داخل حيّ الشجاعية، شرق مدينة غزة، يقع مسجد الظفردمري، الذي يعدّ من أهم المعالم الأثرية المملوكية في قطاع غزة، والشاهدة على عراقة وتاريخ الحضارة الإسلامية التي كانت قائمة في تلك الفترة؛ حيث تزينت واجهته وساحاته الداخلية بآيات قرآنية وزخارف نقشت بالحجر الرملي وعقود "أقواس" مدببة متصلة ببعضها.
اقرأ أيضاً: غزة: العاطلون عن العمل يعتاشون على آثار الحضارات القديمة
ويقع حيّ الشجاعية شرق مدينة غزة، وتعود تسميته إلى الشهيد "شجاع الدين الكردي"، الذي استشهد في إحدى المعارك بين الأيوبيين والصليبيين عام 1239 ميلادي، وتمّ بناء الحيّ خلال العهد الأيوبي، وتبلغ مساحته الإجمالية حوالي 14 ألفاً و305 دونمات، ويسكنه أكثر من 110 آلاف نسمة، ويعمل معظم سكانه في صناعات خفيفة؛ مثل الخياطة والزراعة وغيرها.
ووفق الدليل الأثري التي أصدرته وزارة السياحة والآثار "غزة بوابة الشام"، خلال العام 2013؛ فإنّ عدد المباني والأماكن الأثرية في القطاع يبلغ 39 موقعاً أثرياً؛ بين مساجد وكنائس وقصور ومقامات وبيوت أثرية، إضافة إلى العديد من المواقع الأخرى.
وكانت وزارة السياحة والآثار بغزة، قد أوضحت في بيان لها، في أيلول (سبتمبر) 2014؛ أنّ القطاع الأثري والسياحي في قطاع غزة تعرّض لخسائر فادحة نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية المباشرة والمتعمدة للمنشآت السياحية والمباني الأثرية خلال العدوان على القطاع.
غزة تتميز بتاريخها العريق؛ حيث أطلق عليها خليل الظاهري لقب (دهليز الملك)، كما أسماها نابليون بونابرت "بوابة آسيا ومدخل أفريقيا"
وأشارت الوزارة خلال البيان؛ أنّ قطاع الآثار تكبّد خسائر كبيرة قدِّرت بــ 850 ألف دولار، وذلك بعد تدمير العديد من المباني التي منها ما تدمّر كلياً نتيجة للقصف المباشر، وأخرى تدمرت جزئياً نتيجة القصف غير المباشر.
وقدرت اللجنة، المكوّنة من مهندسين بالمجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار (بكدار)، فرع غز،ة حجم الخسائر في دور العبادة والمقابر ولجان الزكاة جراء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بأكثر من 40.4 مليون دولار.
وفق اللجنة؛ تسبّب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، الذي استمرّ 51 يوماً، في تدمير 73 مسجداً بشكل كلي، و205 جزئياً، وتضرُّر كنيستان، وهدم أسوار عشر مقابر، وتدمير ستّ مؤسسات زكاة.
معلم إسلاميّ وأثريّ قديم
بدوره، يقول إمام مسجد الظفردمري، كمال الأفغاني، خلال حديثه لـ "حفريات": إنّ "تسمية المسجد تعود إلى مؤسّسه، الأمير المملوكي شهاب الدين أحمد بن أزفير الظفردمري، الذي ترجع أصوله إلى ظفر دمر في بلاد المغرب، ويعود تاريخ بناء المسجد إلى العام 1360 ميلادي، وهو يعدّ أحد أقدم وأهم المعالم الإسلامية والأثرية في قطاع غزة".
وأضاف: "المسجد يتكوّن من جزأين؛ حديث وقديم، ويتكوّن من ثلاثة إيوانات (قاعات مستطيلة) مطلة على بيت الصلاة، تفصل بينها عقود مدببة محمولة على الجدران، اشتهرت بها العمارة الإسلامية، وقد تزينت تلك العقود بزخارف محفورة بالحجر الرملي، بينما صممت النوافذ على شكل عقد حدوة الفرس، ويفصل بين كلّ نافذة وأخرى بوابة يدخل منها المصلون إلى بيت الصلاة"، مبيناً أنّ "مساحة المسجد تقدَّر بأكثر من 600 متر مربع، تتّسع لقرابة 800 مصلٍّ".
قصف إسرائيل للمسجد
وبيّن الأفغاني؛ أنّ "بعض جدران المسجد يصل سمكها إلى أكثر من 80 سنتيمتراً، بحسب العمارة الهندسية التي كانت سائدة إبان الفترة المملوكية؛ إذ يضمّ المسجد مكتبة صغيرة تتضمّن أكثر من 200 كتاب متنوع، ومركز لتحفيظ القرآن الكريم، ومصلى للنساء، وغرفة يوجد بها ضريح الأمير الظفردمري".
اقرأ أيضاً: آثار نادرة في المعهد البابوي بالقدس لم تسلم من اعتداءات المستوطنين
وأكد أنّ "المسجد تعرض لتدمير شبه كامل، أتى على 80% من مساحته خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، صيف عام 2014؛ حيث تمّ تدمير الجزء الحديث من المسجد الذي تم تشييده خلال العام 2010، ويضمّ المكتبة والمئذنة وبعض الأعمدة والإيوانين الواقعين في الجهة الغربية من المسجد، والتي تمّ بناؤها من الطين والحجارة".
وأوضح الأفغاني؛ أّنه "خلال العام 2015، تمت إعادة ترميم المسجد على نفقة أهل الخير، مع مراعاة التفاصيل الهندسية الدقيقة عند إعادة بنائه كما كان قبل أكثر من 600 عام، على الطريقة المملوكية القديمة".
تدمير العديد من المساجد والكنائس
من جهته، يقول مدير عام الآثار والتراث الثقافي في وزارة السياحة والآثار بغزة، جمال أبو ريدة: إنّ "مسجد الظفردمري، أو وفق ما يعرف محلياً "القزمري"، أحد أهم المعالم الإسلامية والأثرية في حيّ الشجاعية خاصة، وقطاع غزة عامة، وهو يدل على الحقبة المملوكية في فلسطين".
مدير عام الآثار جمال أبو ريدة لـ"حفريات": الاحتلال الإسرائيلي لم يستهدف مسجد الظفردمري خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة، بل عمد إلى تدمير مساجد أخرى
وبيّن أبو ريدة، خلال حديثه لـ "حفريات"؛ أنّ "أهمّ ما يميز الفترة المملوكية في فلسطين كان الاهتمام ببناء المساجد والمدارس والقصور والحمامات والتكايا وبناء الخانات على الطرقات لخدمة القوافل التجارية، مع الاحتفاظ بسمات المدن العربية بطابعها الإسلامي، لتمييزها عن الحقب الأخرى، لتبقى آثارهم شاهدة على هذه الفترة المملوكية، والتي شهدت هزيمة التتار والصليبيين".
وأكّد أنّ "الاحتلال الإسرائيلي لم يستهدف مسجد الظفردمري خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة، عام 2014 فقط، بل عمد إلى تدمير مساجد أخرى، كمسجد المحكمة البردبكية، الذي تمّ إنشاؤه في العهد المملوكي أيضاً، وكذلك تصدّع مواقع أثرية أخرى نتيجة عمليات القصف؛ كالكنيسة البيزنطية في منطقة جباليا شمال القطاع، وتدمير السور الشرقي لكنيسة بيرفيوس، التابعة للروم الكاثوليك بمدينة غزة، وتصدّع مقام الخضر في دير البلح وسط القطاع، وهي اعتداءات يهدف من ورائها الاحتلال إلى تغيير الحقائق وتدمير الحضارات المتعاقبة على فلسطين".
اقرأ أيضاً: مطار غزة: من مهبط للطائرات إلى مضمار لسباق الخيول
وأوضح مدير عام الآثار والتراث الثقافي؛ أنّ "وزارتَي السياحة والآثار والأوقاف وضعتا مخططاً هندسياً لإعادة ترميم مسجد الظفردمري إلى هيئته، كما كانت عليه سابقاً، للمحافظة على طابعه المملوكي".
كنز تاريخي وأثري
ويرى المؤرخ والباحث الفلسطيني، سليم المبيض، خلال حديثه لـ "حفريات": أنّ "قطاع غزة مليء بالمواقع والمعالم الأثرية والتاريخية، نظراً لموقع القطاع الإستراتيجي الذي يعدّ البوابة الشمالية لقارة آسيا، والجنوبية لقارة أفريقيا، إضافة إلى كونه محطة للرومان والبيزنطيين والصليبيين القادمين من الجهة الشمالية، قبل توجههم إلى الجنوب نحو جمهورية مصر العربية، وشبه جزيرة سيناء".
وتابع المبيض: "غزة تتميز بتاريخها العريق؛ حيث أطلق عليها خليل الظاهري لقب (دهليز الملك)، كما أسماها نابليون بونابرت "بوابة آسيا ومدخل أفريقيا"، وأطلق عليها العرب لقب "غزة هاشم" نسبة إلى ضريح السيد هاشم، جدّ الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، كما شهد القطاع وقوع العديد من المعارك خلال الفترة البابلية والآشورية والفرعونية".
اقرأ أيضاً: جبل الأربعين في أريحا: على قمته صام المسيح وتعبّد
وذكر أنّ "حيّ الشجاعية يضمّ عدة مساجد أثرية على غرار مسجد الظفردمري؛ كمسجد عثمان بن عفان، ومسجد المحكمة البردبكية، وتلة المنطار، والتي ترتفع أكثر من 85 متراً عن سطح البحر، التي كانت تعدّ مركزاً ومعسكراً لجنود نابليون وعدد من الجيوش العربية أثناء حروبها آنذاك".
وأوضح الباحث الفلسطينيّ؛ أنّ "الكنز التاريخي والأثري الذي يتمتع به قطاع غزة، تحديداً في المنطقة التي تعرف بـ "غزة القديمة"، التي تمتدّ من "مسجد الشمعة جنوباً إلى مسجد السيد هاشم شمالاً ومن مقبرة الشيخ شعبان غرباً إلى مقبرة الشجاعية شرقاً"، مبيناً أنّ "المدينة جرى تشييدها على ركام مساجد وكنائس أثرية منذ آلاف السنوات".