لماذا صمتت الحركات الإسلامية عن الغزو التركي لليبيا؟

لماذا صمتت الحركات الإسلامية عن الغزو التركي لليبيا؟


08/01/2020

هناك معضلة كبيرة تواجه خطاب "المراجعات" عند الحركات الإسلامية الإخوانية حصراً، عنوانها تفعيل خطاب "المراجعات" على أرض الواقع، عِوَض الاقتصار على مقام الخطاب، والموجّه في الغالب لصناع القرار أو الباحثين والمتتبعين بشكل عام.
ونقصد بالمراجعات هنا؛ أخذ مسافة من خطاب إسلامي حركي، لا يمكن أن ينسجم مع مقتضى الدولة الوطنية، وفي مقدمتها أخذ مسافة من خيار الولاء لمشاريع سياسية أجنبية على الرقعة الوطنية التي تتواجد فيها الحركة الإسلامية المعنية، ومن ذلك الولاء لمشروع "دولة الخلافة" أو "حكم المرشد".


صحيح أنّ قضايا العالم الإسلامي بشكل عام، غالباً ما يتم الخوض فيها على منابر خطبة الجمعة وفي دروس الوعظ والإرشاد بالمؤسسات الدينية، إضافة إلى ما تعجّ به الفضائيات الإسلامية، التابعة لدول وطنية، لكنّ هذا الخوض يتمّ في سياق احترام الولاء للدولة الوطنية أولاً، إلا إن كان الولاء لمنظومة إقليمية ما، يتطلب تكريس نوع من التماهي بين الولاء للوطن والولاء للمنظومة الإقليمية، لكنّ هذا سيناريو مستبعد في أحوال الساحة بالمنطقة العربية، السائدة حالياً، كما أكّدت ذلك أحداث "الربيع العربي" المفتوحة على عدة احتمالات، خاصة أنّ أولى أولويات صناع القرار في أيّة دولة لن تخرج عن صيانة الدولة الوطنية من هول التحديات التي تمرّ بها جميع دول المنطقة، ولن تكون التطورات الأخيرة في ليبيا، بعد تأكد الغزو العسكري التركي، آخر هذه القلاقل المُغذية للأزمات، خاصة الفتن التي يُغذيها محوران اثنان: الإيراني والتركي.

ليست صدفة أن نُعاين تطابقاً تماماً بين تفاعل الحركات الإسلامية بخصوص الموقف التركي من غزو ليبيا

في هذا السياق، نُعاين بين الفينة والأخرى ما يُشبه امتحانات عابرة، لكنّها دالة، بخصوص التأكد من حقيقة "المراجعات" التي تتحدث عنها الحركات الإسلامية في الاختيار بين أسبقية الولاء للمصالح العليا للدولة الوطنية مقارنة بالمصالح السياسية للجماعة الإسلامية فوق الوطنية.
وهذا عين ما اتضح مرة أخرى في الساحة المغربية، على هامش التفاعل الإسلامي الحركي مع إحدى مؤتمرات الساحة الإقليمية، دون أن ينتبه هؤلاء إلى أنّ الأمر يتعلق بامتحان تمّ فيه اختبار موقفهم الحقيقي من موضوع الولاء للمصالح العليا للدولة الوطنية، والحديث هنا عن مشاركة الإسلاميين المغاربة في قمة كوالالمبور الإسلامية، ونخصّ بالذكر مشاركة وفد من جماعة "العدل والإحسان"، ورئاسة حركة "التوحيد والإصلاح" الإخوانية؛ حيث شارك في القمة التي حضرها زعماء كلّ من قطر وإيران وتركيا، فتح الله أرسلان، الناطق الرسمي باسم جماعة "العدل والإحسان" ونائب أمينها العام، وعمر أمكاسو، عضو "مجلس الإرشاد"، وهو مجلس أشبه بمجلس شورى لدى قيادات وأتباع الجماعة، كما مثّل حركة "التوحيد والإصلاح" كلّ من: عبد الرحيم شيخي، رئيس الحركة ذاتها، والداعية اليساري السابق، امحمد طلابي، الذي أصبح من أتباع الإسلاموية اليوم.

اقرأ أيضاً: الغزو التركي لليبيا: لماذا لا تتعظ أنقرة من دروس التاريخ؟
أما الجماعة الأولى؛ فهي جماعة إسلاموية محظورة، ولا تعترف بها السلطات الإدارية، لإصرارها على الدعوة إلى إقامة "الخلافة على منهاج النبوة"، إضافة إلى أنّها لا تعترف بمشروعية مؤسسة إمارة المؤمنين في المغرب، والجماعة الثانية: حركة "التوحيد والإصلاح"؛ هي حركة إسلامية معترف بها رسمياً، بدليل أنّها تعدّ الذراع الدعوي لحزب "العدالة والتنمية"، أي الحزب السياسي الإسلامي الذي يقود الحكومات المغربية، منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2011.

اقرأ أيضاً: إلى أي مدى يهدّد التواجد التركي في ليبيا الأمن المصري؟
قبل التوقف عند دلالات هذه المشاركة في مؤتمر رفض المغرب رسمياً المشاركة فيه، لأنّ صناع القرار في الرباط يرون أنّ المؤتمر يندرج في سياق صراع إستراتيجيات تمرّ منها المنطقة، ويحاول المغرب أخذ مسافة منها، نتوقف عند دلالات التفاعل المتواضع للنخبة البحثية والإعلامية مع مشاركة الإسلاميين المغاربة في مؤتمر كوالالمبور؛ حيث اتضح أنّ الصمت كان عنوان تلك التفاعلات، رغم أنّ تلك المشاركة تسبّبت في انزعاج صناع القرار في الرباط، وفق ما كشفه داتوك سيف الدين عبد الله، وزير خارجية ماليزيا، خاصة بعد أن اتّضح أنّ مهاتير محمد، رئيس الوزراء الماليزي، استقبل أعضاء وفد من جماعة "العدل والإحسان" خلال مشاركتهم في أشغال القمة، وهو ما أثار غضب الدبلوماسية المغربية، قبل قدوم اتصال هاتفي من داتوك سيف الدين عبد الله، وزير الخارجية الماليزي، مع نظيره المغربي ناصر بوريطة، السبت 28 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أكّد فيه أنّ "مشاركة أيّ فرد أو منظمة في قمة كوالالمبور الأخيرة لا تعني، في أيّ حال من الأحوال، اعترافاً حكومياً رسمياً بهذه التنظيمات"، مضيفاً: "أوضحت لوزير الخارجية المغربي أهداف القمة، وما يتعلق بمشاركة ممثلين عن جماعة العدل والإحسان وحركة التوحيد والإصلاح في قمة كوالالمبور".

اقرأ أيضاً: الإخوان في ليبيا: هل تبدل المزاج الشعبي تجاه الإسلام السياسي؟

من خلال تصفح مضامين التفاعل الرقمي للنخبة المغربية، اتضح أنّ الصمت كان مرة أخرى عنوان التفاعل، مع استثناءات قليلة، يتقدمها ما صدر عن الباحث في الاقتصاد، خالد أشيبان، الذي كان صريحاً في التحذير من دلالات هذه المشاركة الإسلاموية في القمة، آخذاً بعين الاعتبار أنّ الموقف الرسمي المغربي كان واضحاً في أخذ مسافة من تلك الصراعات الإستراتيجية القائمة في الشرق الأوسط، بل كان الباحث صريحاً في التنبيه إلى حقيقة مشروع "دولة الخلافة"، معتبراً أنّنا لا نتحدث عن "وهم، بل مشروع حقيقي فِعلي تعمل الحركات الإسلامية على تحقيقه في المنطقة، من الصين شرقاً حتى المحيط الأطلسي غرباً"، وبالتالي "يجب عدم الاستهانة بما يحدث في المنطقة، وما تمّ الاتفاق عليه في اجتماع كوالالمبور مؤخراً، وما يفعله أردوغان، وحلفاؤه في منطقة شمال أفريقيا حالياً، هو تنفيذ فِعلي لهذا المشروع، وَهُمْ ماضون فيه مستغلين غسيل دماغ الشعوب التي لم تتلقَّ يوماً أيّ تطعيم فِكري ضدّ من يستغلون الدين لتحقيق أهدافهم السياسية، ومستغلين اصطفاف بعض القوى السياسية والمدنية والحقوقية، الطامحة إلى تغيير جذري للأنظمة إلى جانبهم، ومستغلين الأخطاء التي ترتكبها الأنظمة القائمة في دول المنطقة في تعاملها مع هذا الملف، ومستغلين كذلك إرثاً كبيراً من القمع والفساد ليقدموا أنفسهم كمنقذين حقيقيين للناس".


كان تفاعل الباحث مناسبة كي يتحوّل إلى مقال رأي، تمّ نشره في عدة مواقع إلكترونية، وكان علينا انتظار حوالي ثلاثة أيام، حتى نُعاين أولى مواقف الدولة المغربية من المشاركة سالفة الذكر، بينما أصرت باقي الأصوات النخبوية على التزام الصمت مجدداً.
لا نريد هنا التوقف عند دلالة التفاعل المتواضع للنخبة البحثية والإعلامية مع مشاركة إخوان المغرب في مؤتمر كوالالمبور، فهذه حكاية أخرى، مؤرقة ولا تبعث على التفاؤل، وسوف نتطرق إليها في مقال آخر؛ لأنّها تتطلب تسليط الضوء على مشروع "أسلمة مخيال المجتمع والنخبة"، ذلك الذي تقوم به الحركات الإسلامية بشكل عام، وهي الأسلمة التي تندرج إجمالاً في سياق المشروع الإستراتيجي لجميع الحركات الإسلامية، دون أي استثناء؛ أي أسلمة المجتمع والنظام والدولة، بقدر ما نروم التذكير مجدداً بأنّه تجب إعادة النظر كلياً في خطاب المراجعات الذي ترَوّجه الحركات الإسلامية، خاصة الحركات الإسلامية المنخرطة في العمل السياسي، أو حركات "الإسلام السياسي"، من قِبَل أنّها أخذت مسافة نهائية من خطاب العنف والتحالف مع "الجهاديين"، وممارسة التقية والتمكين والتغلغل وفصل العمل السياسي عن العمل الدعوي، وما جاور تلك الشعارات التي لا يوجد لدينا أدنى شكّ، من خلال تأمل وقائع مادية، أنّها مجرد شعارات موجهة للاستهلاك الأمني والبحثي والإعلامي.

"أسلمة مخيال المجتمع والنخبة"، هو المشروع الإستراتيجي لجميع الحركات الإسلامية، أي أسلمة المجتمع والنظام والدولة

وليست صدفة، ما دمنا نعيش أجواء التمهيد للغزو التركي الرسمي للديار الليبية، أن نُعاين تطابقاً تماماً بين تفاعل الحركات الإسلامية "الجهادية" مع الحركات الإسلامية السياسية المنخرطة في العمل السياسي، بخصوص الموقف التركي من غزو ليبيا، أي التأييد الكلي، مع أنّ كلّ فصيل يدّعي أنّه أخذ مسافة من الفصيل الآخر؛ السياسيون يزايدون على الأنظمة العربية بأنهم أخذوا مسافة من العمل الإسلامي القتالي، و"الجهاديون"، في المقابل، ينتقدون الإسلاميين السياسيين لأنهم يشتغلون في مؤسسات "الطاغوت"، ورغم الإشارات العلنية لهذا النقد المتبادل، تأبى بعض أحداث الساحة، إلا أن تؤكد أنّنا إزاء اختلاف في الظاهر، واتفاق في الباطن، أو قل توزيع أدوار، لأنّ الجهاز المفاهيمي الذي يتربى طيلة عقود على أدبيات "المفاصلة الشعورية" و"الحاكمية" و"الجاهلية" و"التقية" و"التمكين"، لا يمكن أن يتحرّر منها بشكل نهائي بين ليلة وضحاها، إضافة إلى أنّ التحرر من هذه الأدبيات الطائفية، معناه العملي على أرض الواقع أفول الإسلاموية، لا الحديث عن "حركة إسلامية معتدلة وطنية".
امتحان جديد فشلت فيه الحركات الإسلامية السياسية التي تدعي الدفاع عن مصالح الدولة الوطنية، لأنّها تربّت على الدفاع "الديني" عن مصالح "دولة الخلافة"، أما الذين يُصدقون خطاب "المراجعات" الصادر عن هذه الحركات، سواء تعلق الأمر ببعض صانعي القرار أو الباحثين أو الإعلاميين، فهم أحرار في تصديق هذا الخطاب، ولكن عليهم تأمل دلالات هذه الامتحانات العابرة، لكنّها المعبرة بشكل صريح عن حقيقة مواقف هذه المشاريع من ثنائية الولاء للوطن والولاء للجماعة فوق الوطنية.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية