"كان ياما كان، كان هناك غابة يمرّ بجانبها نهر، ويعيش فيها بطّة وحمار وإوزة وحصان وسنجاب، البطةُ كانت تحبُّ أكل السمك، والحمار يحبّ أكل الحشائش الطرية، والإوزة كانت تحبّ أكل الأعشاب والنباتات المائية، والحصان كان يحبّ أكل التفاح، والسنجاب كان يحبّ أكل البندق، وكانوا يتشاجرون دائماً، في الحقيقة، ليس لديهم طاولة تجمعهم، ولهذا قرروا أن يصنعوا طاولة دائرية ليكفّوا عن الشجار، الحصان على ظهره القوي أحضر الخشب، والسنجاب بأسنانه الحادّة قام بنشره، والحمار برأسه القوي دقّ المسامير، والبطة بيديها الرشيقتين صنعت شوربة الخضار وطبق من السمك وفطائر التفاح والبندق، والإوزة بخطواتها السريعة أحضرت الماء من النبع، ثُم اجتمعوا على الطاولة، وتبادلوا الأحاديث وضحكوا كثيراً، بعد الآن ليس هناك ما يتشاجروا من أجله".
إنّ الطاولة المستديرة توفّر الحوار كمُنتِج رئيسي لإنسانية الفرد؛ إذ إنّ جميع نقاط الدائرة تبعد بعداً متساوياً عن مركزها
تحمل القصة السابقة عنوان "لا تتشاجروا"، وقد كتبتها طفلةٌ بعمر السبعة أعوام ونصف العام. في البداية أثارت هذه القصة مجموعة أسئلة داخلي؛ لماذا اختارت الطاولة؟ ولماذا هي دائرية؟ لماذا وزّعت الطفلة الأدوار في العمل بصورة تقليديّة ما بين الذكور والإناث؟ ولكن عندما حاورت كاتبة القصة الصغيرة، جاءت إجاباتها لتجعل من أسئلتي أسئلةً ساذجة وتحكمها المسبقات، "الطاولة لكي تجمعهم، فهم عندما يجتمعون بالتأكيد سيتبادلون الأحاديث وعندها سيتفاهمون ويختفي الشجار، وقد جعلت الطاولة دائرية ليحتضن بعضهم بعضاً، وكانت الأدوار بحسب إمكانيات كل واحدٍ منهم؛ فالحمار مثلاً ليس ذكراً بل أنثى، ولكن حوافرها الكبيرة لا تساعدها على تحضير الطعام، فكل واحدٍ فيهم قدّم ما يستطيع عمله، ومن خلال تعاونهم أنجزوا العمل وأصبحوا سعداء".
اقرأ أيضاً: 4 أسباب تجعل أفق الحوار مع الإسلاميين مسدوداً
وضعت كاتبة القصة إصبعها الصغير على الجرح، نحن حقاً بحاجة إلى طاولة مستديرة، إلى طاولة نفسيّةٍ معافاة لا تغذيها عقد النقص والتطاول، لهذا يجب أن تكون مستديرة، كي تضع الجميع على مسافة واحدة، الكلّ يصغي للكل، والأهم والأفضل يفقد معناه، وتفسح المجال للجميع أن يكونوا، وهذا الكون الجديد سيملأ العالم بالمحبة، حيث سيدرك الجميع أنّ التعاون والتفاهم والاحترام ــ المفردات التي لم يعد لها مكاناً إلا في الجمل الإنشائية ــ هي السبل الوحيدة لنحافظ على إنسانيتنا من الانقراض، وذلك ما سيجعل من الطاولة المستديرة نتيجةً طبيعيّةً لوعينا ومقدمةً لسلوكنا.
الحقيقة يجب أن تخدم الإنسان وليس على الإنسان أن يخدمها، ولكن هذا ما لم يحدث حتى الآن سوى في القصص
إنّ الطاولة المستديرة توفر الحوار كمُنتِج رئيسي لإنسانية الفرد، فالحوار يفترض انفتاحاً غير مشروطٍ على الآخر واعترافاً قبلياً باختلافه؛ إذ إنّ جميع نقاط الدائرة تبعد بعداً متساوياً عن مركزها، فالجميع سيكونون على مسافة واحدة من أي تمركز لأي حقيقة، وبهذا تصبح الحقيقة عصيّة على الامتلاك، وتفقد المعرفة الحصرية لها أهميتها، بالتالي لن يستطيع أحد استثمارها، هي ملكٌ للجميع ولكلٍ من الجهة التي ينظر إليها، الحقيقة يجب أن تخدم الإنسان وليس على الإنسان أن يخدمها، وطاولة الحوار التي يدعو إليها الجميع في هذا العالم يجب أن تكون مستديرة كيفما كان شكلها الهندسي، ولكن هذا ما لم يحدث حتى الآن سوى في القصص، بينما ما زال كل من السيطرة والتنافس والعنف يغذي تفاصيل عالمنا الواقعيّة.
اقرأ أيضاً: الحوار المجتمعي.. هل يدفع المجتمعات المتخلفة حقاً إلى الأمام؟
لنجرّب أن نكتب على "غوغل": "طاولة الحوار في 2020"؛ إنّ كم الدعوات التي تدعو للجلوس على طاولة الحوار محلياً وعالمياً، سياسياً واقتصادياً، دينياً واجتماعياً...إلخ، قد يجعلنا نتصور أنّ العالم الذي نعيش فيه مليء بالمحبة والتفاهم والرغبة في الانفتاح على الآخر، بينما الواقع يقول عكس ذلك تماماً؛ فالعداء والرفض والتعالي يحتل المساحات الأوسع من وجودنا، لينغلق العالم يوماً إثر آخر، وتتسع الهوة بين الجميع وتبتلعهم، ويمكن لأيّ منا أن يلمس هذا على منصات التواصل الاجتماعي أو في الإعلام المرئي والمسموع.
اقرأ أيضاً: ما مصير التسامح والحوار في المجتمعات المفتوحة؟
إنّ برامج الحوارات والمناظرات المتلفزة، على سبيل المثال، تُحوّل طاولة الحوار إلى حلبة مصارعة حقيقية، حيث تكون المهمّة الأساسية لضيوف البرامج هي تهميش حقائق بعضهم ونسفها، وتثبيت أحدهم للآخر وهزيمته، وهذا النوع من البرامج يستحوذ على اهتمام أعداد كبيرة من المشاهدين والمتابعين، مع مواقفهم المحددة مسبقاً بـ "مع أو ضد"، وقد تصل هذه الدراما الفارغة إلى ذروتها عندما يفاجئنا أحد المتحاورين بسلاح يشهره على الآخر أمام الكاميرا. وهذا لا يختلف في الحقيقة عما يدور على مواقع التواصل الافتراضي، والتي لا تبتعد في كثير من الأحيان أيضاً عن كونها حلبة مصارعة؛ فحين تفرغ الحجج والأدلّة المنطقيّة من منطقيتها، سنرى بوضوح كم الشتائم والسباب والتهديدات التي يمكن أن تدور داخل منشور ما يتضمن رأياً.
إنّ برامج الحوارات والمناظرات المتلفزة تُحوّل طاولة الحوار إلى حلبة مصارعة حقيقية
ما سبق من أمثلة ليس سوى انعكاس لصورة الطاولة الأكبر؛ طاولة الهيمنة والمحاصصة لأنظمة لا تجيد سوى ثقافة الغالب والمغلوب، أحدهم سيملي شروطه، والآخر سيمتثل ويذعن، وهذا ما يؤكد القرابة اللغوية بين الطاولة والتطاول؛ فالطاولة تنبثق من المستطيل، وهذا يمنحها رأسين وسلطة لمن يحتلُّ أحدهما، ممّا يفترض أن تكون الأطراف أقلَّ منزلة في محيط الطاولة، والتطاول "الظلم والاعتداء" هو ما يتمُّ عادةً بين أعلى وأدنى يجمعهما الفرق وليس الاختلاف، فالطاولة مناسبة اجتماعيّة دائمة لاستعراض الغلبة والسلطة، لذلك أغدقت المخيّلة الإنسانية المتعطشة للعدالة في مديح الطاولة المستديرة. إنّ (كاميلوت) الملك "آرثر"، تفقد معناها من دون طاولتها المستديرة التي تجعل الجميع متساوين باختلافهم.
اقرأ أيضاً: فضيلة الحوار: تذكّر أنا لستُ أنتَ
في العودة إلى الكاتبة الصغيرة؛ فإن مساحة الحوار التي ولدت على طاولتها، هي مساحة الحوار التي تموت على طاولاتنا، والقبول المتبادل لشخوص قصتها، هو الرفض والإقصاء المتبادل لبعضنا البعض. هذه المفارقة ربما هي مؤشر قوي على أنّ "غريزة العدوان كطبع متأصل في الكائن البشري"، ليست سوى خدعة كبيرة صدقناها وعممناها وأضاف كلٌّ منّا لمساته عليها، لنبرر عجزنا عن الإصغاء لبعضنا البعض؛ فالطاولة المختفية في الواقع ما زالت موجودةً في مخيلة أطفالنا، وقد تصبح واقعاً يوماً ما إذا ما أتحنا الفرصة لهؤلاء الأطفال بالنموّ بعيداً عن مستنقعاتنا.