كأس عطشى بصحّة الحياة

كأس عطشى بصحّة الحياة

كأس عطشى بصحّة الحياة


21/05/2023

الزمن هو الزمن. لم يتغير شيء. نحن الذين تغيّرنا. تغيّرت نظرتنا إلى الحياة. أثقلت كواهلنا التكاليف والأعباء، وناء صبرنا بالتحمل. لنقل إننا فقدنا الدهشة، أو لنقل إنّ طريقة تعاطينا مع الأشياء صارت أكثر تعقيداً، وغدا تواصلنا مع "مباهج" الدنيا أكثر زهداً، وأقل تطلباً. ومضينا إلى التسليم وترديد مقولة العجايز: "ما ظل في العمر قَد ما مضى".

زمان كنا مدججين بالأحلام، ومتخففي الإحساس بالمسؤولية. وحتى المسؤوليات الجسام، التي نكبتنا الحياة بها، صغاراً، كنا تعامل معها كتحدٍ وإثبات رجولة وكمنصة للاختلاف، طامعين بلقب هذا "رجل"، وهذا "جدع"، وذلك "زغرت". كانت تلك الألقاب أول التشظي.

الزمن هو الزمن، ولو تغيّرت أحواله أو كيفياته. مركز الزمن هو الذي تحوّل، والمركز هاهنا إنما نحن، لا سوانا. خشنت أصواتنا، فخشنت مع الوقت مشاعرنا، واخشوشبت.

ليس في الأمر مدعاة للعزاء، إنما للتحديق، كي نعبر القنطرة إلى الضفة الأخرى سالمين. ولكل ضفته. وبعضهم قد لا يصل، وآخرون قد يصلوا متأخرين، ففي القنطرة تدور الدوائر، وتعصف المحن.

تعال حدّق في بئرك العميقة أيها الكائن. هل تلمح ماءً، تراباً، عناكب، أو هواء مالحاً. في تلك البئر يكمن زمنك، وترقد على حوافه ذكرياتك

بأية مرآة سترى وجهك عندما تمر بها الحوادث كلها، بحلوها ومرّها؟ ذلك سؤال الكشف وإماطة اللثام عن التردّد.

ثم هل يعرف كل كائن إجابة ذلك السؤال/ السر؟

هل يعرف الكائن، على وجه الدقة، ماذا يريد، ولماذا جاء، أو إلى أين سيذهب؟

إن كنت تدري بالإجابة، فعلامَ كل هذه الحيرة، هذا النزف، هذا الإعياء النفسي، هذا الهدير الأخرس الذي يتلجلج في الصدر فلا يغادره؟

الزمن كالأرض التي نقف عليها، لم يتغير. موطىء أقدامنا هو الذي تغير، ومع المشي الوئيد المترنح تغيرت مواطىء أرواحنا، وتشكلت قلوبنا وفق إيقاع اللحظة الخاطفة: كسبنا اللذة العابرة، وخسرنا الحب!

تعال حدّق في بئرك العميقة أيها الكائن. هل تلمح ماءً، تراباً، عناكب، أو هواء مالحاً. في تلك البئر يكمن زمنك، وترقد على حوافه ذكرياتك التي جفت، لأنك تركت البئر مهجورة ويتيمة، وأحكمت غطاءها بالسلاسل والمخاوف.

حلّ عقدة من قلبك، واركض نحو الآتي، ولا تلتفت للماضي الذي دفنته في تلك البئر. اعبر الراهن كقنطرة قصيرة. اعبره بلا رويّة، وتعلّق بالمركب الذاهب إلى غد، وعش اللحظة بكل عنفوانها، وارتشف آخر قطرة فيها، كأنك آخر الكائنات بقاء، كأنك ذاهب إلى موتك، مبتسماً بعد آخر طعنة نجلاء، ترنحت في إثرها كأسك المترعة بالعطش والتي رفعتها بصحة الحياة.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية