عندما تمكّنت الطبقة البرجوازية من اكتساب وعيها بنفسها، فإنّها وبحسب هابرماس، شرعت في تبنّي مشروعها الذاتي، وتكوين موقفها الخاص تجاه السلطة، ولأنّها كانت أكثر طبقات المجتمع الأوروبي، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، قدرة على الانخراط في قضايا المجتمع، وقرباً من دوائر السلطة، نجحت في تأسيس قواعد عامة تخلّق من خلالها وتشكّل الفضاء العام، الذي اتسم في نظره بالطابع البرجوازي، وهو ما منح بدوره جملة من القضايا التي كانت محل اهتمام الطبقة، أهمية عن غيرها.
ويبدو أنّ إهمال هابرماس لفضاء الطبقة العاملة، يعود إلى الطبيعة الليبرالية للمجتمع الرأسمالي، وهو ما جعل للفضاء العام ذلك الإطار، الذي تضافرت من خـلاله عدة معطيـات، أدت إلى (بَرْجزة) قضايا المجتمع، ومن ثم منح مجموعة من الأفكار دون غيرها انتشاراً واسعاً، ما أفسح المجال لإشعال الثورة الفرنسية، وتموضع النظريات والطروحات الليبرالية، والانطلاق نحو الحداثة بكل معطياتها الرأسمالية.
إنّها الطبقة التي تجمع بين رأس المال والعمل وتتأرجح بين الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع وتتطلع للثورة وتخشى الفقر
البرجوازية الصغيرة وتبادل الأدوار الطبقيّة
على الجانب الآخر، كانت نواة البرجوازية المصرية أضعف من أن تؤسس طبقة مؤثرة، خاصة في مجتمع زراعي لم يستطع التحول إلى نمط الإنتاج الصناعي، وتحالفت فيه شريحة كبار الملاّك مع السلطة-أي سلطة- لخدمة مصالحها، دون أن تبلور موقفاً خاصاً تجاه قضايا المجتمع، ودون أن تكتسب وعياً معرفيّاً بوجودها. وحتى مع قيام المثقفين بتأسيس فضاء خاص عبر الصالونات الثقافية، والمؤسسات الصحافيّة، إلا أنّ تأثير هذا الفضاء كان محدوداً في دوائر مغلقة، بحيث لا يمكن إطلاق صفة الفضاء العمومي عليه، بحسب التوصيف الهابرماسي، بينما كانت طبقة الفلاحين، بوصفها تمثل السواد الأعظم، ترزح تحت أشكال مختلفة من الضغط الاقتصادي، وتمارس وفق وعيها المتردي دوراً محدوداً في أي حراك، ومع التحولات التي شهدها التركيب الطبقي التقليدي، بات واضحاً أنّ البرجوازية الصغيرة وحدها، هي الأكثر قدرة على التأثير، ودفع الأفكار من حيز التنظير، إلى مساحات واسعة من الانتشار، ومن ثم التطبيق.
استغل الإخوان البرجوازية الصغيرة بتوظيف أدواتها الإنتاجية وتدريجيّاً قضى تطور الجماعة الرأسمالي على الإنتاج الصغير
وبحسب المفكر الراحل فؤاد مرسي، فإنّ البرجوازية الصغيرة هي أقدم الطبقات الموجودة، وأكثرها تعقيداً من حيث التركيب، وتتكون من صغار المنتجين أو المنتجين العمال، وصغار الملّاك والحرفيين، وهي أكثر الطبقات عدداً وأوسعها نفوذاً، وأبعدها أثراً في أي مجتمع، من حيث وظيفتها الاجتماعية وقدرتها على إحداث التغيير، إبان حركات التحول الكبرى، نظراً لطبيعتها الثنائية، فهي وإن كانت طبقة برجوازية مالكة لوسائل إنتاج، وقد تستعين بقوة عمل تستأجرها، فإنّها من جانب آخر طبقة عاملة، تعمل بنفسها في أرضها أو متجرها أو ورشتها، "إنّها الطبقة التي تجمع بين رأس المال والعمل، الطبقة التي تتأرجح بين الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع، تتطلع للثورة وتخشى الفقر.. تفكر كما تفكر البرجوازية، لكنها تنطوي على أفكار عمالية".
اقرأ أيضاً: كيف فصل حسن البنا جماعته عن عموم المسلمين؟
هذه الطبقة التي وصفها لينين بأنّها "تناقض حي"، لديها إمكانيّة تحويل تناقضها إلى نموذج ومعيار مفارق، يصبح فيما بعد مثلاً أعلى للمجتمع، ومن خلال تبنيّها مواقف أيديولوجية، تتوهم القدرة على الإفلات من واقعها المؤسف، عبر جملة من الأفكار والقيم، تحاول بها صياغة عالمها المغلق، نظراً لطبيعتها المحافظة، فهي كما يقول فؤاد مرسي "من أكثر القوى الاجتماعية التي يلائمها المنطق الصوري، أو الميتافيزيقي الذي لا يتطلب سوى اتساق الفكر مع نفسه، اتساق المقدمات مع النتائج، اتساقاً يقع في الذهن عقلاً، بغض النظر عن وقوعه في الواقع فعلاً".
البرجوازية الصغيرة استقبلت أفكار البنا بتوهم القدرة على فض اشتباك حالة الارتباك الحاد بعلاقتها بالبرجوازية العليا
الإخوان واللعب على التناقض الطبقي
كانت البرجوازية الصغيرة بيئة طبيعية لظهور الأفكار الأيديولوجية المغلقة، المرتكزة على أسس دينية، وكانت جماعة الإخوان المسلمين أبرز تجليّاتها، فهي الطبقة التي ينتمي إليها المؤسس حسن البنا، وغالبية قيادات التنظيم.
يقول البنا في الرسائل: "توجب علينا روح الإسلام تشجيع الصناعات اليدوية المنزلية، وهذا هو باب التحول إلى الروح الصناعي والوضع الصناعي". ومن ثم، كانت البرجوازية الصغيرة هي الطبقة التي استقبلت أفكاره بنوع من توهم القدرة على فض الاشتباك الناتج عن حالة الارتباك الحاد في علاقتها بالبرجوازية العليا، وتوهم إمكانيّة تجاوزها بامتلاك الحقيقية الدينية المطلقة، كحلّ سحري للصراع الطبقي، يدفعها إلى ذلك ضغط البرجوازية العليا، والخوف من الطبقة العاملة.
اقرأ أيضاً: سيد قطب: القفز نحو المواقع الخطرة (3)
مع صعود جماعة الإخوان المسلمين اتبعت الجماعة نمطاً اقتصاديّاً يتسق وبنيتها الطبقيّة، من خلال مجموعة من المشروعات الصغيرة، مع الاهتمام بالصناعات الحرفية، وفي ظل النظام الرأسمالي أصبحت تجارة التجزئة حرفتها الأولى، وكان أبرز عملائها ممن ينتمون إلى البرجوازية العليا، حيث أصبحت البرجوازية الصغيرة مساهماً فعالاً في خلق فائض القيمة، ومع تطلعها للبرجوازية كمثل أعلى، شرعت جماعة الإخوان على المستوى النخبوي في إنجاز تحولها الطبقي، نحو البرجوازية العليا، والانخراط في السباق الرأسمالي بالسعي نحو امتلاك أدوات العمل والإنتاج ووسائل المعيشة، والعمال الذين يبيعون قوة عملهم.
مع صعود الجماعة اتبعت نمطاً اقتصاديّاً يتسق وبنيتها الطبقيّة عبر مجموعة من المشروعات الصغيرة مع الاهتمام بالصناعات الحرفية
ولا يبدي حسن البنا أي انزعاج من تضخم ثروة البرجوازية، فقط يبدي نوعاً من التحفظ على نظام الملكيات الزراعية الكبيرة، يقول حسن البنا في الرسائل: "توجب علينا روح الإسلام الحنيف وقواعده الأساسية في الاقتصاد القومي، أن نعيد النظر في نظام الملكيات، فنختصر الملكيات الكبيرة، ونعوض أصحابها عن حقهم.. ونشجع الملكيات الصغيرة". فهو يرى ضرورة تعويضهم عما يراه حقاً أصيلاً تقتضي طبيعة الاقتصاد القومي تقليمه، مع فتح المجال أمام نمو البرجوازية الصغيرة، كبيئة حاضنة للتنظيم، من خلال تشجيع الملكيات الصغيرة.
اقرأ أيضاً: أردوغان و"العثمانية الجديدة".. كيف أخفق المشروع التركي في الإقليم؟
وعليه، استغل الإخوان المسلمون البرجوازية الصغيرة، باستغلال طبيعتها الطبقيّة، وتوظيف أدواتها الإنتاجية، وتدريجيّاً قضى تطور الجماعة الرأسمالي على الإنتاج الصغير، لتدخل البرجوازية الصغيرة في نظام التبعية لشركات الإخوان الكبرى، وهو ما سقط بها إلى مصاف الطبقة العاملة، في ظل تضخم شركة المعاملات الإسلامية التي قام من خلالها حسن البنا بتأسيس نحو ست عشرة شركة وهيئة تجارية.
ومع امتلاك الجماعة لأدوات الإنتاج، شرعت في استغلال الطبقة العاملة المنضوية تحتها، وحشدها وظيفيّاً خلف مشروعها السياسي، ونفس الأمر تكرّر في الريف، عبر بقايا البرجوازية الصغيرة من صغار الملاك، الذين قاموا بحشد وتجييش الفلاحين، واستغلال حالة الفقر والعوز، لتحقيق أغراض انتخابيّة، سعيّا خلف وهم التمكين.