الحوار المجتمعي.. هل يدفع المجتمعات المتخلفة حقاً إلى الأمام؟

الحوار المجتمعي.. هل يدفع المجتمعات المتخلفة حقاً إلى الأمام؟

الحوار المجتمعي.. هل يدفع المجتمعات المتخلفة حقاً إلى الأمام؟


01/07/2023

فقدت المجتمعات الصغيرة  والمجتمعات الكبيرة في بلادنا، منذ عقود، أمرين أساسيين، من جملة أمور كثيرة؛ هما التعاون، من جهة، والتشاور أو النقاش في "الشؤون العامة": شؤون العائلة أو العشيرة أو القرية أو الحي أو المدينة .. من جهة أخرى، وترتب على فقدان هذين الأمرين نتيجتين وخيمتين، أولاهما ضمور الثقة بين الأفراد والجماعات، وخاصة الجماعات الإثنية، كالعرب والأكراد، والجماعات الدينية والمذهبية، والثانية انكفاء الأفراد والجماعات إلى حواضنهم الخاصة أو ملاذاتهم الخاصة (جمع ملاذ) بآفاقها الضيقة وهوائها الفاسد، وتنامي الميل إلى التطرف والعنف، والاستبداد السياسي التي تمارسه الحكومات على المجتمعات، من اعتقال وخطف وقتل ومصادرة حق الأفراد بالتفكير والتعبير؛ لم يكن بريئاً من فقدان التعاون والتشاور والنقاش بين الأفراد والجماعات داخل كل مجتمع. 

لا يمكن التحول من التطرف إلى الاعتدال ومن التعصب العقائدي إلى التسامح إلا بالتواصل والحوار أو النقاش العام

يطلق بعض علماء الاجتماع على الثقة والتعاون والتشارك الحر والمبدع في الشؤون العامة اسم "رأس المال الاجتماعي"، فقد رأى روبرت بوتنام، أن الأثر الإيجابي لرأس المال الاجتماعي يظهر في "تعديل المناخ السياسي والثقافة السياسية، وذلك بالتوجه نحو التعاون والتحول من التطرف إلى الاعتدال ومن التعصب العقائدي إلى التسامح ومن المذهب التجريدي إلى الإدارة العملية ومن الإفصاح عن المصالح إلى تجميع المصالح ومن الإصلاح الاجتماعي الجذري إلى الحكم الجيد".
وهذا لا يعني اختفاء الجدال من السياسة بل يعني الثقة المتبادلة بين الخصوم السياسيين وإدارة الاختلاف؛ إذ لا يتعارض هذا الأخير مع الحكم الجيد. ومما يساعد على ذلك الانتقال من الحزبية المنغلقة إلى الحزبية المنفتحة وبناء الثقة والاحترام المتبادل .

من البديهي أنّه لا يمكن التحول من التطرف إلى الاعتدال ومن التعصب العقائدي إلى التسامح ومن الإصلاح الاجتماعي الجذري (أي من الثورة التي تأكل أولادها) إلى الحكم الجيد وكل ما تحدّث عنه "بوتنام" إلا بالتواصل والحوار أو النقاش العام.

اقرأ أيضاً: ما مصير التسامح والحوار في المجتمعات المفتوحة؟

الحوار مدخل ضروري للتعاون وبناء الثقة؛ لأنه يقوم على الاعتراف المتبادل بالكرامة الإنسانية والتساوي في الحقوق، وعلى الاحترام المتبادل؛ وهذه كلها من شروط المواطنة المتساوية، ومن الشروط الضرورية للديمقراطية. فالحوار تداول للحرية، وتداول للمعرفة في الوقت نفسه، وسعي مشترك إلى إنتاج حقيقة تواصلية يقبل بها الجميع؛ لأنها قائمة فيهم جميعاً، بتعبير إدغار موران.

يتعلق الأمر إذاً بـ"الفعل التواصلي"، الذي يرسي معقولية سلوكية مفادها أنّ شخصاً معيناً، مهما كان محيطه الاجتماعي ولغته وشكل حياته الثقافية، ليس بمقدوره عدم الانخراط في ممارسة تواصلية، وليس بمقدوره، من ثم، ألا يبدي اهتماماً ببعض الافتراضات التداولية ذات المنحى العام (كارتفاع الأسعار على الأقل)، ... التي يجد الأفراد أنفسهم منخرطين فيها من دون أن يدركوا أنّهم يشاركون في ممارسات ثقافية حقيقية" .

اقرأ أيضاً: الحوار مع الإرهاب.. هل هو ممكن؟ وما جدواه؟

الحوار نشاط تواصلي على خلفية العالم المعيش؛ فالمشاركون في التواصل، أو المنخرطون في الحوار أو النقاش العام، من أجل التفاهم على وضعية ما، لكل منهم تراث ثقافي يستمد منه بعض العناصر، ويعمل على تجديدها. لذلك فإنّ النشاط التواصلي، من الزاوية الوظيفية للتفاهم، يعمل على تداول المعرفة الثقافية وتجديدها؛ ومن زاوية تنسيق الفعل يقوم بوظائف الاندماج الاجتماعي وخلق التضامن؛ ومن زاوية التنشئة، يسهم في تشكيل الهويات الفردية (وإعادة تشكيلها باطِّراد).

الحوار مدخل ضروري للتعاون وبناء الثقة لأنه يقوم على الاعتراف المتبادل بالكرامة الإنسانية والتساوي في الحقوق

أي إنّ النشاط التواصلي يعيد إنتاج البنيات الرمزية للعالم المعيش، من خلال الاحتفاظ بما هو صالح منها وتجديده، ويعمل من جهة أخرى على استقرار أشكال التضامن بين أعضاء الجماعة، ويسهم من جهة ثالثة في تكوين فاعلين مسؤولين ، وفاعلات مسؤولات بالطبع. وهذا يقتضي الاعتراف المتبادل بتساوي المرجعيات الرمزية للأفراد المختلفين والجماعات المختلفة، فلا تكون أي منها مرجعية معيارية وحيدة، ولو كانت مرجعية الأكثرية العددية.

الاستبداد السياسي الممارس على الأفراد والجماعات أو الهيمنة الناعمة، والعنف الذاتي التي تمارسه المجتمعات على ذاتها في نزاعاتها؛ هذه كلها أدت إلى فقدان لغة الحوار، وبالتالي لغة السلم والسلام فلجأت إلى لغة العنف والسلاح لتحقيق مصالح شخصية وفئوية على حساب المجتمع وحياة أفراده. هل ستفتح تلك المجتمعات لغةً جديدة تسير بها إلى الأمام كي تستطيع السيطرة على ذاتها عن طريق (حوارٍ مجتمعيّ) يشمل جميع أطياف المجتمع؟

هل يفضي الحوار المجتمعي إلى المواطنة المتساوية؟

في الأوضاع الراهنة حيث النزاعات والحروب متفجرة هنا وكامنة هناك، لا يمكن بناء السلام وتحقيق الأمن والاستقرار والحياة الكريمة والمواطنة المتساوية، إلا من خلال التواصل والحوار.

اقرأ أيضاً: فضيلة الحوار: تذكّر أنا لستُ أنتَ

فقد جاء جان جاك روسو بفكرة "العقد الاجتماعي" في أواسط القرن الثامن عشر، للخروج مما سمّاه "الحالة الطبيعية" إلى الحالة المدنية وإرساء أسس الدولة الحديثة، التي لا تفرض على مواطنيها شيئاً لا يفرضونه على أنفسهم، والتي تحتكر العنف، وتعاقب الأفراد والجماعات على ارتكابه، علاوة على المساواة في الحريات المدنية والحقوق المدنية والسياسية، بحيث تنظر جميع الأطراف المتعاقدة إلى المصالح المشتركة فيما بينها بتوافق مجتمعي وتفهّم وقبول. فقبل الوصول إلى العقد الاجتماعي الذي يحقق العدالة والمواطنة المتساوية؛ تلجأ المجتمعات إلى الحوار المجتمعي لخلق مساحة آمنة بعيدة عن التعصبات والصراعات القائمة فيما بينها، لتمكّن الأفراد من تبادل الأفكار والمعارف واكتسابها وتطويرها، وإيجاد حلول لا عنفية للمشكلات التي لا يخلو منها المجتمع.

اقرأ أيضاً: ضدّ الدوغمائية: الممارسة الحوارية لإنتاج المعرفة الإسلامية

فالحوار المجتمعي يساعد أيضاً في بناء الثقة بين المجتمع والدولة، كما أنّه يساهم مساهمة فعالة في المصالحات الوطنية في المجتمعات المتنازعة، ولا بد منه للتوصل إلى دستور يساوي بين جميع المواطنين والمواطنات في الحقوق المدنية والسياسية، من غير تمييز ديني أو عرقي أو إثني جنسي أو سياسيّ؛ أي إلى فضاء مفتوح على أفق إنساني.

لاقى الحوار المجتمعي نقداً واضحاً وصريحاً من قوى التسلط والاستبداد ومن يجاريهما من النخب الثقافية وبعض الهيئات الدينية في العالم العربي، لتعارضه مع مصالحهم ومصالح الاستبداد بآن واحد.

قد يقول قائل إنّ طرح فكرة الحوار المجتمعي في المجتمعات التي تعاني من أزمات داخلية، طرح طوباوي، وقد يكون على حق نتيجة ما آلت إليه هذه المجتمعات من تعصب وعنف وأيديولوجيا دينية وسياسية، وتشرذم النخب الفكرية، لكننا "محكومون بالأمل" بتعبير الراحل سعد الله ونوس.


هوامش:

1- يقصد بالمتمعات الصغيرة العائلات الممتدة والعشائر والقرى والبلدات وأحياء المدن التي تتألف منها المجتمعات الكبيرة، كالمجتمع السوري أو اللبناني أو غيرهما.
2 - روبرت بوتنام، مع روبرت لوناردي، ورافائييلا. ي. نانيتي، كيف تنجح الديمقراطية، تقاليد المجتمع المدني في إيطاليا الحديثة،  ترجمة إيناس عفت، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، القاهرة، الطبعة العربية الأولى، 2006، ص 43.
3 - راجع/ي، يورغن هابرماس، إيتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، ترجمة عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم، ناشرون، الجزائر العاصمة،  2010، ص 30.
4 - محمد نور الدين أفايه، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء وبيروت،  1998، ص 185.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية