
إنّ للخوف، باعتباره ثقافة واستراتيجية ذات أبعاد سياسية واجتماعية وأمنية، حضورًا بارزًا لدى الجماعات الإسلاموية وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، التي حولت الإسلام إلى أيديولوجيا سياسيّة ذات غايات سلطوية تسلّطية تستهدف الدولة والمجتمع.
وقد استخدمت طَوال تاريخها المديد وسائل متنوّعة لتحقيق أهدافها، ومنها توظيف الخوف من أجل توجيه مشاعر الجمهور أفرادًا ومجموعات والتحكّم في توجّهاتهم والسيطرة عليهم وتطويعهم لخدمة مشروعها السياسيّ، وهو ما أشارت إليه دراسة نشرها "مركز تريندز للبحوث والدراسات"، بعنوان "توظيف الخوف لدى جماعة الإخوان المسلمين"، وقد قامت الدراسة باستجلاء مظاهر الخوف وآلياته ورهاناته لدى جماعة الإخوان المسلمين في مراحل تاريخها المتقلّبة بين المعارضة والحكم.
الخوف في خطابات جماعة الإخوان المسلمين
الدراسة أشارت إلى أن الخوف يكاد يكون أحد ثوابت خطاب جماعة الإخوان وتتعدّد أشكال حضوره، فيتجلّى أحيانًا سافرًا في خطابات يكتنفها الوعيد والتحذير والتهديد بوضوح لا لبس فيه، وأحيانًا أخرى يبدو متخفّيًا في تجاويف الخطاب تحجبه براقع من ادعاءات المرونة والتهدئة والسلميّة والبحث عن المصلحة العامة ومنفعة الأمة، ولكنّها تنطوي على توظيف مبطّن للخوف.
وهي خطابات تقول بشكل ضمنيّ “إذا لم تجنحوا للسلم جنحنا للعنف والقوّة” وإذا لم تقبلوا بنا قلبنا لكم ظهر المجنّ. ويظهر الخوف في خطابات الجماعة ليس فقط باعتباره تقنية لترهيب الخصوم وردعهم وتجييش الأنصار وتحفيزهم شعوريًّا للانخراط في مشروعها، بل باعتباره أيضًا محرّكًا للجماعة فهي مثلما تنتج خطابات توظّف الخوف، فإنها تنتج خطابات بدافع الخوف. ويمكن أن نرصد تجليات الخوف في مختلف وجوهه في الخطاب الإخواني.
ونهض الخطاب الإسلامويّ الإخوانيّ على رهان تشكيل هوية خاصة بالإخوان أفرادًا وجماعة، وهو رهان يؤول إلى العزلة الشعورية أي إلى عزل الجماعة عن المجتمع وخلق علاقة صدامية قائمة على العداء بين الطرفين. وينطوي تشكيل هذه الهوية الإخوانية على جملة من الخصائص الإيديولوجيّة والتنظيميّة والتربويّة التي تمنح الإخوان نظامًا رمزيًّا من القيم والمعايير في حياتهم اليومية يعزز إحساسهم بالالتزام والانتماء للحركة.
وقد تمكنت من خلق مجتمع مواز منغلق لأعضائها، وتربط بنية التنظيم القواعد بالسلوك، واللوائح بالقيم، والأعضاء بالقيادة، وقد كان لهذه القواعد دور محوري في تمكين الإخوان من الحفاظ على وحدتهم الداخلية وتجنّب التفكك. حيث اعتمدت القيادة الإخوانيّة لتحقيق هذه الغاية استراتيجيّة عمادها التخويف؛ ويظهر ذلك في تخويف الأتباع وأعضاء التنظيم من عواقب عدم الالتزام بتعاليم الجماعة وواجبات الانتماء إليها.
هذا ويقوم الخطاب الإسلاموي الإخواني، بحسب الدراسة، على تيمة أساسيّة مفادها تقسيم المجتمع إلى قسمين بينهما تعارض جوهري، هما قسم المؤمنين ويضم الإخوان ومن تابعهم من الأنصار والمتعاطفين إيديولوجيا باعتبارهم “العصبة المؤمنة”، وقسم الكفّار ويضمّ كلّ من ناوأهم وخالف أفكارهم وتصوّراتهم الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.
وتكمن وراء هذا التقسيم الحدّي استراتيجيّة قائمة على تخويف “الإخوان المؤمنين” من الكفّار المخالفين الّذين يُصوّرون باعتبارهم أعداء لا للجماعة ككتلة بشريّة فحسب، بل للدين باعتباره منظومة حياة شاملة.
القيادة الإخوانيّة تتوخّى خطّة تثير في الأتباع مشاعر الخوف على “دينهم” كما وقع تمثيله لهم والسخط والغضب على أعدائهم المتربّصين به
كما أن القيادة الإخوانيّة تتوخّى خطّة تثير في الأتباع مشاعر الخوف على “دينهم” كما وقع تمثيله لهم والسخط والغضب على أعدائهم المتربّصين به، ولكي تنجح خطّتها عملت هذه القيادة على تكريس تبعيّة الأنصار وإلغاء دور العقل والتفكير ما جعل منهم كتلة قائمة على التعصّب لمنهجهم والتحيّز لأفكارهم.
الدراسة أكدت أيضا أن الخوف يحضر ضمنيا في خطابات دعاة الإسلاموية الإخوانيّة المشحونة بمعاني المؤامرة والمظلومية لدغدغة مشاعر العوام، فغالبًا ما تقدّم الجماعة نفسها باعتبارها مستهدفة من أعداء الداخل والخارج الّذين يحيكون المؤامرات لمحاصرتها والقضاء عليها، وتلجأ إلى خطاب المظلوميّة لحث أفرادها على الصبر على ما يصيبهم من ابتلاء.
فالخوف هنا شعور دفين متمكّن، وهو خوف من أن ينكشف تهافت خطابهم وأن تتهاوى في أعين الأتباع صورة الجماعة القويّة والطائفة المنصورة الممثّلة للدين الحقّ وصاحبة الحجّة الدامغة في مواجهة الخصوم.
ووفقا لما ورد في الدراسة، فإنّ الخطابات الإخوانية –بما هي خطابات دعائيّة تقوم أسلوبيًّا على التحريض والترغيب والتحذير والتهديد، وتخاطب في الجمهور مشاعرهم وتروم تجييشهم وتعامل الآخر باعتباره عدوا متآمرا لا على الجماعة بل على الإسلام– فإنّها خطابات تستحضر الخوف تصريحًا أو تلميحًا، وتعتمد التخويف الموجّه للأتباع كما للخصوم استراتيجيّة لتحقيق جملة من الأهداف.
الخوف في ممارسات جماعة الإخوان المسلمين
إلى ذلك، فقد أشارت الدراسة إلى أن شعار الجماعة لم يكن مجرد هوية بصرية، فالمصحف الّذي يتوسّط السيفين المتقاطعين وعبارة “وأعدّوا” المقتبسة من الآية “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ” (الأنفال 8/60) ليس “سوى دعوة للعنف والقتال”.
وشعار يحدّد أنّ طبيعة العلاقة مع الآخر المختلف هي الخصومة والصراع، ووجود السيفين فيه هو للدلالة على أنّ أحدهما لمحاربة أعداء الخارج والثاني لمحاربة أعداء الداخل
ولتجسيد هذا الشعار ودلالاته على أرض الواقع عمدت جماعة الإخوان ومنذ مرحلة مبكّرة إلى تكوين جهاز خاصّ ذي طابع سرّي يمثّل الجناح المسلّح للتنظيم. ويكون الانضمام إلى هذا النّظام بالبيعة باستعمال المصحف والمسدّس وتحت شعار الجهاد والموت في سبيل الله.
كما أنهم يتجسّسون، وفقا للدراسة، على كلّ شيء، على الأحزاب والهيئات، والحكومات، بل على الأجهزة، وكلّ فرد في موقعه جاسوس لحساب الجماعة، فكلّ موظف وكلّ عامل يرسل باستمرار بأسرار وظيفته أو عمله إلى قيادة الجماعة، بل كلّ ضابط وكلّ شرطيّ يقوم بنفس العمل لحساب قيادته داخل الجماعة”.
الخوف هنا شعور دفين متمكّن وهو خوف من أن ينكشف تهافت خطابهم وأن تتهاوى في أعين الأتباع صورة الجماعة القويّة والطائفة المنصورة
ولهذا الجهاز سجلّ حافل بالعنف والاغتيالات الموجّهة نحو الخصوم والمخالفين فضلًا عن كونه كان المحضن الذي انسلّت منه سائر جماعات العنف والإرهاب إلى اليوم، بل ونحو تصفية بعض القيادات الإخوانيّة أيضًا في إطار صراع الزعامة بين قادتها كما هو الحال عند اغتيال السيد فايز في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 1953 الّذي دبّره عبد الرحمن السندي قائد النظام الخاصّ حينها في إطار الصراع بينه وبين حسن الهضيبي مرشد الجماعة الثاني.
ويتجلّى الخوف والتخويف في الطقوس التي تكتنف البيعة التي يؤدّيها العضو الذي ينضمّ إلى النظام الخاصّ. وينقل محمود الصبّاغ تلك الطقوس كما يلي: “تبدأ البیعة بأن یقوم الأخ الجالس في المواجھة لیتلقاھا نیابة عن المرشد العام بتذكیر القادم للبیعة بآیات االله التي تحض على القتال في سبیله وتجعله فرض عین على كل مسلم ومسلمة، وتبین له الظروف التي تضطرنا إلى أن نجعل تكویننا سریًّا في ھذه المرحلة، مع بیان شرعیة ھذه الظروف “استعینوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”.
ثم یذكره بأنه ما دام قد قدم مؤمنًا بفرضیة الجھاد في سبیل االله عازمًا على العمل في صفوف المجاھدین، فإننا نأخذ البیعة على الجھاد في سبیل االله حتى ینتصر الإسلام أو نھلك دونه مع الالتزام بالكتمان والطاعة، ثم یخرج من جانبه مسدسًا، ویطلب للمبایع أن یتحسسه وأن یتحسس المصحف الشریف الذي یبایع علیه، ثم یقول له فإن خنت العھد أو أفشیت السر فسوف یؤدي ذلك إلى إخلاء سبیل الجماعة منك، ویكون مأواك جھنم وبئس المصیر.
إلى ذلك، اعتبرت الدراسة أن الحرص على الطابع السرّي للجهاز يشي بشعور الخوف من انكشاف زيف الادعاءات بالدعوة السلمية الّذي يسيطر على الجماعة.
كما حضر الخوف بطريقة ناعمة خفيّة من خلال المهمّة الاستخباراتيّة الموكلة إلى الجهاز السرّي الخاصّ، فهذه المهمّة التي تكمن كما بيّن علي عشماوي في التجسّس على الآخرين أفرادًا وهيئات وحكومات وأجهزة وجمع المعلومات عنها وتحليلها تجعل المجتمع والدولة خاضعين لرقابة الجماعة.
ولم تكتف الجماعة باعتماد تقنية التخويف وهي جماعة معارضة فحسب، بل إنّها عندما أتيحت لها فرصة اعتلاء سدّة السلطة في مرحلة ما يسمّى الربيع العربيّ لجأت إلى التخويف كأداة من أدوات الحكم لإرهاب معارضيها وحشر خصومها في الزاوية حتى يتسنّى لها تمرير مشروعها في التمكين بمختلف وجوهه السياسيّة والاجتماعيّة والمحافظة على استمرار هيمنتها على مؤسسات الدولة.