في هجاء الجماهير

في هجاء الجماهير

في هجاء الجماهير


18/06/2023

اذا كان غوبلز قال إنه كلما سمع بكلمة "مثقف" تحسّس مسدسه، فإنني كلما سمعتُ كلمة "جماهير" تحسستُ عقلي، وكأنما أخشى عليه من الانجراف وراء تلك المفردة الساحرة التي سلبت عقولنا، نحن الذي ابتلينا بالأيديولوجيا والولاءات القاتلة.

ولعل الوقت قد أزِف لإعادة نقد الجماهير، بل وهجائها، لكونها كتلة خدّاعة متغضّنة غير متجددة على نحو متماسك، فضلاً عن كونها نقاطاً بشرية شديدة الكثرة، لكنّها مثل القشة التي تذروها الرياح، ما يعني أنها غير راسخة، ونزّاعة إلى تحقيق مصالحها القريبة، وتغيير انتساباتها بين عشية وضحاها، دون تبصّر أو عمق نظر.

التلاعب بالجماهير صار الآن لعبة الميديا وأرباب السياسة المتخرّجين من معاهد الدهلزة، وأكاديميات الفبركة، اعتماداً على بيانات وإحصائيات تقرأ نفسية تلك الجماهير وتستبطن غرائزها، وتنسج القماشة التي تناسبها، وإن لم تناسبها جرى حشر أجساد تلك الجماهير داخل القماشة عنوة وإيهامها أنها مناسبة، ولسوف تصدق ذلك، وستروّج بأنها مناسبة، ومناسبة جداً وعلى المقاس المنشود.

إنه الظمأ للطاعة والخضوع: أعطني حفنة دولارات وخذ صوتي، أعطني منصباً وخذ حنجرتي، أعطني الوعد المُشتهى واحتسبني شهيداً في هزائمك

الجماهير هتفت لأعتى الطغاة في التاريخ، ثم خلعتهم، وجاءت بطغاة أشد بغياً، وأوهمت نفسها بأنها انتصرت. يقول الروائي الإنجليزي تيري براتشيت، تذكّر دائماً: الجماهير التي تصفق لتتويجك هي نفسها التي ستصفق لقطع رأسك، فالناس يحبون الفُرجة.

الجماهير تتنفس الوهم، وتلوك الأكاذيب. انظر إلى أية "انتخابات" في العالم العربي وراقب من تقترع له تلك الجماهير. إنها تأتي بالفاسدين وتجار المخدرات والأسلحة، وتجعلهم مشرّعين. إنها تفضل رابطة الدم على المبدأ، إنها تقتل بدم بارد كلّ ما تردده من أناشيد وعبارات مأثورة عن الحق والعدل والخير والحرية والنزاهة. فالشيء الذي يهيمن على روح الجماهير ليس الحاجة إلى الحرية وإنما إلى العبودية، ذلك أنّ ظمأها للطاعة يجعلها تخضع غرائزياً لمن يعلن أنه زعيمها، حسبما شخّص أحوالها على نحو بليغ عالم النفس الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه ذائع الصيت "سيكولوجية الجماهير".

نعم، إنه الظمأ للطاعة والخضوع: أعطني حفنة دولارات وخذ صوتي، أعطني منصباً وخذ حنجرتي، أعطني الوعد المُشتهى واحتسبني شهيداً في هزائمك، ولا تنسَ النياشين، وإلا بماذا سيتغنّى أحفاد الوهم؟!

أنهكتنا الجماهير. أنهكتنا الأهازيج والشعارات. وفتكت بأرواحنا تلك الكتل الصماء التي، كما قال لوبون، يتحرّر فيها الأبله والجاهل والحسود من الإحساس من دونيّتهم وعدم كفاءتهم وعجزهم، ويصبحون مجيّشين بقوة عنيفة وعابرة، ولكن هائلة".




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية