كيف يتمكن القادة الدينيون من بناء السلام في الشرق الأوسط؟

كيف يتمكن القادة الدينيون من بناء السلام في الشرق الأوسط؟

كيف يتمكن القادة الدينيون من بناء السلام في الشرق الأوسط؟


09/01/2025

بالرغم من أن الدين -بطبيعته- يوفر أيضًا سُبُلًا مهمة للمصالحة والوحدة والسلام، فقد شهدت منطقة الشرق الأوسط، وهي منطقة ذات مكانة دينية وثقافية مهمة، صراعات طويلة الأمد غالبًا ما كانت تتسم بصبغة دينية، وذلك ما أدّى إلى تعميق الانقسامات، ليس داخل المجتمعات المحلية فحسب، بل وأيضًا في نظرة العالم إلى المنطقة.

وفي العقود القليلة الماضية بدأ الباحثون وصُناع السياسات يدركون بشكل متزايد الدور المحوري الذي يمكن أن يؤديه القادة الدينيون في بناء السلام، خصوصًا من خلال الحوار بين الأديان، وهو ما تؤكده دراسة حديثة نشرها مركز تريندز للبحوث والدراسات، تحت عنوان "دور القادة الدينيين في بناء السلام في الشرق الأوسط".

وأكدت الدراسة أن السلام المستدام في المنطقة يحتاج عملًا جماعيًّا من القادة الدينيين، إذْ إن قِيَم الرحمة والتسامح والسلام -وهي قيم تشترك فيها الديانات السماوية- يمكن أن تشكل أساسًا قويًّا لجهود المصالحة والوحدة. 

 الدين وبناء السلام (إطار نظري)

ومن منظور الأنثروبولوجيا الثقافية، لا يعكس الدين المعتقدات الفردية فحسب، بل يعكس أيضًا الهويات الجماعية والثقافية والقواعد الأخلاقية، وكل هذه الأشياء توجه السلوك والمواقف في المجتمعات. 

ولفتت الدراسة إلى أن السبب في حشر الدين في الصراعات لا يعود إلى دوافع دينية حقيقية، بل يحدث ذلك نتيجة للتلاعب بالسرديات الدينية لأهداف غير دينية، وغالبًا ما تكون هذه الأهداف سياسية، حيث يمكن استغلال الدين لتوفير غطاء لأجندات محددة، تُفضي إلى تصعيد العنف والكراهية بدلًا من تعزيز التفاهم والوحدة.

وتمثل المبادئ الأخلاقية التي تدعو إليها هذه الديانات أدوات محتملة للوحدة، حيث يؤكد كل من القرآن والإنجيل والتوراة على الرحمة والعفو وعدم إيذاء الآخرين. فعلى سبيل المثال، يشكل مفهوم العفو، الذي يرد مرارًا في كل من الإنجيل والقرآن، جسرًا بين الإيمان والدبلوماسية، ويسمح باتباع نهج جديد كُليًّا في حل النزاعات. 

كما أن موضوعات العدل والرحمة ترد في جميع الكتب السماوية، وذلك ما يؤكد التوافق بين الأخلاق الدينية وأهداف بناء السلام.

 موضوعات العدل والرحمة ترد في جميع الكتب السماوية، وذلك ما يؤكد التوافق بين الأخلاق الدينية وأهداف بناء السلام

ومن ثم، فليس الهدف من الدبلوماسية الدينية دعوة الأفراد لاعتناق دين جديد أو تغيير الأفكار العلمانية، بل وضع إطار لحوار يُفضي لنتائج إيجابية في المجتمعات التي تعاني من الصراعات. وهذا النهج يؤكد دور الدين في الدبلوماسية، ويضمن وضع مبادرات السلام في سياق المفاهيم الدينية والأخلاقية المعروفة. 

 مبادرات الحوار بين الأديان في الشرق الأوسط بين الماضي والحاضر

هذا وكان الشرق الأوسط، بحسب الدراسة، منذ أمد طويل مركزًا للتأثير الديني، يؤدي قادته أدوارًا أساسية في إدارة المجتمع والوساطة في الخلافات التي تنشأ بين أفراده، حيث كان القادة الدينيون عبر التاريخ يقومون بدور القادة الروحيين وقادة المجتمع، ويعالجون الصراعات عبر الحوار والإرشاد الأخلاقي. 

وذكرت الدراسة وساطة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بين الأوس والخزرج مثالا على الدبلوماسية الدينية، حيث تم التوفيق بين هاتين القبيلتين، بعد أن تصاعدت الصراعات بينهما جَرَّاء التنافس بشأن الشرف والهيمنة، وتحققت هذه المصالحة تحت قيادة النبي صلى الله عليه وسلم من خلال دستور المدينة المنورة، مشيرة إلى أن هذا الاتفاق أكّد الوحدة والاحترام المتبادل بين اليهود والمسلمين، وأرسى سابقة للتعايش السلمي في مجتمع متعدد الثقافات. وأظهر النهج النبوي أهمية تعاليم الإسلام الحنيف كدليل لحل الصراعات وتحقيق رفاه المجتمع.

ويعد دور القادة الدينيين -كصانعي سلام- حاضرٌ أيضًا في المجتمعات المسيحية واليهودية في الشرق الأوسط، حيث سعى القادة الروحيون عبر التاريخ إلى تعزيز المصالحة. وعملت المؤسسات الدينية عبر القرون على التوسط في حل النزاعات، عن طريق تشجيع الالتزام بمبادئ التسامح ونبذ العنف. 

بدأ الباحثون وصُناع السياسات يدركون بشكل متزايد الدور المحوري الذي يمكن أن يؤديه القادة الدينيون في بناء السلام

ولكن العلاقة التاريخية بين الدين والسياسة في المنطقة تشير أيضًا إلى حدوث تلاعب بالخطاب الديني في بعض الأحيان لخدمة مصالح معينة. 

ومع تصاعد حدة الصراعات، قد تلجأ الفصائل السياسية، وغير السياسية، إلى استخدام الخطاب الديني لحشد الدعم أو تبرير الأعمال العدوانية، وذلك ما يُحَوِّل الدين من أداة للتوحيد إلى أداة للتقسيم. وأيًّا ما كان الأمر، فإن تأثير القادة الدينيين يبقى واضحًا، ودعوتهم للسلام في ظل القيم الأخلاقية المشتركة ما زالت تُبشر بتحويل هذه الخطابات إلى دعوات للوحدة والتماسك الاجتماعي. ويمكن أن ينطبق هذا على أمثلة حديثة كان فيها الدين أداة لبناء السلام، وليس أداة لتأجيج الصراع. ومن الضروري النظر إلى المبادرات التاريخية، وتسليط الضوء على نتائجها الإيجابية في تحقيق التعاون بين الأديان.

وفي عام 2016، جمع إعلان مراكش أكثر من 300 من علماء الإسلام والسياسيين والنشطاء في المغرب لمناقشة حقوق الأقليات الدينية في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة. واستند الإعلان إلى المبادئ التي أرستها صحيفة المدينة المنورة؛ وهي عقد اجتماعي وضعه النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، لإدارة العلاقات وتنظيمها داخل مجتمع متعدد الثقافات. 

وقد أكد الشيخ عبدالله بن بيه، أحد علماء الإسلام البارزين، أن إطار الإعلان يتوافق مع كل من الشريعة الإسلامية والمعايير الدولية لحقوق الإنسان. وقد أصبح إعلان مراكش وثيقة بالغة الأهمية في مواجهة الخطابات المتطرفة التي تسعى لتبرير العنف ضد الأقليات، وذلك بتأكيده التواؤم بين التقاليد الدينية وحقوق الإنسان العالمية.

الشيخ عبدالله بن بيه

وفي عام 2019، وقّع البابا فرنسيس والإمام الأكبر أحمد الطيب وثيقة الأُخُوَّة الإنسانية، وهي إعلان يدعو إلى الوحدة العالمية والتسامح والتعايش. ويحث هذا الاتفاق التاريخي بين الكنيسة الكاثوليكية وجامعة الأزهر على الاحترام والفهم المتبادل بين جميع الانتماءات الدينية، حيث يضع الأُخُوَّة كقيمة أساسية في حل النزاعات. وبالدعوة إلى التعاون بين القادة الدينيين والمثقفين ومنظمات المجتمع المدني، تقدّم الوثيقة رؤية للسلام قائمة على الكرامة الإنسانية المشتركة والاحترام المتبادل.

ويتمتع القادة الدينيون في الشرق الأوسط بإمكانات عظيمة للإسهام في بناء السلام، بفضل سلطتهم الأخلاقية وارتباطهم العميق بمجتمعاتهم. والمبادرات الأخيرة، مثل إعلان مراكش ووثيقة الأُخُوَّة الإنسانية، تُؤكد دورهم الحيوي في تعزيز التسامح والتعايش بين مختلف أطياف المجتمع. غير أنه ينبغي الاعتراف بأن تأثيرهم يظل مقيدًا بالديناميات الاجتماعية والسياسية. 

الآفاق والتحديات أمام القادة الدينيين في بناء السلام

واعتبرت الدراسة أن آفاق بناء السلام أمام القادة الدينيين واعدة، لكنها في الوقت ذاتِه لا تخلو من تحديات كبيرة. وتُثبت المبادرات الناجحة لبناء السلام، مثل المبادرات آنفة الذكر، قدرة القادة الدينيين على مواءمة مبادئ حقوق الإنسان مع القيم الدينية، ولكن تحقيق هذه القدرة على أرض الواقع يتوقف على معالجة الحواجز النظامية وإنشاء أطر مستدامة للتعاون.

وتتطلب معالجة هذه التحديات جهودًا مدروسة ومتواصلة لتمكين القادة الدينيين. ويتمثل أحد الحلول في إنشاء هياكل مؤسسية للتواصل والتفاعل مع صُنّاع السياسات. ويجب أن تكون هذه المنصات شاملة للجميع، بحيث تضمن مشاركة النساء والمجموعات الأقل تمثيلًا، وهو ما من شأنه تنويع وجهات النظر وتعزيز ثقة المجتمع. وإضافة إلى ذلك، من المهم سدُّ الفجوة بين السلطات الدينية الرسمية وغير الرسمية. وفي هذا الإطار فإن المنتديات التشاركية، التي تجمع القادة المرتبطين بالدولة وغيرهم من القادة، يمكن لها أن تعزز الخطابات الموحدة، وتقلل من التنافس الذي يقوّض جهود بناء السلام.

آفاق بناء السلام أمام القادة الدينيين واعدة، لكنها في الوقت ذاتِه لا تخلو من تحديات كبيرة

وفيما يخص مواجهة الاستغلال السياسي، ففي سبيل ذلك لا بُدَّ للقادة الدينيين من الحفاظ على استقلاليتهم، مع الاستفادة من الشراكات مع الحكومات والمنظمات الدولية. فعلى سبيل المثال، تُوضح المبادرات المذكورة، مثل إعلان مراكش، كيف يمكن للقيم الدينية أن تتوافق مع أطر الحوكمة وحقوق الإنسان لمواجهة التطرف والدعوة للتعايش. ومع ذلك، يجب أن تصاحب هذه الجهود إصلاحات قانونية وسياسية تعالج قضايا مثل البطالة وصراعات الموارد، التي كثيرًا ما تثير التوترات العرقية والدينية.

كما يؤدي التعليم دورًا حاسمًا في تعزيز حظوظ القادة الدينيين في بناء السلام. وفي هذا الإطار فإن المبادئ الدينية، التي تركز على التسامح والتعايش وحقوق الإنسان، يمكن إدماجها في المناهج التعليمية بما يصوغ مواقف الأجيال القادمة ويُشكّلها. كما ينبغي للحوارات بين الأديان أن تتجاوز النقاشات النخبوية لتُشرك المجتمعات على مستوى القواعد الشعبية، وذلك ما يعزز الفهم والثقة بين أطيافها المختلفة.

ومن ناحية أخرى، تشكّل مشاركة القادة الدينيين في عمليات إعادة الإعمار بعد النزاعات مجالًا واعدًا آخر. فمن خلال تعبئة الموارد للمساعدات الإنسانية ومشاريع التنمية الاجتماعية الاقتصادية، يمكن لهؤلاء القادة أن يعالجوا الأسباب الجذرية للنزاعات، وأن يعيدوا بناء النسيج الاجتماعي للمجتمعات المتضررة. كما أن دورهم المزدوج -كقادة روحيين ومجتمعيين- يُمَكِّنُهم من الدعوة إلى سياسات لَمّ الشَّمل، التي تدمج المجموعات المهمشة في الإطار الاجتماعي الأوسع، وذلك ما يزيد من تعزيز آفاق تحقيق السلام المستدام.

وبالرغم من التحديات الكبيرة التي تواجه القادة الدينيين في بناء السلام، فإن قدرتهم على دفع عجلة المصالحة والتماسك الاجتماعي في الشرق الأوسط لا يمكن إنكارها. ومن خلال معالجة الحواجز المؤسسية والسياسية والاجتماعية الاقتصادية، وتعزيز التعاون والشمول، يمكن أن يضطلع هؤلاء القادة بدور تحويلي في النهوض بالسلام في المنطقة. وفي ظل تصاعد الصراعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ينبغي أن نؤكد أهمية هذا الحوار لحل القضايا من خلال استعراض بعض الجوانب الإنسانية لويلات الحروب.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية