زكي رضا
التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي تشوّه وتوقّف بشكل شبه كامل بالعراق منذ بداية الحرب العراقية – الإيرانيّة واستمرّ بالانحدار طيلة فترتي الحصار والحروب التي خاضها البعث، لم يستعد عافيته بعد تغيّر المشهد السياسي نتيجة الاحتلال، بل استمر يتوسع أفقيّا وعموديّا بشكل لا عقلاني لينتج ثقافة غيبية ماضويّة مدمرّة تركت آثارها على مختلف جوانب الحياة بالبلاد وعلى رأسها الاقتصادية والاجتماعيّة.
لقد راهن الكثيرون على تغيير المشهد السياسي من خلال التيّار الصدري، وبشكل أدّق مقتدى الصدر كشخص فرد زعيم. على الرغم من أنّ التغيير في حاجة إلى مناخ سياسي يشارك فيه جميع العراقيين بوعي وليس بطاعة. ومن خلال مراقبة الصدر وتيّاره على مدى العقدين الماضيين، نستطيع الإشارة إلى فشل المراهنين على الصدر ومشروعه وجماهيره التي تعيش في منطقة اللاوعي، والذي هو بالحقيقة أي اللاوعي هو السمة الممّيزة لقطاعات واسعة من الشعب العراقي اليوم وهو يرزح تحت ثقل الدين/الطائفة.
العراق اليوم في حاجة إلى قوى سياسية تطرح بدائل واقعيّة لتغيير اللوحة السياسية، وليس إلى قوى تنتقد الواقع السياسي برفع شعارات أو بفعل سياسي غير مستمر وغير منظّم. إننا في حاجة اليوم إلى مشروع دولة مؤسسات حقيقيّة، دولة علمانيّة ديمقراطية لا تفصل الدين عن الدولة فقط بل تستمر في نفس المشروع لإبعاد المؤسسة الدينيّة عن التدخل بالشأن السياسي بالكامل. لماذا؟
بعد الأحداث الأخيرة ولعب الصدر على حبال السيرك السياسي العراقي كعادته، وصلت فقرات هذا السيرك إلى نهايتها التي كان الكثيرون يُغمضون عيونهم عن مشاهدتها، إمّا هروبا للأمام، وإمّا سذاجة سياسيّة غريبة فعلا!
لقد أنهى الصدر مشروع الإصلاح الذي كان يتاجر به واعتزل السياسة مرّة أخرى، لكنّه هذه المرّة لم يأمر أتباعه بالانسحاب من مناطق تواجدهم فقط، بل حرّم عليهم حتّى الاعتصامات والتظاهرات المطلبيّة، ونفّذ أتباعه قراره هذا على وجه السرعة!
لكنّ خطورة الأمر لا تأتي من نزواته هذه المرّة، ولا من انسحاب أتباعه ومناصريه بأوامر منه ليسقط مشروعه بالإصلاح والتغيير في مستنقع الفساد الذي ادّعى العمل على ردمه، بل من خطورة المشروع الإيراني الذي بدت ملامحه تتضح أكثر فأكثر بعد بيان المرجع الشيعي كاظم الحائري من قُم بإيران اعتزال العمل المرجعي، والطلب من مقلّديه تقليد ولي الفقيه والزعيم الإيراني علي خامنئي.
لقد تأسّست المرجعية الشيعية بعد وفاة السفراء الأربعة للإمام الغائب وفق المذهب الشيعي في بغداد العبّاسية سنة 1022 – 1023 على يد الشيخ المفيد، وانتقلت من بغداد إلى النجف بعد وفاته. وفي سنة 1055 – 1056 ولإبعاد المراجع الدينية الشيعية عن خطر الفتنة بعد الصراع بين البويهيين الشيعة الزيدية والسلاجقة الشافعيين الأشاعرة، أعاد محمّد بن الحسن الطوسي المعروف بـ”شيخ الطائفة” تأسيس المرجعيّة الشيعية في مدينة النجف، لتصبح المدينة مركزا دينيا يدرّس الفقه الإمامي.
واستمرت النجف في موقعها الريادي دون منافسة لما يقارب 850 عاما، حتى أسّس الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي حوزة دينيّة في مدينة قُم الإيرانيّة. وقد مالت حوزة قُم نحو السياسة أكثر بكثير من حوزة النجف التي استمرت بالتدريس والتنوير الديني، مكتفية بنصائحها السياسية كلمّا استدعى الأمر.
لقد عملت إيران ومنذ الاحتلال الأمريكي للعراق إلى اليوم على كسر هيمنة النجف كمركز علمي ديني لصالح قُم، ليس من أجل الدراسات الدينية والحوزية، بل من أجل الهيمنة على مقدرّات العراق وشعبه من خلال الولائيين المؤمنين بولاية الفقيه بنسخة الخميني. وفي هذه الحالة فإنّ إيران في حاجة إلى قوى سياسيّة تؤمن بمشروعها السياسي الطائفي، والى مقلّدين شيعة لرجال دين من خارج النجف، أي من قُم تحديدا.
لقد عمل الإيرانيون على هدفهم هذا بهدوء وصبر كبيرين مع مراقبتهم المستمرة للأوضاع السياسية في العراق كي لا تخرج عن السيطرة، ما يهدّد وضعهم الجيوسياسي كقادة لشيعة العالم وهم في حالة حصار وصراع مع القوى الغربية والإقليمية. وكانت الأحزاب والمنظمات الشيعية إحدى أدوات إيران لتصعيد المواقف السياسية كلمّا احتاجت لذلك، إلا أنّ الأمر المهم عندها هو أن تؤمن جماهير الشيعة بمبدأ ولاية الفقيه.
يعتبر المرجع الشيعي كاظم الحائري الأب الروحي لمقتدى الصدر وتيّاره، وقد أثار في قرار اعتزاله المفاجئ والغريب عن المراجع الشيعية الذين سبقوه، عددا من الأسئلة عن التوقيت والظروف السياسية المحيطة بقراره هذا ومنها وصاياه لمقلّديه وأهمّها تقليدهم لولي الفقيه علي خامنئي ليقول بواجب “إطاعة الولي قائد الثورة الإسلامية علي خامنئي”.
كما أوصى الصدريين قائلا “على أبناء الشهيدين الصدرين (قدّس الله سرّهما) أن يعرفوا أنّ حبّ الشهيدين لا يكفي ما لم يقترن الإيمان بنهجهما بالعمل الصالح والاتباع الحقيقيّ لأهدافهما التي ضحّيا بنفسيهما من أجلها، ولا يكفي مجرّد الادعاء أو الانتساب، ومن يسعى لتفريق أبناء الشعب والمذهب باسم الشهيدين الصدرين (رضوان الله تعالى عليهما)، أو يتصدّى للقيادة باسمهما وهو فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعيّة فهو – في الحقيقة – ليس صدريّاً”.
وكتكريس للميليشيات المسلّحة ودورها في التدخلات الإيرانيّة بالشأن العراقي وقمعها لأيّ حراك سلمي من القوى المتضررة من سياسات المحاصصة مستقبلا قال “أوصي جميع المؤمنين بحشدنا المقدّس ولا بدّ من دعمه وتأييده كقوّة مستقلّة غير مدمجة في سائر القوى، فإنّه الحصن الحصين واليد الضاربة والقوّة القاهرة للمتربّصين بأمن البلاد ومصالح أهلها إلى جانب باقي القوّات المسلّحة العراقيّة، كما بينّا ذلك وأكّدناه مراراً”.
وهذا يعني علنا منح الحشد بتشكيلاته الميليشياوية الفتوى لتكون اليد الضاربة لضرب كل من يتظاهر ضد الفساد، بعد أن حرّم مقتدى الصدر التظاهر السلمي على مريديه!
وعودة على الأسئلة التي طرحها اعتزال الحائري من التي تناولناها أعلاه، فإنّ الجواب الوحيد هو العمل على تهيئة الرأي العام العراقي لقبول وصاية إيران على العراق من خلال مبدأ ولاية الفقيه، وهذا ما فعله مقتدى الصدر من خلال أبيه الروحي، وسينفذه الإطار التنسيقي الشيعي وميليشياته تحت مسمى الحشد الشعبي.
عن "العرب" اللندنية