للقرآن؟


23/02/2020

لم ينقطع شغف المسلمين بفهم القرآن الكريم وشرحه وتفسيره، ومعه تحولت قبائل العرب الأمية إلى أمة ذات حضارة تدور في فلك هذا النص المعجز، وصح أن يقال عنها إنّها حضارة النص، فابتكرت العلم تلو العلم الذي يقربها من الفهم الصحيح للإسلام عبر التفسير الدقيق قدر الإمكان لآيات القرآن الكريم، وقد تعددت مناهج المسلمين في تفسيره؛ بداية من التفسير بالمأثور مروراً بالتفسير اللغوي والبلاغي والتفسير الكلامي، وغيرها من المناهج التي حفل بها هذا الحقل الثري.

معظم قواعد التفسير التي أجمع عليها علماء المسلمين يتغاضى عنها "العصريون" بحجة ألا كهنوت في الإسلام

كما تنوعت المناهج الحديثة التي أضافها المعاصرون، فكان أبرزها منهج التفسير العلمي للقرآن الكريم الذي بدأ يحبو مع الشيخ محمد عبده، وتطور تطوراً كيفياً على يد الشيخ طنطاوي جوهري صاحب كتاب "الجواهر في تفسير القرآن)، ومنهج التفسير البياني للقرآن الذي ابتكره وعمل به الشيخ أمين الخولي والدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، وغيرهما من المناهج التي استفادت من المنجزات العلمية في العلوم الإنسانية كاللغة والهرمينوطيقا والعلوم الطبيعية مثل؛ الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا.

 


وكثيراً ما يدخل مجال التفسير غرباء يتحدثون عنه بغير علم بحجة محاولة تقديم تفسير عصري للقرآن الكريم، مما يدفع أئمة العلم للتصدي لهم، والجدل الذي دار بين بنت الشاطئ والدكتور مصطفى محمود من المعارك المسكوت عنها، ويعد نقد أستاذة التفسير والدراسات العليا بجامعة القرويين بالمغرب الدكتورة عائشة عبد الرحمن لذلك المنهج المستحدث الأعمق والأكثر جذرية، والأصلح للرد على ما يسمى بالتفسير العلمي للقرآن الكريم الذي تطور ليصبح فيما بعد الإعجاز العلمي للقرآن الكريم.

 

باسم العصرية يغرون المسلمين بأن يرفضوا فهم القرآن كما فهمه الصحابة وباسم العلم نخايلهم بتأويلات محدثة

لم تحيَ بنت الشاطئ حتى ترى التفسير العلمي للقرآن الكريم وقد صار يضم علماء من مختلف التخصصات العلمية، تحولت معهم كل آية قرآنية إلى مشروع نظرية فيزيائية وكيميائية وبيولوجية، وتحول العالم إلى شيخ يدعو الناس للهداية تاركاً العلم للغرب وقابضاً على الدين يدعو له المسلمين.
كان موقف الدكتورة عبدالرحمن حاداً وحاسماً من التفسير العلمي للقرآن الكريم، خلال مقالات نشرتها في شهري آذار (مارس) ونيسان (أبريل) من العام 1970 بجريدة الأهرام، ثم جمعتها في كتاب "القرآن والتفسير العصري، هذا بلاغ للناس" رداً على مقالات نشرها الدكتور مصطفى محمود بعنوان "تفسير عصري للقرآن" بمجلة صباح الخير، وقد استهدف كتابها الرد على المنطلقات الفكرية التي يقوم عليها ذلك المنهج، ثم الرد على أفكار الراحل الدكتور مصطفى محمود.

اقرأ أيضاً: الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وإشكالية التأويل بالإكراه
رأت بنت الشاطئ أنّ الفرضية المركزية التي يعتمد عليها أصحاب هذا المنهج أنّ القرآن الكريم يجب أن يضم بين دفتيه "علوم الطب والتشريح والرياضيات والفلك والفارماكوبيا وأسرار البيولوجيا والإلكترون والذرة... وإلا فإنه ليس صالحاً لزماننا ولا جديراً بأن تسيغه عقليتنا العلمية ويقبله منطقنا العصري"، فباسم العصرية نغري المسلمين بأن يرفضوا فهم القرآن الكريم، كما فهمه الصحابة، رضي الله عنهم، وباسم العلم نخايلهم بتأويلات محدثة، تلوك كلمات ضبابية عن الذرة والإلكترون وتكنولوجيا السدود، ومع كل ذلك تتعذر الرؤية الثاقبة، ويفوتها أن تفصل بين منطق تفكير علمي سليم وجرأة ادعاء وطبول إعلان.

كأنّ بنت الشاطئ تستشرف المستقبل فترى أصحاب العلم الحديث "ينتحلون الدراية بكل علوم الدين والدنيا"

وفقاً لبنت الشاطئ تبدأ قصة التفسير العلمي للقرآن الكريم مع الحضور الطاغي للاستعمار في المشهد الاجتماعي والثقافي المصري؛ حيث تبنت النخب المصرية عدة مواقف من الاستعمار، من أبرزها الموقف الأول الذي رأى اللحاق بالغرب عبر تقليد ومحاكاة قيمه انبهاراً بثقافته التي ظن أنّها سر تقدمه وهيمنته، والموقف الثاني حاول أن يعالج عقدة النقص التي ألمت بالمسلمين عبر تفسير القرآن الكريم تفسيراً علمياً ليضم في هذا التفسير القوانين العلمية التي توصل إليها الغرب، كما فعل الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره "الجواهر في تفسير القرآن"، وكان هذا الاتجاه كالمخدر والمهدئ لأعصاب المسلمين.

الدكتور مصطفى محمود
سرعان ما انتهى مفعول مخدر تفسير الشيخ طنطاوي جوهري بفضل العلماء وقادة الفكر الذين انتقدوا سلبيات ذلك التفسير على عقول ونفوس المسلمين، ثم عاود ذلك التيار دعوته مجدداً بعد عقود من الكمون، عاود الكرة ثانية بمخدر أقوى وأكثر فاعلية؛ فأمام تحديات متعاظمة خطيرة تشهدها الأمة، والمنافسة الاقتصادية العالمية يظهر مثقفون وعلماء طبيعيات يتحدثون عن عدد "النظريات" التي يحفل بها القرآن الكريم؛ لينحرف المسلم عن العمل والعلم والكد إلى متابعة هؤلاء العلماء والنظر إليهم بانبهار، وهم يتحدثون عن نظريات اكتشفها الغرب موجودة مسبقاً بين دفتي المصحف، وليتركوا المفاهيم الكلية المرشدة لحياة المسلمين، ويبحثوا عن مدى تطابق آيات القرآن الكريم مع قوانين ونظريات العلم الحديث.

رسالة دعاة هذا التفسير واضحة تقول ها هي بضاعتنا ردت إلينا وإننا ماضون في طريق الحضارة ولكن بالعكس

فرّقت بنت الشاطئ بين الفهم والتفسير، ففهم القرآن الكريم حق لجميع المسلمين يختلف بتنوع ثقافتهم ووعيهم، أما تفسير القرآن فله ضوابطه وقواعده مثل؛ استحالة التصدي لتلاوته أو تفسيره دون التلقي من شيوخ القراءة، واستحالة تفسير صيغة أو عبارة مبتورة عن سياقها الخاص في الآية والسورة، بالإضافة إلى أنّ الكلمة لا تعطى دلالتها القرآنية بمجرد الرجوع إلى دلالتها المعجمية التي تتسع لمعانٍ عدة لا يقبلها النص، وغيرها من القواعد التي أجمع عليها علماء المسلمين، ويتغاضى عنها العصريون بحجة ألا كهنوت في الإسلام.
التصدي للفقه والتفسير يحتاج للدراسة المؤهلة التي تجيز الفقيه المفسر علمياً للجلوس للفتيا والتدريس، ويحتاج فهم القرآن إلى استيعاب علوم العربية وسنن الرسول الكريم وأحكام القرآن وعلومه والسير والمغازي، مع قدر من الحساب والرياضيات، ويعد الإمام مالك بن أنس نموذجاً رائداً سار على درب العلم، ومن خلفه سار العلماء على سنة الرسول الأكرم وتعاليمه.

اقرأ أيضاً: الإعجاز العلمي في القرآن وأحكام عدة المرأة
في المقابل باسم العلم والعصرية يخرج أتباع التفسير العصري يدعون المعرفة بأحدث النظريات العلمية، وأنّ القرآن يحتوي كافة نظريات العلوم الطبيعية بدون تفقه في علوم القرآن، وأنّ العالم أصبح "تفتح له خزائن الغيب وأسرار الحكمة، فلا يلبث أن يخرج على الناس وفي جرابه طرائف وغرائب من كل علوم العصر، ومعها مكتشفات من مجاهل الميتافزيقا".

التفسير العلمي انعكاس لحالة التردي الحضاري الذي أصاب الأمة الإسلامية المغلوبة المولعة بتقليد الغالب

وكأنّ بنت الشاطئ تستشرف المستقبل فترى علماء الفيزياء والكيمياء "ينتحلون الدراية بكل علوم الدين والدنيا، ومن يخوضون في الغيب فيفسرون لنا آيات القرآن في الساعة والقيامة بما لم يأت فيه نص، ولا كشف عنه غيبة علم!".
شغل التفسير العلمي للقرآن الرأي العام لأعوام خاصة مع سماح الإعلام الرسمي له بالانتشار على قنواتها قبل أن ينتشر هذا الخطاب في الفضائيات، بدت الرسالة واضحة تقول ها هي بضاعتنا رُدّت إلينا، وإننا ماضون في طريق الحضارة ولكن بالعكس، فالعالم المتحضر يكتشف القوانين الطبيعية ويخترع الابتكارات العصرية وينتج ويصدر لنا سلعاً متطورة، فيما نحن سنفتح دفتي المصحف نلتقط آية من هنا وأية من هناك؛ تؤكد ما وصل إليه علماء الغرب وتبرر لنا استهلاكنا المفرط لمنتجاتهم فيما نحن نغطّ في سبات عميق.
التفسير العلمي للقرآن انعكاس لحالة التردي الحضاري الذي أصاب الأمة الإسلامية المغلوبة المولعة بتقليد الغالب كما قال ابن خلدون في مقدمته، مع ما يصاحب هذا التردي من أمراض وعقد نفسية ورغبة في الزهو الزائف بما تمتلكه الأمة من تراث، وليس غريباً أن يخرج علينا بعض الدعاة والشيوخ يتحدثون عن موقفهم من الحداثة والحضارة الغربية، فيتحدثون نفس الحديث متغنّين بالتراث التليد ويختمون حديثهم أيضاً بأنها بضاعتنا ردت إلينا!


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية