كيف أتقن الجيش الليبي قواعد اللعبة السياسية؟

كيف أتقن الجيش الليبي قواعد اللعبة السياسية؟


27/08/2020

لم يتصدّر الجيش الوطني الليبي الاتفاق "السياسي" الرامي نحو التهدئة، بإعلان وقف إطلاق النيران في ليبيا، والذي صدر على هيئة بيانين منفصلين متصلين في 22 آب (أغسطس) الجاري، الأوّل من قبل حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، والثاني من رئيس البرلمان الليبي المستشار عقيلة صالح.

اقرأ أيضاً: ليبيا: الحراك يتصاعد ضد حكومة الوفاق وبهذه الطريقة يواجه السراج المظاهرات

وعلى خلاف محاولات عدة سابقة للتهدئة أو الانخراط في مؤتمرات دولية ومشاورات، كان يلعب الدور السياسي فيها قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، فإنّ تراجع الرجل جزئياً عن المشهد، لصالح تصدير عقيلة صالح، كمفاوض سياسي من قاعدة سياسية راسخة "برلمان منتخب" لا يحمل دوره  لبساً أو مخاوف، يصبّ ليس فقط في صالح المسألة الليبية السياسية، ولكن بشكل أساسي في الحالة الدفاعية الصرفة التي لطالما غابت عن المشهد الليبي، حالة عسكرية تتحدث بالخرائط والتكتيكات على الأرض، وعقيدة وطنية لا تنغصها المفاوضات ولا تضعها في موضع مقامرات.

الجيش الوطني الليبي يبدو اليوم أكثر احترافية وقدرة على الفصل الناضج

الجيش الوطني الليبي إذاً، للمرّة الأولى، يبدو أكثر احترافية، وأكثر قدرة على الفصل بين ما يجب أن يتصدره، وما يُفضّل أن يصمت أمامه، حتى إذا كان صمته ليس إلّا لخلق مساحات جديدة، لا تنتقص من الواقع الفعلي على الأرض، بل على العكس تعزّزها.

إذاً، فإنّ مدة اليوم ونصف اليوم، التي فصلت بين إعلان البيانين وخروج الجيش الوطني الليبي عبر المتحدث اللواء، أحمد المسماري، معلقاً على الاتفاق، ومحذراً منه، على اعتباره محاولة للالتفاف من قبل تركيا والوفاق وخداعاً استراتيجياً يستبق النيّة لاقتحام سرت، حملت دليلاً إضافياً على نضج تلك الحالة العسكرية، التي لن تخرج كالسياسي متحدثة عن رفض لاتفاق ما لمجرّد أنه لا يحقق أهدافها أو أنها غير واثقة فيه، لكن كعسكري مدعوم بالخرائط يرصد التحركات التي تبرهن على أنّ الاتفاق ربما لا يتعدّى كونه "حبراً على ورق".

اقرأ أيضاً: الخروج من عباءة الممول: هل تقتدي قطر بتركيا في ليبيا؟

ومن ثمّ، فإنّ استمرار الاستنفار العسكري في مناطق تمركز الجيش حيث "سرت والجفرة"، وإعلان درجة الاستعداد القصوى لردّ أي عدوان، واستمرار عمليات الرصد الميداني والجوي لتحرك الميليشيات، عمل لا يمكن أن يتلقى عليه جيش وطني يعمل على حماية مؤسسات نفطية للدولة ومدعوم من قبائلها، أيّ لوم، فضلاً عن أنه دور "بديهي" لجيش الدولة، لا يخضع لحسابات الساسة.

اقرأ أيضاً: مرتزقة تركيا في ليبيا عقبة أمام الحلّ السياسيّ

وهكذا، فإنّ تواري الجيش جزئياً عن إعلان وقف إطلاق النار، جاء في صالحه وليس العكس، من جهة أبرز الواجهة السياسية الممثلة في المستشار عقيلة صالح، الذي برز دوره في جولات عديدة على مدار الشهور الماضية، ومن جهة أخرى أكد أنّ لليبيا جيشاً وطنياً متماسكاً، بعقيدة وطنية وعسكرية راسخة، ربّما للمرّة الأولى منذ سنوات.

وقد تفكك الجيش الليبي الذي تألف من المقربين من الرئيس الليبي السابق، معمر القذافي، عقب الثورة ضدّه في شباط (فبراير) العام 2011، لتتعمّق الحالة القبائلية والميليشية في ليبيا، حتى أعاد المشير خليفة حفتر ترتيب صفوفه، بأمر من البرلمان الليبي في العام 2014.

 عمّقت تركيبة الجيش من أبناء القبائل حالته الوطنية مقابل ميليشيات من الغرباء

وعمّقت تركيبة الجيش الليبي المكوّنة من أبناء القبائل حالته الوطنية، مقابل ميليشيات ومسلحين غير ليبيين يقاتلون على الجبهة الأخرى، غير أنّ معارك غير محسوبة أحياناً، ومفاوضات لا تكتمل، وتصدّراً للمشهد بخلط أثار حفيظة وقلق دول عدة غربية، وجعلها تقف موقفاً متذبذباً من دعم الجيش الوطني، أمور تجاوزها التقسيم الأخير للأدوار.

يقول الكاتب المصري المتخصّص في الشأن الليبي محمد أبو الفضل: إنّ غياب الجيش الليبي عن بيان وقف إطلاق النار، الصادر من عقيلة صالح، يعكس تقسيم الأدوار بينهما، متوقعاً أن يكون ذلك نتيجة ضغط بعض القوى الدولية، أو لاستجلاب الطمأنة من أنّ الجيش لا يسعى للعب أدوار سياسية في المستقبل.

وأضاف في حديثه لـ"حفريات": إنّ المدقق في بيانَي وقف إطلاق النار يلاحظ أنهما غير متطابقين، ويعكس طموحات كلّ جهة منهما، فقد أشارت حكومة الوفاق إلى جعل "سرت والجفرة" منطقة منزوعة السلاح، وهو طرح أمريكي مرفوض من قبل الجيش الوطني ومن قبل مصر، فيما ينصّ بيان صالح على إخراج الميليشيات المسلحة.

اقرأ أيضاً: يد الخمينية السوداء في ليبيا... لا جديد

وسُئل المسماري في مداخلة على قناة "العربية"، عقب إعلان وقف إطلاق النار عن موقفهم، وهل يرفضونه، فقال: الجيش لا يرفضه ولا يقبله، نحن نوقف النار   بالفعل منذ 6 حزيران (يونيو) الماضي، لكن هم يحشدون على أطراف سرت والجفرة، والإعلان مجرّد مراوغة من قبلهم، وفق ما تكشفه عمليات الرصد للجيش على الأرض، وجوّياً.

وناشد المسماري خلال المداخلة نفسها، قبل أيام، العسكريين في طرابلس للانضمام إلى الجيش الوطني، وإعلاء صالح ليبيا، قائلاً: لقد جلسنا معاً في القاهرة خلال مشاورات توحيد الجيش (آخر اجتماعاته في 18 تشرين الأول "أكتوبر" 2018)، واتفقنا على كل شيء، لكنّ الاختلاف جاء على اسم السراج، وتساءل: كيف يأتمر، بصفته عسكرياً، للسراج الذي وضع مقدرات ليبيا في يد تركيا؟

وتابع في مؤشر يبرز تلك "الحالة العسكرية الدفاعية المفلتة للسياسة" خلال الحديث عن مستقبل الحلّ بعد التأكيد على ضرورة إخراج الميليشيات المسلحة، قال: نحن ـ العسكريين ـ لا نجلس، القبائل الليبية تجلس لتحدّد مسار ليبيا، ولديها تجربة في ذلك العام 1951.

يتجه الجيش الوطني الليبي إلى تعديل مسار الصراع لإخراجه ممّا حاول السراج ترويجه على مدار شهور

وتأكيداً على تلك الحالة، قال المسماري في مداخلة متلفزة أخرى اليوم 26 آب (أغسطس) نشرها عبر صفحته على فيسبوك: "الأزمة ليست أزمة سياسية أو اقتصادية، ولكن أزمة أمنية تسبّبت في قتل وتشريد المواطنين، الشباب بدؤوا يتركون ليبيا في وضعية صعبة، وعلى الدول التي تتاجر بالدولة الليبية أن تلتفت لهذا، وأن تقف عن أفعالها، وعلى الليبيين الالتفاف حول ليبيا".

وهكذا، يتجه الجيش الوطني الليبي إلى تعديل مسار الصراع، لإخراجه ممّا حاول السراج ترويجه على مدار شهور من أطماع سياسية لدى قادة الجيش، إلى قضية وطنية تهدّد كيان الوطن ومفاهيمه بالأساس، وتصبح بموجبه المعادلة بين قوى وطنية تتألف من برلمان قادر على التفاوض سياسياً وجيش وطني مهمته الدفاع عن تراب الوطن، مقابل حكومة مستندة إلى اتفاق دولي انتهت مدته منذ سنوات، "الصخيرات"، وميليشيات مسلحة ومقاتلين مأجورين.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية